عندما يكون إدراك ضبابي للسياسة مع الحتمية الخاصة بالقوة المسيطرة على الحكم، يصبح المطلوب من الصحافيين، في الواقع، أن يكونوا عبيدا مفترضين لسلطة متنفذة متعددة الهوية، خانعين طائعين، ويكون من المفروض التلاؤم مع الجو الذي تخلقه تلك السلطة التي توجه دواليب السياسة العامة، وتراقب حركية الإبداع والابتكار والمبادرة الفعالة للصحفيين وتجعلهم أسرى لطقوسهم وتقاليدهم!؟ النخبة المستفيدة من هذه الوضعية هي، بلا ريب، الفئة المسيطرة على الاقتصاد والإنتاج وفئة التقنوقراط المتكالبة على الكراسي ومراكز القرار، والتي اقترح الأستاذ رشيد نيني أن تصنع لها كراسي من نوع «تيفال» لكي لا تلتصق لمدة أطول وتغادرها، عسى ألا تتعفن ولا تعطي روائح عطنة تفسد للود قضية. منذ عهد الحسن الثاني، وهو الذي أوصى بألا يلتصق أحد من ذوي السلطة والنفوذ بكرسيه أكثر من أربع سنوات، لم يتجرأ أحد على أن ينبش في الفساد الذي يخلفه الالتصاق بالكراسي من خلال التوظيفات العائلية والزبونية والحزبية الضيقة وتبادل المزايا الشخصية عن طريق إبرام الصفقات وتكوين لوبيات اقتصادية للضغط والتحكم في معاش الفئات الاجتماعية الخادمة. ومنذ صدور أول عدد من جريدة «المساء» منذ ما يزيد على خمس سنوات إلى تاريخه، بل وقبل ذلك، انبرى الأستاذ رشيد نيني للكشف عن مواطن الخلل وبؤر الفساد وتعريتها بهدف إصلاح وعلاج نتائجها السلبية من خلال ما يزيد على 1430 مقالة في عموده اليومي بجريدة «المساء»، وتبين منذ أول مقال له في جريدة «الصباح» أن الرجل لم يستنشق هواء التخدير الذي يتسرب من الصندوق الأسود للسلطة المتنفذة والموالين لها لكسب ذوي الفكر الحر والجاهرين بالحقيقة مهما كان مصدرها، وأنه يتجه في منحى لم يسبق لأحد أن انتهجه في العمل الصحافي في المغرب المعاصر، إذ إن الاتجاهات كلها أضحت، كما كانت من قبل، تصب في قناة ممالأة السلطة وذوي النفوذ وأصحاب الجاه والمال في انقياد ظاهر لحكومة «الظل» التي تدير دواليب الدولة في الخفاء، هذا الكائن الزئبقي لمفهوم سياسي غير قابل في مضمونه للإحاطة به ولا يمكن حصره في فكرة معينة وغير خاضع للتحكم، يبقى مثيرا للجدل في زمننا المغربي الحاضر، والذي وجد رئيس أكبر حزب في المغرب، الاتحاد الاشتراكي، في فترة التناوب الديمقراطي المزعوم، نفسه مسيرا عاجزا عن تحقيق ما كان يطمح إليه من تغيير من الداخل، كمعارض كبير، ومؤسس لمعارضة النظام سابقا، فلم يبق في الساحة السياسية، بعد «مداجنة» القياديين في الأحزاب واحتواء أهداف اليسار وحصرها في اتجاه بناء المستقبل، بعد جبر الضرر الناجم عن سنوات الرصاص، والوعد بتمهيد الطريق نحو اعتلاء الكراسي بالمنهجية الديمقراطية، لم تبق هناك معارضة حقيقية تكشف عن أعراض الأمراض التي تهدد جسم الدولة بالانحلال والتفسخ، وهي معارضة استشعارية ضرورية للتنبيه إلى مخاطر محدقة ومتفاقمة قد تعطل وظائف الدولة. وأعتقد أنه نتيجة لهذا الفراغ في ساحة المعارضة من أجل مصلحة البلاد، كانت كتابات رشيد نيني هي الحلقة المفقودة في الجسم الصحافي لشغل جزء من هذه الساحة، فما دام جهاز الاستشعار بالمخاطر معطلا بفعل التهافت على المصالح والجري وراء تحقيق المزايا وركوب رياح الأصالة والحداثة للوصول إلى مراكز الإثراء، فإن القلم الذي استطاع أن يقوم بهذا الدور للكشف عن بؤر الفساد واستغلال المناصب لمآرب خاصة جدير بأن تنوه به الدوائر الحكومية الحريصة على أمن الدولة، والتي من المفروض أن تقوم بالتحري والبحث في شأنها وتطبق مبدأ المسؤولية والمساءلة في حق كل من أخل بمسؤوليته، سواء في الإعلام أو تدبير الشأن العام، بدل الانقلاب على ناشر المعلومة باعتقاله ومحاكمته، ضدا على قانون الصحافة، بالقانون الجنائي واجب التطبيق على الوقائع المنشورة في الصحافة. أما ناشر المعلومة، وعلى فرض أن البحث قد أبان أن الوقائع غير صحيحة وتدخل بالتالي في نطاق الوشاية الكاذبة، فإن قانون الصحافة أولى بالتطبيق على نازلته، لأنه قانون خاص بالمهنة، مادام هناك امتهان للعمل الصحافي ولا يلجأ إلى القانون العام إلا في حالة خلو القانون الخاص من نص يجرم الفعل المنسوب إلى المتهم، فالمبدأ في القانون أن «لا جريمة ولا عقوبة إلا بالنص» وأن «الخاص يقيد العام». يتبع... ميمون الوكيلي - باحث في القانون الاجتماعي ومهتم بالقضايا العادلة وحقوق الإنسان