في ذلك اليوم، وبعد أن تأكد المتهم من أن بعض العيون تترصده، توجه مباشرة صوب دراجته النارية، وبسرعة جنونية انطلق صوب غابة مجاورة بالمنطقة، دون أن يدري أن اثنين من مطارديه تعقباه على متن دراجة نارية من الحجم الكبير إلى غاية حاجز كثبان الرمال الكثيفة بمدخل الغابة، حيث تمكن مطارداه من اللحاق به والاقتراب منه وضربه بعصا غليظة أفقدته توازنه ولم تترك له فرصة للفرار من قبضة مطارديه، سقط بعدها الجاني فوق الرمال دون حراك والدماء تتدفق من رأسه. «بومنجل» هو اللقب الذي بقي راسخا في أذهان جل الضحايا، الذين تعرض جلهم لضربات بمنجل صغير، كان بمثابة أداة الجريمة الرئيسية التي كان ينفذ بها المتهم اعتداءاته على ضحاياه الذين كان يختارهم بعناية فائقة، ووفق معايير دقيقة تفاديا لكل ما من شأنه أن يسقطه في مقاومة ضحيته، فأغلب ضحاياه من كبار السن أو من ذوي البنية الجسمانية الضعيفة، فبعد أن يتناول الجاني كمية من المخدرات والمسكرات، يمتطي دراجته النارية واضعا نظارته السوداء على عينيه، وآلة تسجيل صغيرة لا تفارق أدنيه، قبل أن يأخذ وقته الكافي متربصا في أماكن خالية في انتظار قدوم صيد ثمين. ضحايا واستنفار أمني كان الجاني ينفذ اعتداءاته بسرعة البرق، ويقصد ضحاياه بشكل مباشر شاهرا في وجههم منجله ويعتديا عليهم قبل أن يسلبهم ما بحوزتهم من أغراض شخصية ومبالغ مالية، فبومنجل كان لا يحبذ سرقة أي ضحية دون ان يعرضها للتعنيف، حسب ما أكد معظم ضحاياه ممن تعرضوا لاعتداءاته بهذه الطريقة، حيث لم يستثن حتى بعض رجال التعليم الذين قادهم قدرهم السيئ إليه، خاصة في بعض الدواوير النائية، إلى جانب نساء وشيوخ طاعنين في السن، كلهم ذاقوا مرارة الاعتداء من سيف «بومنجل». اعتداءات تركت أكثر من علامة استفهام لدى الساكنة والأجهزة الأمنية عن هوية مقترفها، فمن يكون «بومنجل» هذا الذي روع ثلاثة مراكز قضائية للدرك الملكي بكل من اولاد تايمة، وسبت الكردان، والتمسية، واستنفر أجهزة سرية الدرك المركزية بتارودانت. مشاكل أسرية متفاقمة ازداد المتهم (ب.ع) قبل خمس وثلاثين سنة بمنطقة سوق السبت بنواحي بني ملال وبها شب وترعرع، وبمحطتها سيتوقف به قطار التعليم في السنة الرابعة ابتدائي، ليغادر أقسام الدراسة في اتجاه الشارع لكسب قوته، حيث سينتهي به الحال إلى امتهان تجارة بيع الفواكه على متن عربة مجرورة، وهي المهنة التي تعلم أبجدياتها الأولى من والده المتوفى . ظلت عائدات بيع الفواكه غير مجدية بالنسبة إلى (ب.ع)، بالنظر إلى أرباحها التي لم تكن تكفي لتلبية جميع متطلباته العائلية، خصوصا بعد زواجه من فتاة من بلدته التي رزق منها بابنة هي الآن في ربيعها العشرين، غير أن زواجه هذا ظلت تتخلله بين الفينة والأخرى مشاكل تفاقمت، مع مرور السنين ووصل صداها إلى ردهات المحاكم في أكثر من مرة، قبل أن تعود الأمور مؤخرا إلى مجراها الطبيعي . بعد تفاقم مشاكله الأسرية، سيتوجه المتهم صوب العاصمة الاقتصادية للمملكة، بحثا عن فرص أفضل للعيش، وهناك سيمتهن حرفا متنوعة، لكن دون أن يستقر أمره على أي حال، خاصة أمام غلاء المعيشة وتكاليف الكراء والنقل بهذه المدينة العملاقة، التي لم يستقر بها كثيرا، إذ قرر مغادرتها، ولكن هذه المرة إلى منطقة سوس، حيث فضل الاستقرار بمدينة تارودانت، بالنظر إلى طابعها الفلاحي وبساطة ساكنتها، سرعان ما فزز بعد تفكير عميق جلب زوجته وابنته ووالدته إلى المدينة التي اختارها ملاذا له ، حيث اكترى لأسرته بيتا بالإيجار بدرب الملاح. بعد استقرار عائلته الصغيرة تضاعفت حاجيات الجاني الأسرية، خاصة وأنه يعتبر المعيل الوحيد لأسرته، إلى جانب تكاليف الأدوية لعلاج مرض الربو الذي تعاني منه والدته، مما حذا به إلى التفكير مليا في حل سحري لتوفير كل حاجياته، حيث سيتعرف على بعض المتعاطين لتجارة المخدرات بالمدينة، حيث قرر الدخول في مغامرة ترويج المخدرات، التي انتهت بعد مدة قصيرة من ممارستها بالزج به وراء قضبان السجن المحلي بكل من السجن الفلاحي بتارودانت والسجن المدني بانزكان، حيث سيقضي عقوبة لمدة سنة كاملة، ليغادر بعدها أسوار السجن وبحوزته شهادة إجرام بتفوق بفضل احتكاكه بسجناء من طينة خاصة، ثم قرر بعدها احتراف السرقات المتعددة والموصوفة، واستعمال العنف والضرب والجرح بآلة حادة في حق ضحايا بسطاء، ذنبهم الوحيد أنهم صادفوا الجاني في طريق خالية. اعترافات الجاني في مكتب رئيس الدرك، وقفت عائلة (ب.ع) مشدوهة، وهي تستمع إلى التهم والأفعال التي اقترفها معيلها في حق ضحايا أبرياء، ولم تصدق زوجته ووالدته حقيقة أن هذا الذي روع ساكنة أولاد تايمة، والمغلولة يداه بالأصفاد هو (ب.ع)، فقد صرحت كل من والدته وزوجته في محضر الدرك، بأنه كان قد أكد لهم قبل مدة أنه تاب من الانحراف مباشرة بعد خروجه من السجن آخر مرة، وأنه كان يخبرهم مرارا بأنه يشتغل بإحدى الضيعات بمنطقة أولاد تايمة، ولم يدر بخلدهم يوما أن معيلهم الوحيد يخفي قناع الإجرام، وينفذ اعتداءاته على ضحاياه ويسلبهم ممتلكاتهم قبل أن يعود إلى منزله بدرب الملاح، وفي يديه أدويه لأمه وهدايا لزوجته وابنته الوحيدة. هكذا، إذن، انتهى شبح «بومنجل» الذي لازالت حكايته على لسان كل ساكنة المنطقة، وانتهت معه قصة شاب دفعته ظروف الفقر والفاقة، حسب ما صرح به لدى الضابطة القضائية للدرك، إلى اقتراف جرائم بشعة في حق أبرياء، حيث أرشد المحققين بنفسه إلى كل ضحاياه مدليا لهم بأوصافهم، ليرهن بذلك سنوات من زهرة شبابه وراء قضبان حديدية، غير أن روايات عديدة لمتتبعين أجمعوا خلالها أن بومنجل غادر الحياة مباشرة بعد قضائه فترة قصيرة بالسجن، نتيجة الضربات القوية التي تلقاها في رأسه من طرف مطارديه بغابة أدمين.