الإدارة السياسية للدولة، تتوهم أنها بانتهاج سياسة حسن النية، وفتح الحدود والأبواب، والتحالف مع الرأسمالية العالمية بدون حدود، ومسايرتها بدون قيود، ومسالمة الاستعمار الصهيوني والتطبيع معه... الخ تستطيع استئمانهم واستدرار تعاطفهم وتأييدهم، والحال أن الاستعمار الغربي لا يرى سوى مصالحه، وعندما تعطيه بدون شروط، يعتبر ذلك هدية لا تتطلب مقابلا يكافؤها، يستدرجك حتى تدخل معه اللعبة. وعندئذ يفاجؤك بتغيير قواعدها، وحين تصير مكبلا لأسواقه ولإستراتيجيته.. يتعامل معك كأسير أو حتى كعبد، أقصى ما يتنازل لك عنه، هو منحةُ تركك حيا منتجا لقوة العمل الرخيصة وللمخدرات وللعاهرات.. ومستهلكا لسلعه كلها بما فيها خاصة... «الثقافة».. إلى درجة المسخ، حين نلاحظ مثلا، كيف أن هواة الكرة في شبابنا، ينقسمون انقسام الإسبان بين البارصا ومدريد، فيا للمأساة ويا للمهزلة (؟!) تكاد لا تجتمع الجماهير في راهن ما يسمى ب«العولمة» إلا على كرة أو أغنية أو احتجاج على سياسة حكومية، وحدها جماهير الشعب المغربي تظاهرت (11/28 / 2010) دعما لإدارة دولتها في قضية هي أهم بالنسبة لها، منها بالنسبة للإدارة نفسها. وهذا ما يفسر استجابتها وحماستها بالرغم من إهمال الإدارة لها منذ التحرير الأول للجنوب مع مسيرة 1975 التاريخية. خمس وثلاثون عاما من الإهمال للشعب في قضيته المصيرية، بوهم أن التحالف مع الرأسمالية الغربية كفيل بالتعويض عن ذلك الاستغناء (؟!) أدى اليوم إلى حالة منذرة، سواء باعتبار الزمن المهدور أو باعتبار الأخطار المحدقة. 1 -حصادان إذا كان من قرائن سداد سياسة أو فسادها، هو التوفيق في التحديد الدقيق، وفي كل حين، لأطراف الصراع جميعا: الأعداء/ الأخصام/ الأصدقاء/ الحلفاء/ ومن يمكن تحييدهم... فلقد وقع الإخفاق على هذا المستوى. أ-ليست الرأسمالية الأمريكية ولا حتى الأوربية بالصديقة ولا الحليفة، في ما يخص علاقتها بمسألة الوحدة الترابية الوطنية. بل على النقيض من ذلك تماما. ومنذ «أقنعونا» بتسليم الملف إلى «مجلس الأمن» أي عمليا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وذلك في إطار مساومة خسرنا فيها ملفين معا وفي نفس الوقت. اتفاقية عزل مصر عن جبهة التحرير العربية لفلسطينالمحتلة (كامب داوود). ورهن مصير الوحدة الترابية بإرادة ومصالح الامبريالية الأمريكية. أما بالنسبة لأوربا، فإن رأسماليتها لم تتحرر بعد من ذاكرتها الاستعمارية التقليدية الموروثة، فضلا عن المستحدثة. إنها لا تزال بعد إمبريالية، وتلتقي في ذلك، رغم التناقضات الاستعمارية، مع الامبريالية الأمريكية. وذلك خاصة في تصدير أزماتهما وتناقضاتهما نحو العالم الخارج عنهما، ومن أهم نتائج ذلك، تفقير دول الجنوب، خاصة عن طريق تفكيكها واصطناع الحروب بجميع أنواعها في صفوف شعوبها وبين إدارات دولها، وذلك فضلا عن آليات تصدير الأزمات والاستضعاف... الأخرى المعروفة (الربا الفاحش-التبادل غير المتكافئ-سرقة الكفاءات-تصدير الفساد بجميع أنواعه-الهجوم الثقافي والإعلامي والتربوي على الهويات الوطنية والقومية...). الأهم من ذلك والأخطر، أن الفشل (أو الإفشال) الأوربي في توحيد إراداتهم السياسية، يسمح لغريمهم الأمريكي أن يشتغل على تناقضات إدارات دولهم، وأن يوظفها لخدمة إستراتيجيته الدولية في غير ما منطقة من العالم. بما في ذلك الشمال الإفريقي، ولا أستبعد لذلك، أن تكون لأصابع المخابرات الأمريكية، دورا ما في ما حدث من «انقلاب» على الحليف المغربي في الاتحاد البرلماني الأوربي، بواسطة أقلية، نعم، ولكنها فاعلة ومنظمة وماهرة في تدبير الخديعة، و»الحرب خدعة». أما اسبانيا، دولة ومجتمعا، فطابعها الاستعماري الموروث والمستمر، صريح في المدينتين والجزر المغربية، وهي، مع إسرائيل، تعتبر آخر استعمار تقليدي على وجه المعمور. أما يمينها بما فيه الكنسي، (حتى لا أقول الديني) فهو أشد تخلفا وحقارة في حقده وتآمره على المغرب والمغاربة، وذلك منذ وضعت معركة «وادي المخازن» حدا لتطلعاتهم الإمبراطورية، بل وأخرجتهم من خريطة الدول الكبرى في المرحلة وما بعدها. ثم الهزيمة النكراء والمهينة لجيوشهم الاستعمارية في حرب التحرير المنعوتة خطأ ب»الريفية» بقيادة الأمير المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي. الجزائر الرسمية «الشقيقة» لا تحتفظ في ذاكرتها الحديثة، سوى بما تركته لها في الأرشيف، الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ذات النزوع التهميشي والتوسعي على حساب المغرب، ولقد تمكنت من إنجاز الكثير منه، والبقية يحاوله تلامذة مدرستها، للأسف هنا وهنالك. الامبرياليات اليوم، وبالرغم من تناقضاتها، وربما بسبب منها أيضا، تستهدف دول الجنوب جميعا واستضعافها إن ب: 1-إلغائها أصلا (=الدولة)، وترك المجال الوطني لما يسمونه ب»الفوضى الخلاقة» أي اللانظام واللادولة كما هي حالة الصومال اليوم مثلا. 2-اصطناع الحروب الأهلية داخلها، أو حروب الحدود فيما بينها، والنموذج اللبناني ثم الفلسطيني والإفريقي المعمم على جميعها تقريبا، واضح وشهيد. 3-تفكيكها إلى دويلات لا حول لها ولا قوة لضمان الاستقلال الوطني، ناهيك بالسيادة. مهمتها فقط، توفير الأمن لا حماية الحدود. (يوغسلافيا انتهت إلى عشرين كيان) شرطتها أكثر عددا وعتادا من جيوشها. والخطر لذلك يتهدد الجميع. والألغام في جميعها موقوتة لوقتها الملائم، وأحيانا حتى، غير موقوتة. 4-العودة القهقرى، وعند الحاجة، إلى النمط التقليدي لاستعمار القرن 19 . أي احتلال الأرض والسيطرة على الإدارة جميعا (ترابية-اقتصادية-اجتماعية-تربوية... وحتى دينية) كما حدث ويحدث حاليا في النمط العراقي والأفغاني... 5-التجزئ الترابي والفصل الشعبي، للكيانات الوطنية القائمة، والتي توهمت أنها حققت الاستقلال والوحدة الوطنيين، وفصل لذلك حكامها ارتباطهم مع شعوبهم، لخدمة تحالفات مشبوهة وغير متكافئة مع الرأسمال الأجنبي. كخديم له ووسيط...، مع السوق والمصالح الوطنية. وهذه كانت حالة تيمور الشرقية سابقا، وجنوب السودان راهنا والمغرب استقبالا. أما الحصاد الثاني، فهو الفشل الاستراتيجي للإدارة المغربية. والتي احتكرت الملف على حساب الجميع. وانتهت بنا إلى ما انتهينا إليه من مفاجأة لابد ستعقبها مفاجئات، إن لم نستدرك الزمن الضائع، ونراجع إستراتيجيتنا، ونعود إلى شعبنا عودة كاملة ونهائية. لم أكن يوما مع خطاب بعض أنواع المعارضة، والتي تتحدث في موضوع الصحراء عن الحاجة إلى الشفافية والوضوح... ذلك هو اختصاص سلطات التنفيذ. أما حقوق الشعب وقواه القائدة، فتتصل بنقاش الإستراتيجية. وهذا بالذات، ما نحن بصدد إعادة طرحه ونقاشه اليوم. الذين يقفون اليوم، في نقاش الأزمة، عند قضايا التدبير الإداري للملف، يستبطنون ضمنيا في تفكيرهم وفي خطابهم، المصادقة على الاستراتيجية الإدارية المعتمدة، والحال أن المعضلة توجد حصرا في هذه الأخيرة لا بالأحرى في الوسائط التدبيرية لها، بل إنني أستطيع المجازفة بالقول، إن الإدارة المغربية على هذا الصعيد، بما فيها الترابية والاستخبارية... كانت موفقة غالبا، العطب لا يوجد هنا إذن، بل في السياسة العليا، وهي ما تجب مراجعته، ومراجعة عواقبه بشكل جذري وشامل. وإلا فعلينا، لا قدر الله، أن ننتظر تراكم الكوارث. 2 - إعلان الحرب: إنها حرب إذن، غير أنها لم تكن معلنة من قبل الأعداء الذين تلبسوا في لبوس أصدقاء وحلفاء، وما هم كذلك موضوعيا ومصلحيا، حتى ولو رغبوا أو أرادوا. في هذا الصدد يجب التذكير والتنبيه إلى الكمين في الذاكرة التاريخية الغربية وأيضا إلى الخلفيات الفكرية-الإستراتيجية لمؤسسات التفكير والتقرير لديهم، إنهم يؤسسون سياساتهم على المواقع والشروط الموضوعية للجغرافيات (الطبيعية-الاقتصادية-البشرية-الثقافية والسياسية...) ذات الطبيعة المستمرة... للأوطان وللشعوب، أكثر مما يبنونها على الأنظمة السياسية السائدة، أو خصوصيات أشخاص ورموز سلطات الحكم فيها. ذلك لأنها مؤقتة وعابرة في نهاية أي تحليل. المؤكد لديهم بالنسبة لنا هو: أ-الموقع الجغرافي الخاص والمتميز للشمال الإفريقي، والمغرب الأقصى فيه مركزي الحضور والتأثير تاريخيا. ومن يفتح كتاب التاريخ سيتأكد من ذلك. ب-شعب هذه المنطقة رحالة مهاجر، وإدارات دوله تتبع أبدا مسارات مهاجريها شمالا أو شرقا أو جنوبا، وليست كذلك الحالة الأنثربولوجية لأغلبية شعوب الأرض، بما في ذلك العريقة منها كالصين ومصر مثلا. ت-لهذا الشعب تاريخ عريق وذاكرة حية توحده، تراقبه، تمنِّعه وتحفزه... وهو أمر حاضر ماديا في العديد من الآثار الماثلة عيانا، حتى لو حاولوا تخريبها، في التعليم وفي الإعلام وفي الحياة العامة. ولا أحتاج لذكر الرموز والأحداث المتميزة للمغرب وللمغاربة في التاريخ الإنساني.. (الإهمال، بل التخريب «المقصود» لضريح القائد التاريخي العظيم يوسف بن تاشفين، تزلفا ومسكنة تجاه السائح الغربي). الإدارة السياسية للدولة، تتوهم أنها بانتهاج سياسة حسن النية، وفتح الحدود والأبواب، والتحالف مع الرأسمالية العالمية بدون حدود، ومسايرتها بدون قيود، ومسالمة الاستعمار الصهيوني والتطبيع معه... الخ تستطيع استئمانهم واستدرار تعاطفهم وتأييدهم، والحال أن الاستعمار الغربي لا يرى سوى مصالحه، وعندما تعطيه بدون شروط، يعتبر ذلك هدية لا تتطلب مقابلا يكافؤها، يستدرجك حتى تدخل معه اللعبة. وعندئذ يفاجؤك بتغيير قواعدها، وحين تصير مكبلا لأسواقه ولإستراتيجيته.. يتعامل معك كأسير أو حتى كعبد، أقصى ما يتنازل لك عنه، هو منحةُ تركك حيا منتجا لقوة العمل الرخيصة وللمخدرات وللعاهرات.. ومستهلكا لسلعه كلها بما فيها خاصة... «الثقافة».. إلى درجة المسخ، حين نلاحظ مثلا، كيف أن هواة الكرة في شبابنا، ينقسمون انقسام الإسبان بين البارصا ومدريد، فيا للمأساة ويا للمهزلة (؟!) (في الكوريتين، وحتى لا نأتي بأمثلة أبعد عن نماذج حكامنا، يستحيل على التاجر أو المستهلك فيهما استعمال سلعة يابانية، إلى حين اعتذارها عن احتلالها لهم، والإجراءات لذلك جارية حاليا). ما نحتاج إليه باستعجال هو بعث الأخلاق والثقافة الوطنيتين، تلك التي أتت بالاستقلال عندما توفرت، ونضيعه اليوم تدريجيا، بضياعها التدريجي، في التعليم والمسجد والإعلام والحياة العامة في الشارع وفي الأسرة... الخ وما نحتاج إليه أكثر، هو إعلان الحرب من جهتنا كذلك. إدارة الحرب واقتصاد ومجتمع الحرب ونفسية المحاربين لدى الشبيبة... لا المخدرين بالأحرى كما هو حالهم راهنا (والتخدير أنواع شتى). وهذا يقتضي استعجال العودة إلى التجنيد الإجباري، والذي اعتبر الاستغناء عنه بمثابة مؤامرة سياسية كبرى ضدا على الشعب المغربي وإدارة دولته ومصيره (؟!). معركة استكمال الوحدة الترابية، لا تختلف في شروطها وقوانينها عن معركة التحرر والتحرير الوطنية. تتطلب أول ما تتطلبه، توحيد الجبهة الوطنية بجميع طبقاتها وجهاتها وتياراتها الإيديولوجية، لا يخرج منها إلا العملاء (ذاتيا أو موضوعيا) للأجنبي كيفما كان. وذلك يقتضي ضرورة توفير قيمة إضافية لترسيخها، هي تعميق التضامن مع الفئات والطبقات الأكثر حرمانا، وخصوصا في الضفة المهددة بالفصل، إنه الدرس الأهم في تجربة التوحيد الأمريكية، حيث انتبه الرئيس لنكولن، إلى أن تحرير العبيد يعتبر شرطا لانخراطهم في معركة الوحدة الترابية بين الشمال الأمريكي وجنوبه الانفصالي، إن العبد كما قال عنترة «لا يحسن الكر والفر» وما دام في مجتمعنا عبيد للحاجة والفقر والتعطل والمرض والعشوائيات والأمية والفساد والإهانة... الخ فإن أعداءنا سيطمعون في استغلال كل ذلك، وتوظيفه في حرب الاستنزاف والإنهاك، وتعميق ثم تفجير التناقضات الداخلية الموضوعية منها والمصطنعة سيان. 3 - حصان طروادة: ويمكن أيضا وصفه بالطابور الخامس، وأقصد أولئك الذين ترتبط مصالحهم وعلاقاتهم بقوى خارجية أكثر منها بالوطن وبشعب الوطن ومجتمعه، وأخطر أولئك، المبثوثون في دواليب الإدارة بمختلف مجالات تدبيرها. عندما ثار المولى عبد الحفيظ على أخيه الملك ع. العزيز، وذلك بدعوى توريطه الدولة في مسار الاحتلال، لم ينتبه إلا متأخرا، إلى أن الاحتلال كان قد اخترق المجتمع عن طريق اصطناعه لبورجوازية وسيطة تابعة ومحمية من دول استعمارية مختلفة. وعندما طلب منهم التعبئة لسد ذريعة الاحتلال وذلك بإرجاع الديون، اعتذروا، ذلك لأنهم كانوا أرغب في دخوله (الاستعمار) منهم إلى حماية استقلال الدولة وسيادتها. تلكم هي مصلحتهم، وبالتالي إيديولوجيتهم وسياستهم. المولى عبد الحفيظ لم يستنتج حينها حاجة إدارة الدولة إلى إعادة الرجوع إلى الشعب للإنقاذ. كما صنع لاحقا محمد الخامس (1953) والحسن الثاني (1975) واليوم (مظاهرة البيضاء المجيدة)، بل قال: إذا كانت الحماية امتيازا بالنسبة للبعض، فلماذا لا نعممها على الجميع، فوقع عقدها (1912) الذي لم يكن سوى توقيع انتحار مأساوي، له شخصيا ولتفكيره السياسي ولنظام الحكم وللدولة وللشعب المغربي جميعا.. دفعنا جراءه آلاف الأرواح والتخريب والفتنة والمنافي (له هو نفسه) والسجون والاستغلال والتفقير والإذلال والتهجير والأخطر ضياع الزمن وتشويه الشخصية الوطنية (الهوية) ما أشبه اليوم بالبارحة، واليوم، لكأننا نعيد الكرة ونستنسخ التجربة، ذلك لأن من لا يضع تاريخه موضع النقد والتمحيص والمراجعة، لا يأمن تكراره. والفرق، أن الحالة الأولى تكون مأساة وتكرارها يكون مهزلة. فهل نحن مهددون بهذا؟ أخاف ذلك، إن نفس المقدمات، تنتج ذات العواقب. في مجتمعنا اليوم طوابير للأجنبي وليس وحسب طابورا واحدا. وفي هذا الصدد، فإن هذا التحليل لا تهمه النوايا بحال، فهي من طبيعة إيديولوجية، بمعنى أنها غالبا خادعة متلبسة ومتقنعة، توهم ضحيتها بأوهام في وعيه، تتناقض مع حقيقة ممارساته الفعلية... وإذا لم تفعل، فإنها لن تكون إيديولوجية، «إن الطريق إلى جهنم، كما يقول المثل الفرنسي، مفروشة بالنوايا الطيبة» لا تهمنا هنا النوايا، فأغلبها طيبة، وتعتقد المنحرفة منها وهما، أنها وطنية وما هي كذلك. تهمنا الأفعال والممارسات وعواقبها، وأيَّ سياسة إستراتيجية تخدم: وطنية حقا، أم أجنبية استعمارية؟! 1-جميع الذين ينهجون نهج الفوضى «الخلاقة»، للفتنة، والمعتمدة من قبل الخارجية الأمريكية، يشتغلون موضوعيا ضمن جدول العمل الرأسمالي الاستعماري. يطرحون جميع المشكلات بدون أولويات، وفي نفس الوقت. قضيتان رئيسيتان ومركزيتان ومترابطتان للمغرب الحديث والمعاصر: استكمال الوحدة الترابية للمملكة، وتحقيق الانتقال السلمي والتوافقي (الذي لا يلغي الصراع بالضرورة) نحو الديمقراطية.. وغير ذلك غير ملغي.. ولكن حله مرهون أساسا بحل ذينك. 2-إن الذين يفجرون التناقضات الداخلية، ويقدمونها على التناقض الرئيس مع العدو الاستعماري الوطني (اسبانيا) أو القومي (أمريكا) مخطئون، لا حداثة بدون سيادة وطنية، ولا سيادة بدون استقلال، ولا استقلال بدون وحدة ترابية. وهذه الأخيرة، تشترط وحدة شعبية، وتعبئة شعبية، لا توفرها غير الديمقراطية، المفتوحة شرطا على جميع المواطنين الوطنيين. لا يجوز بحال أن نقيس الموقف من التيارات الإيديولوجية، بمقياس «حداثة» متوهمة. بل فقط وأساسا بمدى قربها أو بعدها من الوطن والوطنية. صراعاتنا الإيديولوجية والسياسية الداخلية خصومات لا عداوات. وهذه تحل بالحوار والإقناع والاشراك... لا بالقمع والسجن وتشريع قوانين الإرهاب والتضييق على الحريات، وخاصة منها حريات الرأي والحق في التعبير عنه بالدعوة السلمية. ولا يخرج عن جميع ذلك بحال، دعاة الفتنة اللغوية (الثقافية في الحقيقة) الفرنكوفونية وشقائقها وأبنائها... ودعاة.. «التنوع».. الثقافي.. ثقافتنا اليوم يجب أن تستمر وطنية متعددة بالأحرى، لا متنوعة، نضبط، إلى حين، اختلافاتها (=صراعها) الطبقية والجهوية واللغوية... ونحافظ على مساهمة اللحمة الدينية... ولا يتناقض هذا، بل بالعكس، مع الحاجة إلى إصلاح جميع ذلك: الدين، الثقافة، اللغة... فضلا عن تأهيل وإصلاح إدارة الدولة وإدارات المجتمع الحزبية والنقابية... وغيرها. 3-»من غشنا فليس منا» بل هو موضوعيا، وقد يكون أيضا إراديا، مع العدو، وأشكال الغش وأنواع الغشاشين في المغرب الراهن.. لا حصر لعددها وعددهم، تقتصر من ذلك على أمثلة: أ-تجار المخدرات، الذين يفسدون الشبيبة المغربية، بالأخص منها تلك التي ينتظر منها أن ترث الثروة والسلطة، فيحكمون بالإحباط والفشل مسبقا على مصيرها ومصير وطنها (التلاميذ والطلبة عموما، وفي مدارس البعثات خاصة). ب-فاسدو ومفسدو القضاء والإدارة العمومية، أولئك المرتشون وناهبو الأموال العامة والمهينون للمواطنين والقامعون للحقوق... والمزورون للانتخابات والتجار في الدبلوماسية الخارجية... والذين يمنعون الطلبة المغاربة من توحيد إراداتهم النقابية وتفعيلها... الخ. والحال أن القمع والحصار يساهمان في حالات انحرافها، لا تقويمها... ت-المستثمرون الذين لا يحترمون قوانين الشغل ولا يضمنون حقوق الطبقة العاملة المتهربون أو الغشاشون في الضرائب/ والسفهاء في الاستهلاك/ والمهربون للأموال... الخ. 4-الكثير من الأشخاص في ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني، والتي تشتغل خاصة في إطار جداول أعمال الدول الرأسمالية أو منظماتها «الدولية» الموازية وبتأطير وتمويل منها. وعيهم يعتبر مقلوبا في الكثير من الحالات. وأخطر ذلك عدم وعيهم أن استقلالية وحرية... أي مجتمع مدني مرتبطان باستقلالية وتحرر الدولة أولا، وشرط حرية وحقوق الإنسان مثلا، هو حرية وحقوق الأوطان، وإلا فهل يتصور أحد اليوم أن يتقدم هذا الخطاب الحقوقي في فلسطينالمحتلة أو العراق... دون اعتبار إستراتيجية النضال من أجل الاستقلال الوطني أولا وأساسا، لا يعني ذلك طبعا عدم التكامل بين النضالين الوطني والحقوقي بل بالعكس. شرط وعي ذلك ومراعاته عند الممارسة، والاستقلال بالحركة عن جدول عمل وتمويلات الخارج المغرضة والمفسدة... غالبا. 5-ثمة أيضا من يقدم خدمات ومعلومات للأجنبي، دون أن يحس غضاضة في ذلك. مع أنه، بالنسبة لهذا الأخير، يعتبر عميلا مغفلا، أو متواطئا على الاستغفال المتبادل، فقط هنالك دعوة عشاء مثلا، من قبل ملحق سفارة، ويمرر الكثير، أو دعوة زيارة أو امتيازات، وما أكثرها، بما في ذلك الجوائز والمشاركة في الندوات والملتقيات وما شابه... فيحصل أيضا الكثير بحسن نية، ذلك لأن الحذر الوطني ضعيف و»العدمية الوطنية» عامة، والتبريرات «العولمية» متوفرة.. 4 -الوطنية والديمقراطية: كلا المفهومين منتوج العصر الحديث، بالتالي وليدا نشأة وبروز الشعوب والدول المركزية الحديثة، على حساب الدولة الإمبراطورية أو الأميرية أو الدينية، وعلى حساب مجتمعات العشائر والقبائل والطوائف والعائلات... التقليدية. غير أن تلازم حضورهما وتعاقبهما، مشروط اجتماعيا وإيديولوجيا، ومن ذلك، أننا قد نتصور نظريا ونلاحظ تاريخيا وواقعيا، أن الوطنية لا تشترط الديمقراطية ضرورة، فكثير من الوطنيين، والعديد من الإيديولوجيات الوطنية، لم تكن ديمقراطية بحال، ومع ذلك يصعب التشكيك في وطنيتها، بل وفي «وثنيتها» كما كان يعبر المرحوم الحسن الثاني، بمعنى تعصبها الشديد للوطن إلى حد التطرف، كما قد نلاحظ ذلك في أنظمة الديكتاتورية الأوربية (النازية-الفاشية... الخ) أو الكثير من الأنظمة، أو حتى المقاومات العربية المناضلة، والأسماء والحركات لا حصر لعددها في هذا المنحى. غير أن الديمقراطي والديمقراطية.. لا يتصوران بدون الوطن والوطنية. ذلك لأنها تشترط وجود وطن أولا ومستقل ثانيا وذا سيادة ثالثا، وإلا فإنها مستحيلة وقبض ريح. وجميع الذين حاولوا ذلك، إن في الماضي القريب (بلحسن الوزاني والكثير من الشيوعيين الأوربيين والعرب في المرحلة الاستعمارية) أو في الحاضر المعيش (شيوعيو العراق مثلا) انتهوا إلى الفشل الذريع. وفي الأسوء إلى العمالة الموضوعية أو حتى الخزي والخيانة الإرادية. وأيضا فإن الدين ومؤسساته، بعد إصلاحهما، (أقصد فصلهما عن إدارة الدولة وربطهما إلى أصحابه في المجتمع) يستطيع أن ينجز الكثير في هذا الصدد، والدليل ما حدث على يد الطبقة الوسطى العربية، ورواد فكرها الليبرالي من السلفيين. الأمر الذي ساهم أقوى مساهمة في تعبئة الشعب وتأطيره وتنظيمه، إلى حين رجوع ملك البلاد (1955) والحصول على الشطر الأول من الاستقلال. في الدين عموما، وفي الإسلام خاصة يعتبر «حب الأوطان من الإيمان» وذلك مثل: النظافة وحب العمل والنظام والانتظام والاجتهاد والتضامن الاجتماعي والادخار ومحاربة الاستهلاك السفيه والتضحية ومحاربة الفساد والغش والمخدرات... الخ أي جميع ما نحن في حاجة إليه اليوم، من أجل تكريس الوحدة الترابية للوطن، ومن أجل التنمية البشرية، ومن أجل النهضة المجتمعية، ومن أجل التقدم وملاحقة الحداثة وما بعد الحداثة... الذين يدفعون بنا نحو التخلص من التدين، وأحرى معاداته، يستهدفون حرماننا من سلاح، هم أكثر من يعرف مضاءه وأهميته في تجربة نهضتهم الاقتصادية، وتقدمهم المجتمعي-الثقافي، منذ لوثر والطهريين وحتى فلاسفة عصر الأنوار، وما تلاه. فضلا عن ذلك، فلقد تأكد ميدانيا، أن الدين يستطيع، وأكثر من غيره، إنجاز مهمة التوطين بالنسبة للقبائل الرحل، والحال أن بعدا من أهم الأبعاد الانثروبولوجية لقضية الصحراء، يكمن هنا أيضا ( التوطين). (يتبع)