(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيَّنوا...) الحجرات، الآية 6. «لا بد لهذه الأمة من درس في التخريب» مظفر النواب -1- لا ريب في أن أبواب التاريخ العربي المعاصر قد انفتحت اليوم كما لم تنفتح من قبل، كيف لا والجماهير في الشوارع تبدو وكأنها أخيرا قد تولت قضيتها بيدها، ودونما إدارة سياسية من أي من قياداتها المعترف بها حتى الأمس القريب، بل كيف لا وقد لاحظنا ونلاحظ أن بعضا من أولئك الذين كانوا يقفلون عليها الأبواب هم الذين يشرعونها اليوم، وإن على مجاهيل، أقصد الغرب عموما وأمريكا خاصة! نحن في شروط أزمة، وهي، ككل أزمة، تعكس صراعا جديدا يتخلق بقديم يتشبث بمواقعه، وأحيانا بمواقفه أيضا، مع أن الشروط التاريخية تجاوزت مشروعية استمراره. إنها إذن «أزمة ثورية» موضوعيا، غير أنها حتى الآن تفتقر إلى الشرط الثاني: القابلة أو المولدة والحاضنة. انطلق التاريخ بعد كبت طال، ولكنه مفتوح على احتمالات، وليس على احتمال واحد، ذلك لأن الذي يصنع التاريخ، بله الثورة، هو الإنسان، وليس الإعلام والاتصال، تلكم وسائل ووسائط فقط، أما الاختيارات فتصنعها الاستراتيجيات السياسية والإرادات الاجتماعية.. وهذه حتى الآن معطوبة وتكاد تكون معطلة، بفضل قمع طال واختراق استفحل واستطال. إن الذي يناضل دون استراتيجية، يشتغل حتما وموضوعيا في خدمة استراتيجية غيره، وقد يكون هذا الغير عدوه بل وعدوه الألد أحيانا. الشروط الموضوعية للثورة أكثر من متوفرة وأكثر من ناضجة. ولكن الثوار في الشارع العام لا يجمعهم حتى الآن سوى «لام ألف». أما على مستوى البدائل والأولويات... فإنه لا حصر لعدد ولنوع ولدرجة التناقضات... التي تفرق في ما بينهم. وهم قبل اليوم وحتى اليوم، لا يجالسون بعضهم ولا يتحاورون حولها، مما يعني موضوعيا إمكانية سرقة ثمار الثورة من بين أيديهم، وذلك عندما تستهدف ذلك أية قوة منظمة، متجانسة، واعية بمصالحها، وذكية التدبير... هذه القوة قد تكون داخلية وقد تكون خارجية وقد تكون الاثنين معا في تحالف تليد أو طريف. ليس في الأمر جديد ومفاجئ على هذا المستوى في التاريخ المعاصر للعرب وللعالم. 1 في بداية القرن الماضي، وخلال الحرب العظمى الأولى، قامت «الثورة العربية الكبرى» كما سميت بذلك لاحقا، وكانت ذات طابع وطني وقومي، تحالف فيها مسلمو المشرق مع مسيحييه، وبدعم وتحالف مع أوربا الليبرالية، ضدا على دول المحور وضدا على الاستبداد العثماني... لم يكن المولود كاذبا (كما هو محتمل اليوم) بل شائها: اتفاقية سايكس-بيكو الإجرامية تقسيم المقسم (=الولايات العربية) / واصطناع «دول» لا مقومات لاستمرارها إلا بتبعيتها (=لبنان-الأردن-...) / وأخطر ذلك تهجير وطرد وتجميع اليهود في «غيتو» دولي، عبارة عن معسكر ثابت مكتف ذاتيا، على رأسه تجار حرب في صفة «رجال دولة»، ولا دولة، لأنه لا شعب هنالك بل فقط مجتمع من المرتزقة، وهذا نمط عريق في التاريخ البشري، وقع استدعاؤه من قبل «الحداثيين» للحاجة، وكم استرجع الاستعمار أساليب ومنطق أنظمة وإيديولوجيات قبلية أو إقطاعية أو حتى عبودية عتيقة وبالية من أجل خدمة أهدافه «الحديثة». نذكر، على سبيل المقارنة، أنه في المقابل، اختارت شعوب وقوميات أخرى النضال الديمقراطي في صيغة الحكم الذاتي، وذلك في إطار سوق أوسع سمح به نظام إمبراطوري إقطاعي كان موحدا على أسس إيديولوجية دينية، وكان المنتوج ما عرفناه (روسيا) ونعرفه اليوم عن الدولتين العتيدتين في الصين والهند بقومياتهما المتعددة. أما الثوار العرب، فلقد خسروا الأتراك ولم يربحوا أوربا. 2 في المغرب الحديث، ومنذ أواخر القرن ال19، التجأت الطبقة الوسطى المغربية إلى «حمايات» فردية من قبل الدول الرأسمالية الغربية، في مواجهة ظلم ومصادرات «المخزن». كانت النتيجة أن التجأ هذا الأخير إلى الدفع بالوطن جميعه نحو «الحماية» (=الاستعمار)، وخسرت الطبقة الوسطى من ذلك أكثر مما خسر الاستبداد الإقطاعي المخزني، ذلك لأنه وبتحالفه (=المخزن)، أو بالأحرى قبوله التبعية للأجنبي، أعاد إنتاج وجوده واستمراره، وحتى اليوم(؟!) 3 ومنذ ثلاثة عقود فقط وفي أوربا الشرقية، وباستثناء ألمانيا (لأنها كانت أساسا مطلبا وطنيا توحيديا)، فإن موجة ما سمي بالإصلاح انتهت إلى ما نعرفه: توقف التنمية المطردة، التفتيت الذي لم يتوقف بعد، سيادة المافيات أو ما يرتبط بها من فساد (تهريب الثروة، المخدرات، القمار، الدعارة المنظمة،... إلخ). وحدهم الشعبويون لا يطرحون على أنفسهم ولا على شعوب«هم» الأسئلة الحرجة، في ظاهر خطابهم، الشعوب مقدسة في عفويتها، وهي لا تخطئ إلا إذا كانت وراء قيادة حزبية أو نقابية مثقفة(؟!) هم ضد التنظيم وضد التأطير وضد الوعي. الشعبوي فوضوي إذن، ولذلك هو في العمق يخدم قضية أعدائه، ولذلك تسهل ملاحظة كيف أن الشعبوي سرعان ما تنتهي مواقفه إلى نقيضها، وتجده يحتقر الجماهير ويسبها، وينتهي ليجلس بين صفوف أعدائها، نكاية كما قد يدعي، وهو على كلٍّ لم يلتزم بشيء، ولم يلتزم مع أحد، فكيف يحاسب(؟!) إن قضيته في عمقها تجارة بالسياسة والثقافة، وانظروا أمامكم وانظروا جنبكم إلى أين انتهى بعضهم في الصحافة وفي ما يسمى ب«المجتمع المدني» مغربيا وعربيا. -2- واليوم، فإن الغرب الرأسمالي عموما، والأمريكي خاصة، يكاد لا يخفي اغتباطه بل وتدخله، في إثارة وتوجيه حوادث الأيام الراهنة. لقد دبر الأمر في وضح النهار وعلى المكشوف، وذلك على الأقل منذ تأسيس «الجزيرة» وشقائقها، فضلا عن: 1 عشرات المثقفين الذين اشتري ولاؤهم بالتعويضات المجزية في حضور المؤتمرات والندوات والمقابلات والجوائز... وتدبيج المقالات في الصحف إياها... ولقد ساهمت إمارات الخليج جميعا في هذا البرنامج. 2 إغراق السوق الثقافية (كتب، مجلات، صحف، قنوات، إذاعات،..) بفوضى لا حدود لها وتمييع للمبادئ وتشويه للمفاهيم ونشر لقيم الأنانية والوصولية والانتهازية والعدمية والشكلية واللاأدرية وتبخيس الذات واحتقار الوطنية والقومية والإيديولوجية (=المقصود القومية والاشتراكية) وخلط الحريات الديمقراطية بالحريات البورجوازية (الجنس، المخدرات، القمار،...إلخ) كل ذلك باسم «الحق في الاختلاف» ونهاية عصر الإيديولوجيات.. مع أن هذه هي أيضا إيديولوجية (؟!) ولكنها بئيسة. 3 مضايقة، وحتى تشطيب الميدان من جميع الهيئات السياسية والمؤسسات الثقافية وتفتيت النقابات والرموز.. المعارضة، أو على الأقل التشهير بهم وتحييدهم، إن لم ينفع شراؤهم أو قمعهم. والمفارقة المفجعة أن يتم تنفيذ ذلك من قبل نفس الإدارة السياسية والثقافية المستبدة والفاسدة التي يقع الارتداد عليها اليوم من قبل نفس الغرب الذي اصطنعها واحتضنها وحماها من معارضاتها. 4 تأسيس مبتكر لتنظيم نخبوي (=حزب) أمريكي.. عن طريق ما ينعت زورا في شروطنا ب«المجتمع المدني»، وهي عموما جمعيات حقوقية-إنسانية-تنموية.. وصحف، مؤطرة وممولة وموجهة... من قبل رأس قيادي مدبر ومنسق.. في الخارج، والأمر لم يعد سرا مكنونا، بل حركات سفر معلنة ولقاءات وتلقي مساعدات بالملايين وبما يتجاوز ميزانية الأحزاب والنقابات الوطنية نفسها، وضدا عليها وعلى حسابها طبعا. في المغرب، أضحى هذا الحزب يكافئ، في القوة الاجتماعية والثقافية، حزب فرنسا (الفرنكوفوني) وتنظيمات المخزن، وهو مثلها كذلك «سري» من شدة شفافيته، مثل الشمس، تلاحظ أثرها ولا تستطيع التحديق فيها، وهذه على كلٍّ بعض من «فضائل» القوة، وهي اليوم أمريكية، فهي لذلك تكشف عن أوراقها وعن نواياها دون خوف، وربما أيضا بدوافع الترهيب أو حتى الغرور والتبجح، وفي جميع الأحوال فمن يستطيع مصارحة الضبع بأن رائحة فمه كريهة (؟!). هذا الحزب يجد في النخبة طابورا خامسا لا بأس بعدده، سواء من المتوهمين أو الفاشلين علميا أو المتأسلمين أو المتساقطين من اليسار... فضلا عن بعض خريجي المعاهد الأمريكية والمستثمرين الجدد... ممن «يتعاقد» معهم على مصالح مشتركة أو متبادلة، تحول معها البعض إلى مستشرقين مغاربة أو حتى إلى محض تجار» وتحول معها «العلم» السياسي خاصة، والمجتمع المدني والصحافة... إلى سوق تجارية محمية، مربحة ومدرة... 5 تلكم ممهدات ووسائط، ولكن ما الدوافع؟ وما الأهداف؟ يتبع...