ثانيا: الحوار الإسلامي الغربي؟ لا أريد أن أتحدث عن حوار الحضارات، ولا عن حوار الأديان والثقافات... أولاً، لأن الحضارات والثقافات اليوم، هي في حالة حوار مكثف، دائم ومتصاعد. فما دامت هناك حدود مفتوحة وأجواء مفتوحة، يعبرها الناس بجميع أصنافهم واختصاصاتهم، وتعبرها الكتب والمجلات، وتعبرها الأفكار والأخبار، والمذاهب والفلسفات، وتعبرها الفنون والعادات، وتعبرها البضائع وسائر المنتجات. وهناك الفضائيات والإذاعات العابرة للقارات والمحيطات، وهي تنقل كل شيء وتُعَرِّف بكل شيء. وهناك تعاون وتبادل بين الجامعات وغيرها من المؤسسات العلمية وغير العلمية. وهناك منظمة اليونسكو ومنظمات دولية كثيرة ومتنوعة. فمن خلال كل هذه الأبواب والمداخل والنوافذ، تجري الحوارات المرتبة والعفوية، والمؤسسية والشعبية، ويجري الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير. وثانيا، لأن طرح القضية بهذا التعميم وبهذه الشساعة، وتصويرها على أنها مشكلة حضارات وثقافات وأديان تحتاج إلى أن تلتقي وتتحاور... أو تحويل القضية إلى قضية «التقريب بين الأديان»، أو «وحدة الأديان»، أو «حوار الحضارات» أو «تحالف الحضارات»، كل هذه الطروح تؤدي إلى إخفاء القضية الحقيقية والإشكال الحقيقي. المشكل القائم، هو أن هناك قتلا وقتالا، وإرهابا واحتلالا، وخطفا واغتيالا، وتدميرا وتفجيرا، هناك حروب وصراعات سياسية، بأشكال متعددة وفي أماكن متعددة، هناك حيطة وريبة، وشك وحذر، حصار وعقوبات، فعل ورد فعل... وهذا كله ليس جاريا بين الحضارات والثقافات، وإنما هو جار بين السياسيين والمقاتلين وبسببهم، وجار على صعيد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وجار في وسائل الإعلام التابعة أو المنحازة للسياسيين والحزبيين والحربيين... منذ حوالي سنتين حضرت بالدوحة مؤتمرا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان المقصود آنذاك هو التقريب بين السنة والشيعة، بعد اشتداد القتال بين الطائفتين في العراق. وشارك في المؤتمر عدد كبير من العلماء والمفكرين والدعاة. وكان بعض الحاضرين والصحفيين يتساءلون عما سنفعله، وعما يمكننا فعله، لتحقيق التقريب والتصالح والأخوة بين الطرفين. وكنت أقول وأكرر: لا نستطيع أن نفعل شيئا كثيرا أو شيئا مؤثرا أو شيئا حاسما. القرار عند السياسيين وعند المسلحين، عند أمراء السياسة وأمراء الحرب. ومنذ شهور انعقد بمكةالمكرمة «المؤتمر العالمي لحوار الأديان»، ثم عُقد هذا المؤتمر نفسه -في طبعة ثانية موسعة ومنقحة- بمدينة مدريد بإسبانيا. ويمكن أن أقول عنه ما قلته عن مؤتمر الدوحة. إنها مؤتمرات النوايا الحسنة والخطب الحسنة، والبيانات والتوصيات المهذبة. وهذا كله جميل ونبيل، ولكنه لا يسمن ولا يغني من جوع. وقد سبق أن قرأت لمفكرَيْنِ عربيين، هما الدكتور عز الدين إبراهيم والدكتور محمد الطالبي، خاضا تجربة طويلة لعشرات السنين، في حوار الأديان، وخاصة الحوار الإسلامي المسيحي، وكل منهما تحدث عن المردودية الهزيلة لهذه الحوارات والمؤتمرات. وقد سمعت الأول منهما في مؤتمر مكة ينصح بتحاشي الحوار الديني العقدي، والانصباب على الحوار العملي المجدي، وهو الحوار الذي يتناول ويعالج المشاكل الحقيقية القائمة بين الطرفين، ويسعى إلى وقف الصراع والصدام، وتحقيق العدل والتعايش والتعاون. الصراع والصدام بين المسلمين والغرب اليوم -كما وضحت في المقال السابق- ليس حول العقائد والمذاهب، أو حول التوحيد والتثليث، ولكنه حول السياسة والنفوذ السياسي والقرار السياسي. فالأصل أن ممارسة الحوار في هذا المجال، وصياغة الحلول القابلة للتنفيذ والنجاح، هي مهمة المسؤولين والقادة السياسيين، وبعضِ القادة الدينيين، وسائر الفاعلين الحقيقيين في توجيه الأحداث، أي الذين يقررون، والذين يؤثرون. أو لنقل: أهل الحل والعقد في مجرى الأحداث. والذي يبدو جليا هو أن قادة الغرب وحكامه ليسوا مستعدين لأي حوار جدي مع العالم الإسلامي، وأنهم يفضلون التعامل معه من موقع المنتصر المستغني... وأما حكام المسلمين فليسوا مؤهلين ولا قادرين على الحوار مع الغرب، وليس ذلك راجعا لأفرادهم ومؤهلاتهم الشخصية، وإنما لمكانتهم ووضعيتهم الداخلية والدولية... وحينما يجري نوع من الحوار بين المسؤولين في العالمين الغربي والإسلامي، فغالبا ما يكون ذلك مجرد لقاء للإملاء والتوجيه والاشتراط... أو للتدبير الأمني والاقتصادي، أو لترتيب أمر ما داخل البلد العربي أو الإسلامي... ومع هذا لا يمكن اعتبار هذا الباب مغلقا أو ميؤوسا منه أو عديم الفائدة، بل ينبغي الاستمرار في طَرْقه وتحميل أصحابه المسؤولية، لعل وعسى... ولكن التعويل الآن على غيره من الأطراف ومن الأبواب. وهناك الآن عدة دوائر ومستويات وتخصصات يمكن أن تسد الحاجة الكبيرة والملحة للحوار والتفاهم والتعاون بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، أذكر منها: 1. الدوائر الدينية ذات الفاعلية والمصداقية والتأثير وفي مقدمتها الحركات الإسلامية، والمنظمات الكنسية التبشيرية. فمثلا حركة الإخوان المسلمين، وهي ذات تاريخ طويل وامتداد عريض عبر العالم، لم أسمع يوما أنها بادرت ودخلت في حوار مبرمج ومنتظم مع أطراف دينية أو سياسية غربية، حول علاقة الإسلام بالغربيين والمسيحيين، أو حول القضية الفلسطينية، أو حول مستقبل الدين ورسالته في عالم اليوم وعالم الغد، أو حول وضع الأقليات المسيحية في العالم الإسلامي، ووضع الأقليات الإسلامية في العالم الغربي، أو حول قضية الإرهاب والتطرف... وما قلته عن جماعة الإخوان المسلمين يقال عن أمثالهم من الحركات والفعاليات الإسلامية، والأخرى المسيحية... عادة حينما يذكر الحوار المسيحي الإسلامي، يذكر شيخ الأزهر، ووزراء الأوقاف، والمستشار الديني أو الثقافي لصاحب الجلالة أو الفخامة أو السمو، وبعض ذوي الألقاب العلمية والأكاديمية... وهؤلاء ليس لهم تأثير يذكر في سير الأحداث وتوجيه الرأي العام. فهم لا يصنعون شيئا ولا يمنعون شيئا، ولذلك لا تكاد حواراتهم تتجاوز الجدران التي كانوا يتحدثون داخلها. 2. المنظمات الحقوقية المنظمات الحقوقية، الدولية منها والمحلية، على العموم لها مكانة محترمة، ولها مصداقية وفاعلية وتأثير في مجتمعاتها وعلى الصعيد الدولي. وهي لذلك مؤهلة لإجراء حوارات وتبَنِّي مواقف وتوجهات تؤثر إيجابيا في واقع العلاقة بين المسلمين والغرب. فلا ينبغي أن يقتصر دورها على رصد الانتهاكات الحقوقية وإدانتها، ينبغي ألا تقف عند دور الحَكَم أو الشاهد أو الملاحظ. بل يمكنها وينبغي لها -إضافةً إلى ما سبق- أن تكون شريكا فعليا في صنع واقع أفضل، وفي صنع أرضيته وشروطه. وينبغي أن تتجاوز المجال الحقوقي للأفراد والمجموعات، إلى مفهوم أوسع وأرفع لحقوق الإنسان؛ مفهوم يركز على حقوق الكائن البشري والجنس البشري، وعلى حقوق الأمم والشعوب. إن الحديث –مثلا- عن الانتهاكات الحقوقية لجنود الاحتلال هنا وهناك، مع السكوت عن الاحتلال نفسه، ومع السكوت عن اختطاف شعب ووطن بأكمله، يعد ضربا من الضحك على الذقون... إن الانتهاكات الحقوقية الفردية، التي يرتكبها الجنود والمجندون، كالقتل والتعذيب والاعتقال التعسفي، ما هي إلا قطرات من بحر الظلمات! فكيف يستساغ الاهتمام بالقطرات، مع التغاضي عن البحار والمحيطات؟! وفي جميع الأحوال، فإن المنظمات الحقوقية مؤهلة لأداء دور مؤثر، لصالح علاقات أفضل وأعدل بين الشعوب عامة، وبين العالمين الإسلامي والغربي خاصة. وذلك عن طريق الحوارات الجادة والمنتظمة، مع السهر على تنفيذ القرارات والمواثيق المتفق عليها بين الطرفين أو الأطراف... وإنما أقول ما أقول عن المنظمات الحقوقية، وأدعوها إلى ما دعوتها إليه، لأنني عموما أقدرها وأقدر رسالتها النبيلة وآثارها الحميدة. 3. الصحفيون إذا كانت الصحافة هي السلطة الرابعة، وهي صاحبة الجلالة، فإن الصحفيين هم بالتأكيد رجال سلطة، وهم جنود وضباط صاحبة الجلالة... وإذا كانت هذه الأوصاف تصدق على الصحفيين منذ عشرات السنين، فإنها اليوم قد زادت بأضعاف مضاعفة. وربما لم تعد الرتبة الرابعة كافية ومناسبة للسلطة الصحفية والإعلامية، في عهد الفضائيات والأنترنت والصحف متعددة الأشكال والطبعات في اليوم الواحد. المهم أن الحوار بين الصحفيين المسلمين والغربيين، بمؤسساتهم ومنظماتهم، وبخبراتهم ودقة متابعاتهم، وبقوة تأثيرهم في الرأي العام، يمكن -أو يجب- أن يشكل جزءا طليعيا من الحوار بين الشرق والغرب، وجزءا من صناعة العلاقة المنشودة بين العالمين الإسلامي والغربي، علاقة الاعتراف المتبادل، وعلاقة الاحترام والتفاهم والتعاون. فمن المفيد ومن الضروري أن يتجاوز الصحفيون وظيفة تغطية الأحداث وتحليلها، إلى وظيفة صنع الأحداث وتوجيهها، وإلا فلا معنى لوصف مهنتهم بأنها «سلطة»، وبأنها «صاحبة جلالة». 4. الأحزاب السياسية لعل إيراد الأحزاب السياسية في هذا السياق، يكون من البدهيات ومن نافلة القول. فمن صميم وظيفتها ومسؤوليتها أن تنخرط في الحوارات والتعهدات والنضالات، التي تخدم العلاقات الدولية العادلة والبناءة. وقد تكون قدرة الأحزاب التي ليست في الحكم، أكثر قدرة في هذا المجال من الأحزاب الحاكمة. كما أن الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية والقومية، هي الأكثر مسؤولية وصلاحية في هذا المجال. 5. الجامعة والجامعيون كثيرا ما نسمع الكلام عن فك العزلة عن الجامعة وإخراجها من أبراجها ومحاريبها، وجعلِها مندمجة في محيطها، متفاعلة مع متطلبات شعوبها ومجتمعاتها. وهذا كله جيد ولا غبار عليه. والمحيط اليوم هو الكرة الأرضية كلها، وبدرجة أكثر أهمية وأولوية، يأتي المحيط المحاذي لبلدك وأمتك. فمن هذا الباب يكون من الطبيعي ومن الضروري، أن تنخرط الجامعات والجامعيون في قضية الحوار النظري والعملي بيننا وبين الغرب. والجامعيون هم أقرب الناس إلى المعالجة المنهجية والعقلانية للأمور. ولذلك فهم أكثر أهلية للتقويم الفكري والعلمي الأكثر حيادية وموضوعية، للعلاقات الإسلامية الغربية. وهذه هي الإضافة النوعية للدور الجامعي في هذا المجال. ومن الإضافات النوعية التي يمكن أن يضطلع بها الجامعيون ومؤسساتهم: تأسيس مراكز وأقسام قارة للبحث والتكوين والتدريب في موضوعنا ومجالنا. فهناك نقص كبير عند المسلمين في الدراسات والأبحاث والمؤسسات المتخصصة في شؤون العالم الغربي وفي العلاقة معه، بينما هم يعرفون عنا الشاذة والفاذة. وجميع التخصصات الجامعية: الشرعية والإنسانية والاجتماعية والقانونية والسياسية والاقتصادية والأدبية، لها أكثر من صلة بهذا الموضوع، ويمكنها أن تسهم فيه.