إنتاجه المتواصل، وقدرته الفائقة على الحديث المسترسل البليغ باللغتين العربية والفرنسية، وتنقله الدائم بين الجهات الأربع من الدنيا، وتأثيره الكبير على جزء من الشباب، كل ذلك جعل من المفكر طارق رمضان دون منازع داعيا ومبشرا بالإسلام المعاصر والإسلام الأوروبي. ولقد أصاب الأستاذ امحمد بوستة هو يعبر - في ندوة الإسلام والحداثة بمؤسسة علال الفاسي يوم الخميس 25 دجنبر2003 عن إعجابه بالرجل وتفانيه في سبيل الإسلام إذ وصفه بالداعية الكبير. بل إن كاتبا أمريكيا شبهه بالزعيم المسيحي البروتستنتي المصلح مارتن لوثر. التقته التجديد بالدار البيضاء، يوم الأربعاء 24 دجنبر 2003 في دورة تكوينية تدريبية لجمعية المسار حول الحوار وأساليبه وعقباته ومجالاته. وعلى الرغم من الوعكة الصحية التي فاجأته في الملتقى، فإنه تحمل آلام الصداع وخص التجديد بهذا الحوار: أستاذ طارق رمضان، مرحبا بك في المغرب الأقصى. أنت تتردد على المغرب مرة كل سنة على الأقل. اسمح لي ان أسألك أولا عن زيارتك الحالية، في أي إطار تندرج؟ أولا، أنا أتيت من أجل قضاء أجازة في المغرب صحبة أسرتي كلها. أتينا إلى هنا لنستريح من الضغط الصحافي والإعلامي والسياسي في أوروبا الذي كان كثيفا في الأسابيع الأخيرة. ثم إني تلقيت دعوة من جمعية المسار كي نفتح باب الحوار ولتكون هناك ملتقيات للحوار، الحوار الداخلي في المجتمع المغربي. وثالثا اتفقنا على تنظيم محاضرة يوم الخميس 52 دجنبر 3002 بالرباط. المراقب لما يجري في العالم عامة وأوروبا خاصة، يلاحظ أن المشهد عجيب نوعا ما، فالإسلام اليوم أصبح مكونا في المجتمعات العلمانية، وهذه الأخيرة تبحث عن وسيلة للتعامل مع الوافد الجديد. والعلمانية تسعى لإيجاد أقدام راسخة في المجتمعات الإسلامية بأي طريقة كانت. كيف يرى الأستاذ طارق رمضان هذا المشهد، وهل من إمكانية لتبادل التأثير بين الإسلام وأوروبا اليوم؟ هذا واضح الآن، فنحن نرى التأثير واضحا بخصوص المسلمين الموجودين في أوروبا. وأهم شيء الآن أن صحوة إسلامية نشيطة حاليا في أوروبا على كل المستويات: في صفوف الطلاب المسلمين وبين الرجال والنساء. والخوف السائد في أوروبا حاليا من نوعية هذا المواطن الجديد. مواطن أوروبي مسلم يعرف مبادئ الإسلام جيدا، ويريد أن يطبقها في المجتمع الأوروبي، وفي الوقت نفسه له دور في هذه المجتمعات التي يعيش فيها. فهذا شيء جديد للناس في أوروبا عامة وفرنسا خاصة. وفرنسا لها وضع خاص الآن. فالصحوة موجودة وواقع ظاهر والعمل الإسلامي نشيط، ومستوى الفهم عال جدا. الخوف الكبير المعبر عنه وغير المعبر عنه هو من تغير المجتمع الأوروبي في مستقبل قريب وبعيد، وهذا واضح ولا بد من الاعتراف بهذا، وفهمه وأخذه بعين الاعتبار. لا بد أن نفهم أن الخوف الموجود طبيعي، ومن اللازم والمفروض أن يقدم المسلمون صورة الإسلام بطريقة جيدة. فماذا يمكن للمسلمين والمسلمات أن يقدموا للمجتمعات الأوروبية. ويجب أن لا يفهم أن هذه مشكلة في الأوساط الأوروبية. في بعض اللقاءات والحوارات المنعقدة بأوروبا يعبر المشاركون فيها أن الإسلام مشكلة، وأن المسلمين مشكلة. المفروض فينا أن نقدم وجها سمحا متعايشا يقدم لتلك المجتمعات خيرا ونفعا ومشاركة، ونفهم للناس أن المسلمين حملة قيم وأهل مبادئ عالمية ليست إسلامية بالمعنى الجغرافي والإقليمي أو مناهضة للغرب ومعادية له. لكن المشكل الأكبر والعويص أن العلمانية التي يوجد الإسلام اليوم بين ديارها، تفصل بين الدين والدولة، وقد يكون منبع التخوف هو التطور السياسي المستقبلي للإسلام وانعكاسه على العلمانية، فأي شيء يمكن أن يقدمه المسلمون للعلمانية الحاكمة حتى يحصل الاطمئنان ونزع فتيل التخوف؟ ما تقوله صحيح، وسؤالك هام ودقيق جدا. ونحن نقول أولا إننا نميز بين الأحوال الخاصة والأحوال العامة، وإن هذا موجود في الإسلام. فلدينا ما يسمى بالعبادات وما يسمى المعاملات. ونحن نأخذ من القيم ونسعى للتأثير في العمل الاجتماعي والعمل السياسي، والقيم الهادية المؤثرة لا تعني كما هو الحال في الغرب سيطرة الوثوقية والدوغمائية وهيمنة الكنيسة من فوق. نحن مواطنون أوروبيون مسلمون لا مشكلة لديهم في العيش داخل هذا المجتمع العلماني. أنا أردد دائما أن المواطنة قيمة من القيم الإسلامية، والمسلم يفهم أن المواطنة قيمة نابعة من عقيدته، كما تنبع لدى آخرين من ضمائرهم أو من شيء آخر. ليس لدينا مشكل مع العلمانية، نحن نعيش فيها ولا نشعر بأي حرج أو ضيق، ونقدم خدماتنا ومساهماتنا للمجتمع. ومن الخطأ القول إنه لا يوجد فرق بين العبادات والمعاملات. هناك فرق بين العبادات والمعاملات دون أن يعني ذلك فراقا بينهما. هناك فرق لا فراق. والتلبيس يأتي من الفهم الخاطئ للإسلام. فهناك مسلمون يقولون إنه لا يوجد فرق بين العبادات والمعاملات، وإن كل شيء متشابه، فالعمل السياسي مثله مثل العبادات. وهذا غير صحيح. ومنذ البداية ميز علماؤنا بين العبادات والمعاملات. طبعا القطعيات لا كلام فيها ولا نقاش. والأصل في الأشياء وفي المعاملات الإباحة، ونحن منفتحون على الثقافات الغربية ومن كل الثقافات والحضارات الأخرى ونأخذ منها الكثير بدون أي مشكلة. فهذا فهم مهم جدا، وليس لدينا فهم فقه ضيق أو فهم ضيق. هذا الفهم الذي تفهمونه وتسعون لتفهيمه للعلمانية وأهلها ومجتمعاتها وسياسييها، هل هناك من مبشرات تنبئ بمستقبله؟ هل هناك من مؤشرات على قبوله من الطرف الآخر المتخوف؟ الذين يفهمون هذا يدركون أن المواطن المسلم قد يكون له مستقبل وقيمة في المجتمع، وقد يلعب دورا هاما جدا. ومن هنا ينبع تخوف على المستقبل الاجتماعي والثقافي والسياسي. ولذلك نجد الذين يقبلون هذا ويفهمونه، ونجد الذين يفهمون هذا ولا يقبلون أن يحدث. منذ قرون خلت من قبل، وصل الإسلام إلى أوروبا على ظهور الخيل، وكانت هناك فتوحات ومعارك عسكرية، وعن طريق دعاة معروفين ومجهولين، ومع ذلك لم يستقر ولم يتجذر. الآن وصل وتجذر دون خيل ولا ركاب ولا حروب، وأصبح هو الديانة الثانية أو الثالثة في أوروبا وأمريكا. هل يمكن أن نرى يوما ما في المستقبل مسؤولا مسلما في الإيليزيه أو في داونينغ ستريت أو في مجلس حكماء سويسرا مثلا؟ (ينفجر ضاحكا ثم يقول) إن شاء الله. إن شاء الله. إن شاء الله في المستقبل. ولكن صبر جميل والله المستعان. نحن اليوم نشاهد عملا إسلاميا رائعا في أوروبا وأمريكا. عمل من أكثر الأعمال نشاطا وحيوية. الجمعيات الإسلامية من أنشط الجمعيات على المستوى الأوروبي والأمريكي والعالمي أيضا. عمل دؤوب أسميه ثورة صامتة. وهذا النشاط المتصاعد هو سبب الخوف. فالحضور الإسلامي الآن في المجتمعات الأوروبية نشيط وشغال وله مستقبل. تتحدث عن الخوف ومشاعر الخوف مرارا وتكرارا يا أستاذ طارق، فمن هم الخائفون؟ الذين لا يريدون الحضور الإسلامي، ولا يريدون له أي دور كبير أو صغير. وفعلا، حدث لي هذا في فرنسا. فعندما قررنا ألا نسكت عما يحدث في فلسطين، وأن نقوم بشيء ضد العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني وأن نشرع في مساندة المقاومة في القارة الأوروبية تحركت الآلة الصهيونية التي فهمت بدقة أن الأمر جد وخطير، وأن الوضع يمكن أن يتغير. ولذلك تراهم ناشطين في اضطهاد أي صوت مسلم يمكن أن يقول في وقت واحد: أنا أؤيد الديمقراطية، وأتكلم ضد شارون، وضد سياسة شارون، وضد سياسة إسرائيل، ولذلك شعرت الدوائر المؤيدة لإسرائيل بالخطر وقامت تتحرك، والرئيس لا بد في السياسة العامة أن يدخل في الحسبان السياسي والدبلوماسي الرأي العام ومواقفه. ربما كان هذا هو سبب الحملة الإعلامية عليك عندما كتبت تنتقد بعض المفكرين والكتاب الفرنسيين المؤيدين لإسرائيل؟ هذا واضح كل الوضوح. فأنا تكلمت ضد ستة من المعروفين يؤيدون بالصمت أو بالكلام الواضح حكومة إسرائيل، وقلت هذا لايمكن. وبما أن أغلبيتهم يهود، فلا بد أن يهبوا ضدك، ويقيموا الدنيا ولا يقعدونها. محاضرتك في المغرب هي حول الحداثة والإسلام، وأنت تدندن كثيرا حول هذا الموضوع، وتتطرق إليه في كتاباتك ومحاضراتك وتدخلاتك. دعني أسألك: هل أنت من الذين يقولون إن على الإسلام أن يكون حداثيا، وإن على الحداثة أن تسلم حتى ينتهي الجدل؟ أنا لا أتكلم بهذا المنطق. وهذا التعبير لا أقبله. لا أقول إن على الإسلام أن يكون حداثيا، وإن على الحداثة أن تسلم. إسلامية الحداثة بالنسبة لي تعبير خاطئ. ولا بد لنا أن نفهم ما هي الحداثة. الحداثة هي أن نعيش مع وقتنا. والمسلم الذي يفهم الإسلام فهما صحيحا يعيش مع وقته دون أي مركب نقص. وداخل العلوم الإسلامية نجد وسائل كافية لكي نطبق الإسلام في وقتنا وفي كل مكان. هل هذا ممكن؟ هل عندنا من الأدوات العلمية ما ييسر علينا هذا؟ أقول إن هذا موجود وممكن، وهذا هو الاجتهاد. الاجتهاد يأتي بعد القرآن والسنة، وينتقل بين النص والواقع لفهم هذا وذاك. والمسلم مطالب بهذا، وعندما نعيش في أي مجتمع، وحينما نفهم الأصول الأولى وبعد ذلك نأخذ الواقع ونفهم آيات الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفهم سنة الله في الواقع والآفاق، فهذا يفتح لنا بابا واسعا لتقديم أشياء جديدة وإبداعا جديدا في كل مجتمع جديد وكل واقع جديد. لا بد إذن أن نميز بين الحداثة الغربية والحداثة غير الغربية، فلكل مجتمع حداثته. الغرب له مثال للحداثة ونحن لنا حداثة خاصة. نعيش مع وقتنا وفي مجتمعاتنا ونعيش مع التعددية مع التمييز بين الحداثة كمثال غربي والحداثة ككلمة عامة يمكن أن يستعملها المسلم وغير المسلم، وليس عندنا نحن المسلمين أي مشكل مع الحداثة حينما نفهمها ونفهم مصادرنا. لكن هناك مجموعة من الناس يصنفون أنفسهم حداثيين ويحتكرون هذا لهم، ويصنفون المتدينين إلى إسلاميين، ويصعب الحوار بينهما إن لم يحدث أصلا، في رأيك، ما السبيل إلى التحاور بين هؤلاء وهؤلاء؟ أولا، ينبغي أن نتفق على الكلمات ونوضح المسميات. ثانيا لا يوجد إسلاميون وحداثيون بهذا القطع والتصنيف. من الممكن أن نكون إسلاميين حداثيين، ومن الممكن أن نتابع المجتمعات الغربية ونكون مقلدين فقط. لذلك لا بد من الاتفاق على الأسماء والمسميات ونفتح الحوار. المشكلة أن بعض الإسلاميين يفهمون أن الحداثة تعني العلمانية والمجتمع الغربي، وهذا خطأ. الخطأ يوجد عند الحداثيين وعند الإسلاميين. ينشغل العالم كله حاليا بقضية الحجاب في فرنسا، وهي قضية ساخنة جدا، كيف تنظر إلى هذه القضية: هل هي قضية مبدئية بين العلمانية والدين الإسلامي، أم هي قضية سياسية؟ هي قضية سياسية واضحة كل الوضوح ولا شك في هذا. لقد أصبحت لعبة سياسية بين اليسار واليمين واليمين المتطرف. المشكلة اليوم ليست هل الحجاب من الإسلام أم ليس منه، وهل هو رمز أم ليس رمزا. وطبعا الحجاب من الإسلام وهذا يعرفه السياسيون في فرنسا ولا داعي للتأكيد عليه. المسألة اليوم هي مسألة قانون وحقوق. وأعتقد أن هذا هو الباب الحقيقي للدخول. وينبغي أن نقدم للمجتمع وللرئيس خطابا يرتكز على الحقوق والقانون، ونؤكد لهم أن هذا القرار مخالف للقانون الفرنسي أولا. وبعد ذلك في حالة ما إذا جاؤوا بقانون جديد، من الممكن أن نقدم شكوى على المستوى الأوروبي. فالمجال مفتوح والطريق طويل والمفروض أن نأتي بخطاب جديد، ولا خطاب أجدى وأقوى من خطاب القانون والحقوق: أنا مواطن لي حقوق وعلي واجبات، والآن أريد حقوقي في هذا المجتمع. في المرحلة الأولى نقدم هذا للحكومة الفرنسية، وبعد ذلك على مستوى أوروبا. ودعني أخاطب الإخوة المغاربة لأقول لهم إن دورهم هنا مهم جدا. أي دور للمغاربة هنا في المغرب؟ الخطاب الإسلامي القادم من المغرب ينبغي أن يكون واضحا. امرأة تريد أن تلبس الحجاب نقول لها هذا من حقك، وامرأة لا تريد أن تلبس الحجاب فهي حرة وذلك من حقها. فخطاب مثل هذا إذا أتى من المغرب ومن البلدان الإسلامية وصدر عن المثقفين ومن العلماء والجمعيات الإسلامية سيكون له أثر كبير. أما الصمت فخطأ كبير. فأين الهيئات؟ ألا ترى أستاذ طارق أن الإسلام يتجدد وينشط في الأوساط الشعبية، وتدافع عن قضاياه الأوساط الشعبية، فهل كتب على الإسلام في هذا الزمان أن يعتمد على هيئاته المدنية والشعبية وينفض يده من الهيئات الأخرى؟ لا. كل الهيئات مسؤولة عن هذا الدين وعن قضاياه العادلة وينبغي أن نستعمل كل المنابر. انظر في فرنسا حاليا:هل تعرف أن رابطة التعليم وهي فرنسية غير إسلامية وناهضت وتناهض قانون حظر الحجاب، وإلى جانبها رابطة حقوق الإنسان وle MRAP كلهم ضد القانون المقترح لمنع الحجاب. هذه جمعيات مهمة جدا. فمن الممكن الآن التنسيق معهم ومع جمعيات أخرى، ويمكن أن نجد رجال سياسة تقف إلى جانب حقوق المسلمين، فلا بد من العمل مع هؤلاء والتعاون والتنسيق معهم. ولكن اتركني أقاطعك يا أستاذ طارق، ألا يمكن القول إننا نحن المسلمين مسؤولون أيضا.ففهمنا ليس واحدا، وخطابنا ليس واحدا، والفئات القليلة ذات الفهم الخاطئ المرجوح والتي تقدم صورة مشوهة للإسلام يتم تضخيمها وتقديمها على أنها الناطق الرسمي الوحيد باسم الإسلام وتستغل سياسيا وإعلاميا؟ هذا صحيح. ولكن أن يكون خطابنا واحدا وموحدا، فهذا محال. يمكن أن نتفق على خطاب واحد في بعض القضايا أو كثير من القضايا مثل الحجاب مثلا. وفي بعض الأحيان مع الأسف هناك بعض الإخوة يتكلمون ضدنا، وتأتي المعارضة والفهم الخاطئ من داخل الصف الإسلامي. فهذا شيء عجيب جدا، ولكن إذا اتفقنا كما قلت في القضايا الكبرى فيمكن أن نقدم شيئا ما. الآن هناك اتفاق بين كل الجمعيات الإسلامية في قضية الحجاب. ولكن لا ينبغي أن نكتفي بهذا، بل نتفق أيضا مع جمعيات أخرى لغير المسلمين، وهذا حاصل أيضا، وبدأنا جلسات للتشاور حول الخطوات المستقبلية الممكنة. وإن شاء الله سيكون هذا شيئا جديدا، وسيكون التعاون مع الجميع أقوى. ولن ننتظر إلا خيرا. (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم). ولم توسعون الأمر ليشمل الجبهة الدينية المسيحية وهي كان لها موقف تاريخي من قضية الحجاب؟ طبعا طبعا. نعم هذا صحيح. وهو حاصل أيضا. لقد بدأنا الحديث والتشاور معهم. أجرى الحوار: حسن السرات