لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....» كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك قائد الدولة الأموية قد عيّن موسى بن نصير واليا للمغرب بعد اشتداد الثورات والنعرات الطائفية فيه (خلفا لحسان بن النعمان)، خاصة من طرف النصارى الإسبان والبربر، التي عمل النعمان على قمعها واستعادة ما استولي عليه من مدن المغرب كطنجة، التي قام بتحريرها واختار لها (أي موسى بن نصير) طارق بن زياد ليكون واليا عليها.( ولد طارق بن زياد «بربري من قبيلة «الصدف» التي كانت خيامها تقام بجبال المغرب العالية» في القرن الأول الهجري سنة 50 للهجرة، وأسلم على يد موسى بن نصير أمير إفريقيا آنذاك وكان من أشد رجاله ومظهرا قدرة عالية على القتال والاستبسال في ساحة المعركة). وبعد أن قضى موسى بن نصير على الفتن المنتشرة ودانت له جميع أراضي المغرب، لم يبق له سوى مدينة سبتة التي كان يحكمها «الكونت يوليان»، التي تقول المصادر إنه كان مواليا لحكام ايربيرا القوطيين وتيرزا الذي يعرف في التاريخ العربي باسم غيشطة وابنه أخيلا الثاني، وكان حينها «لذريق» قد قام بانقلاب على «غيطشة» مما أثار حنق «يوليان» وأراد الانتقام، فاستعان بالقوة الإسلامية المتنامية لدحر لذريق (تذكر بعض المصادر الأخرى بأنه كانت ليوليان ابنة أرسلها لبلاط لذريق كما يفعل جميع النبلاء لتخدم عنده، فأعجب بها لذريق وراودها عن نفسها وافتضّ بكارتها مما أثار غضب يوليان وعزم على الأخذ بالثأر ). معركة وادي لكة سارع يوليان بإخبار موسى بن نصير برغبته في مساعدته لهزم لذريق على أن يساعده يوليان نفسه إذا ما أراد احتلال اسبانيا، خاصة أن ابن نصير كان يرنو إلى ذلك ويطمح إليه منذ وقت طويل، وتم الاتفاق مبدئيا بينهما على أن تسلم مدينة سبتة للمسلمين مقابل معاونتهم ليوليان ضد لذريق قبل أن يعمد موسى بن نصير إلى استشارة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي أجابه قائلا: «خضّها بالسرايا حتى تختبرها ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال»، فأرسل موسى بن نصير سرّية للاستطلاع قوامها 100 فارس و400 من المشاة تحت قيادة طريف بن مالك الذي قام بالتوغل في الأندلس حتى وصل الجزيرة الخضراء. استهوى الأمر موسى بن نصير، فأخذ بتجهيز قوات المسلمين تحت قيادة طارق بن زياد للانضمام إلى سفن يوليان حاكم سبتة حتى وصلت الجيوش للمنطقة الصخرية الساحلية التي تعرف اليوم باسم «جبل طارق» ليسارع الجيش إلى التقدم تاركا السفن ضاما في صفوفه 7000 مقاتل من العرب والبربر نحو قادس التي احتلها والجزيرة الخضراء التي بقي حاكمها «سانتشو» يقاوم فيها حتى آخر رمق. أخذ طارق في الاستعداد للمعركة الحاسمة، فاختار موقعًا مناسبًا في وادي لكة، يستند في أجنحته على موانع طبيعية تحميه، ونظم قواته (قيل إنه أصدر أوامره بإحراق السفن ولكن ذلك محل خلاف لدى المؤرخين) وقام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حثّ المسلمين على الجهاد، ورغَّبهم فيه واستثار حماستهم وخطب فيهم قائلا: «أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (يقصد لذريق)، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُكُمْ على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي، فقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا، وأختانًا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظُّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمًا خالصا لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله – الله – ولَّى أنجادكم على ما يكون لكم ذِكرًا في الدارين، واعلموا أنني أول مُجيب لما دعوتكم إليه، وأني عند مُلتقى الجمعين حامل نفسي على طاغية القوم لذريق، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلب عاقد تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من الاستيلاء على هذه الجزيرة بقتله؛ فإنهم بعده يُخذلون». في هذه الأثناء كان الملك لذريق منشغلا بإخماد إحدى الثورات في «بمبلونة» بشمال البلاد غارقا في النزاعات الأهلية ليتجه مباشرة (بعد سماع تحركات جيش المسلمين وجيش يوليان) جنوبا صوب قرطبة بجيش قوامه 40 ألف مقاتل لمواجهته عند «وادي لكّة» (وقعت هذه المعركة في التاسع من يوليوز 711 ميلادية على ضفاف وادي لكة بالجنوب الاسباني بين جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد والجيش القوطي بقيادة الملك القوطي الغربي «رودريغو» الذي يعرف في التاريخ الإسلامي باسم «لذريق») قرب مدينة قادس التي كانت جيوش «الكونت يوليان» قد سبقته إليها إلى جانب جيش طارق بن زياد، لتدوم المعركة لثمانية أيام قاوم خلالها القوط مقاومة عنيفة حتى أدت إلى انهزامهم بعد انسحاب لوائيين من ألوية جيشه هذا من جهة، وحالة الإرباك التي أصابت الجيش جراء بوادر الهزيمة وتصاعد الأنباء حول مقتل قائده الملك لذريق من جهة ثانية. وبعد هذا النصر تعقب طارق بن زياد فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار وسار بجيشه مستوّليا على بقية البلاد متجها نحو الشمال إلى طليطلة التي بثّ أثناء طريقه إليها بحملات صغيرة لاحتلال المدن، فأرسل «مغيثا الرومي» إلى قرطبة في سبعمائة فارس واقتحم أسوارها واستولى عليها وأرسل حملات مماثلة إلى غرناطة والبيرة ومالقة وقام باحتلالها أيضا. وبعد أن وصل طارق بن زياد إلى طليطلة مخترقا هضاب الأندلس (كانت تبعد عن ميدان المعركة ما يزيد عن 600 كيلو متر) وجد أهلها من القوط وقد فرّوا منها نحو الشمال بأموالهم ولم يبق منهم سوى القليل مبقيا عليهم تاركا لهم كنائسهم وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرية لإقامة شعائرهم الدينية، ليتابع زحفه شمالا مخترقا «قشتاله» ثم «ليون» حتى أشرف على تغر «خيخون» الواقع على خليج بسكونية ليتوقف زحفه وفتوحاته بعد أن تلقى أوامر موسى بن نصير بوقف الغزو حتى يأتي إليه بقوات كبيرة استعدادا للمجهول. عبور الأندلس كان ابن نصير يتابع تحركات طارق بن زياد وفتوحاته في الأندلس أول بأول حتى أدرك انه في حاجة إلى مدد بعد أن قتل في المعارك ما يقارب على نصف جيشه، ليلحق به ابن نصير على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل من العرب وثمانية آلاف من البربر عابرا طريقا آخر غير التي عبر منها طارق بن زياد (رمضان 93هجرية /712ميلادية) فبدا بالجزيرة الخضراء ثم استولى على «شذونة» ثم «قرمونة» «فاشبيلية» و«ماردة» حتى وصل إلى طليطلة حيث جيش طارق بن زياد (سنة 94 هجرية/713ميلادية). وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة، عادوا إلى الغزو من جديد زاحفين نحو الشمال الشرقي مخترقين ولاية «أراجون» مستولين على «سرقطة» و«طركونة» و«برشلونة» قبل أن يفترقا كل في طريق مختلف، فسار طارق بن زياد ناحية الغرب واتجه موسى بن نصير شمالا وبينما يسير القائدان في فتوحاتهما وصلتهما رسالة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يطلب عودتهما فورا إلى دمشق تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي شارك في الغزو والفتوحات فضم بعد ذلك منطقة الساحل الواقعة من «مالقة» و«بلنسية» وأخمد الثورات في اشبيلية، لتتحول الأندلس إلى تاريخ إسلامي جديد بعد نشر الإسلام واللغة العربية وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون حتى سقطت غرناطة آخر معاقل الخلافة الإسلامية في أيدي الأسبان النصارى سنة 897 هجرية 1492 ميلادية. وظل في القيادة ومن فتح إلى آخر حتى توفي في العام 720 ميلادية معدما فقيرا بالعاصمة السورية دمشق. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب