5 - الالتفاف على المطلب الحقوقي والديمقراطي حول المساواة بين الجنسين ومكانة المرأة في المجتمع. وقد جاء الفصل المرقم في الدستور الجديد بالرقم 19 لكي يستعمل عبارة أقل من مبدأ المساواة ومن مطلب دسترة مؤسسة «المجلس الوطني للمساواة» الذي تمت المطالبة به في أكثر من مناسبة، فجاءت الصيغة متضمنة لمبدأ «التكافؤ» ثم إحداث «هيئة للتكافؤ».. مثلما لوحظ أيضا في ثنايا نفس الفصل أن المشرع، عند التنصيص على «تمتع الرجل والمرأة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية... إلخ»، قد يكون تعمد أن يورد مفردة «الحقوق» غير مسبوقة بمفردة «جميع»، كما جعل صفة «المدنية» ملتصقة ومسبوقة بكلمة «الحريات» وليس بكلمة «الحقوق».. ولربما في ذلك أكثر من تساؤل وتأويل يفتح المجال مشرعا نحو الالتفاف - في أي لحظة - على هذا المبدأ الكوني الهام. 6 - النص جاء خاليا من أي تلميح أو إشارة إلى نية معينة للتوجه راهنا أو مستقبلا نحو إلغاء عقوبة الإعدام أو نحو المصادقة على نظام روما المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية.. وهذان المطلبان، إضافة إلى أنهما من مطالب الحركة الحقوقية والديمقراطية، فإنهما كانا من ضمن التوصيات الأساسية لهيئة الإنصاف والمصالحة والتي صادق عليها الملك، كما قال عنها أيضا هو نفسه في خطاب 9 مارس إنها توصيات ستدستر، وذكر بها ضمن المرتكزات حينذاك بإيراد عبارة «دسترة التوصيات الوجيهة» لهيئة الإنصاف والمصالحة.. وهو ما يؤكد لنا الآن، بعد خروج المشروع، أن هاتين النقطتين لا تعدان وجيهتين في نظر المشرع الدستوري؟! 7 - لم تتم الإشارة إلى أية صيغة ل«المصالحة الوطنية» في النص الدستوري، والتي قد يفهم منها أو يلمح فيها إلى صيغة من صيغ الاعتذار الرسمي للدولة المغربية -من خلال نص الدستور- عن ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الحقبة المعروفة والموسومة ب«سنوات الرصاص».. 8 - إن تقسيم الفصل ال19، كما كان في كل صيغه بالدساتير السابقة، إلى فصلين لم يحل الإشكال تماما، حيث إنه وردت عبارة فضفاضة جديدة في الفصل 42 في المشروع الحالي هي عبارة أو صفة «الحكم الأسمى» والتي قد تؤدي في المعترك السياسي مستقبلا نفس الأدوار أو تكون لها نفس التأويلات التي كانت تشكلها صفة «الممثل الأسمى للأمة» التي كانت تؤثث الفصل التاسع عشر «الشهير» والذي من خلاله كان الملك يتدخل في إصدار التشريع من خلال ظهائر... إلخ. ويخشى أن تتحول صفة «الحكم الأسمى» أيضا -مع مرور الوقت، ومع نشوء حالات التنازع الذي قد نكون أمامه أحيانا بين السلط أو المؤسسات أو الوسائط، ومع تعدد مجالاته- إلى سلطة فوق دستورية تنوب أو تحل محل مؤسسة أو مؤسسات دستورية قائمة الذات في أداء اختصاصاتها الدستورية.. 9 - على الرغم من التنصيص في الفصل ال52 من المشروع على أن خطاب الملك لا يمكن أن يكون موضوع نقاش داخل مجلسي البرلمان فقط، بحيث لم يعد منع مناقشته واردا في صيغة عامة ويسري على الجميع كما كان واضحا في الصيغة السابقة، فإن هذا التعديل الجديد لم يرق -مع ذلك- إلى مطالب القوى الديمقراطية والحقوقية في هذه النقطة، والتي كانت تأمل التنصيص الصريح على أن «الخطاب الملكي يتضمن فقط توجهات كبرى غير ملزمة بالضرورة، وأن الخطاب الملكي ليس مرجعا قانونيا أو مصدرا للتشريع مرتبا لمقتضيات تنفيذية أو لقرارات إدارية».. 10 - لوحظ في مشروع الدستور أيضا، رغم ما يروج له وصفق له، أن المجلس الحكومي ومن خلاله رئيس الحكومة قد خولت له صلاحيات واختصاصات واسعة تنازل عليها المجلس الوزاري برئاسة المؤسسة الملكية في الدساتير السابقة، والحال أن سلطات واختصاصات هذه المؤسسة في المشروع الحالي قد توسعت وكثفت بشكل ملحوظ عما سبق، فنجد المشرع قد أناط به سلطة رئاسة المجلس الوزاري (رغم ورود التعديل الخاص بإمكانية تفويض رئاسته لرئيس الحكومة)، ثم سلطة رئاسة كل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية، المجلس العلمي الأعلى، المجلس الأعلى للأمن، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، تعيين رئيس ونصف أعضاء المحكمة الدستورية، تعيين خمس شخصيات داخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ثم تعيين رئيس ونصف أعضاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري المعروفة اختصارا ب«الهاكا»... إلخ. 11 - في ما يخص البرلمان، فالمشروع -في اعتقادي- لم يأت بالإصلاح الجوهري المطلوب والمأمول، والذي كانت تطالب به القوى الديمقراطية والحقوقية، والذي كان من بين أهم مقوماته تخويل مجلس النواب بصفة حصرية السلطات التشريعية الكاملة المسندة إلى البرلمان بمجلسيه بمقتضى الدستور المطبق الحالي، فضلا عن توسيع مجال التشريع لكي يمتد مجال القانون إلى كل الأبواب والميادين التي تجعل من مجلس النواب المؤسسة الدستورية الأساسية التي تختص بوظيفة التشريع ويرجع إليها أمر إصدار القوانين والمصادقة عليها.. 12 - ثمة بياضات وفراغات في المشروع الحالي وجب الوقوف عند بعضها على الأقل، وهي فراغات وبياضات تجعل المهتم والمتتبع يتساءل عن دواعي عدم ملئها من قبل المشرع الدستوري لتفادي التأويل، ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الفصل ال88 من المشروع الذي ينص، في فقرته الأخيرة، على أن «الحكومة لا تكون منصبة إذا صوتت الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب ضد برنامجها»، لكن المشرع لم يعطنا الجواب والمخرج الدستوري عند تحقق مثل هذه الحالة وسكت عن ذلك، مما يفتح الباب للتأويل بشكل قد يفسح المجال للملك من جديد للتدخل بشكل من الأشكال أو انطلاقا من سلطته في الفصل ال42 ك«ضامن لدوام الدولة واستمرارها» أو ك»حكم أسمى»، فنكون -في هذه الحالة- أمام توسيع إضافي لسلطات الملك من غير تلك السلطات الصريحة بنص الدستور.. وما قيل عن مثل هذا البياض يقال أيضا عن بياض دستوري آخر يتمثل في أن المشرع لا يعطي بتاتا أي جواب دستوري عن الحالة التي قد يتعرض فيها الملك الدستوري -كأي إنسان طبيعي- لمرض طويل الأمد أو إذا عاقه عائق في حجم القوة القاهرة عن ممارسة مهامه الدستورية وتدبير رئاسة الدولة.. على سبيل الختم تلكم، إذن، ملاحظات أولية عامة وانطباعات لا تدعي الإحاطة بتناول كل الفصول والأبواب بالملاحظة أو التعليق، في انتظار مزيد من تعميق البحث والقراءة الشاملة لكل المقتضيات والأبواب، على أن ما يهمنا من هذا المقال/المساهمة هو أن نفتح الشهية للنقاش حول هذا النص الدستوري -بين الإخوة والأصدقاء والزملاء أولا- وبين كل المهتمين والسياسيين الديمقراطيين والحقوقيين، تاركين للباحثين والأكاديميين المتجردين والأكفاء والمستقلين والمختصين الحداثيين في مادة القانون الدستوري مهمة التحليل الشامل والوافي والتمحيص في القراءة والتشخيص، وصولا إلى التوصيف اللازم لطبيعة هذا الدستور وإلى أي حد يشكل قطيعة أو استمرارا لعهد الدساتير الممنوحة التي شكلت على الدوام سدا منيعا -بلا شك- أمام مطامح إرساء نظام ديمقراطي تكون فيه السيادة حقا للشعب ويكون مصدرا فعليا للسلطات.. لقد أخطأ التعديل الدستوري في المغرب مرة أخرى موعده مع التاريخ ومع طبيعة التغيير المنشود، التغيير الذي يقود حتما إلى الديمقراطية ودولة المواطنة الحقة والكاملة لا مجتمع الرعايا، وإلى تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا، والقطع مع كل مظاهر الفساد والاستبداد.. وبعد هذا وذاك، وكخلاصة لهذا المقال، يجوز لنا القول -في غياب تدابير الثقة المسبقة وإجراءات حقوقية وسياسية مصاحبة فعالة، ومع استمرار اعتقال الحقوقيين والنقابيين والصحافيين والطلبة والمعتقلين الإسلاميين، ثم القمع والتضييق الممنهجين ضد حركة 20 فبراير، وكذا مصادرة حقوق وحريات أساسية ضمنها حق التظاهر السلمي، واستمرار الإعلام العمومي الرسمي منغلقا على نفسه متماديا في لعب أدوار الدعاية الفجة والانحياز إلى الموقف الرسمي والتعتيم ضد الآراء والمواقف المخالفة والمعارضة، وبروز معالم ومؤشرات سلبية تفقد الاستفتاء طبيعته وروحه الديمقراطيتين (نموذج حشد السلطة وأعوانها للمظاهرات المؤيدة للدستور مباشرة بعد الخطاب الملكي..)- (يجوز لنا القول) إن أقل ما يمكن أن نصف به مسلسل التغيير الدستوري الجاري عامة في بلادنا أنه مجرد تغيير جزئي هش لا يمس الجوهر العميق، ولن يصمد بالتأكيد أمام قوة وجسامة الواقع الذي لم يزل يراوح المكان، إن سياسيا أو حقوقيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا.. إن تغييرا من هذه الطينة ومن هذا المستوى لا يمكن أن نقول في حقه سوى جملة واحدة تفي بأكثر من معنى ودلالة هنا والآن: إنه «التغيير عندما يلبس جبة الاستمرارية».. انتهى/ عبد المجيد أيتحسين - ناشط حقوقي وجمعوي مهتم بالشأن الدستوري