-1 المثقف الملتزم.. حامل وحامي القيم حضر المثقف في المخيلة الاجتماعية دائما، باعتباره حاملا للقيم الإنسانية السامية ومدافعا عنها، فالثقافة لم تكن يوما ترفا ولا تخصصا تقنيا فقط، ولكنها حضرت كمسؤولية يتحملها المثقف في الدفاع عن قيم العدالة والحرية والمساواة... وقد تحمل المثقف دائما هذه المسؤولية عن جدارة واستحقاق، من سقراط الذي كان يولد الأفكار من الناس (كما تولد أمه النساء) في تحد لرقابة السلطة السياسية، التي تعتبر توليد الأفكار خطرا على تماسكها واستمراريتها. ومحنة ابن حنبل، الذي تحدى الدولة وعارض إيديولوجيتها جهارا، متحملا في ذلك كل أنواع الأذى، ونكبة ابن رشد، الذي نفي حيا وميتا وأحرقت كتبه، كإحراق رمزي للرجل ولفكره. وفي عصرنا الحديث، لا نعدم مثل هذه النماذج الثقافية، ويحضر الأديب الفرنسي (إميل زولا) كرمز دال، حيث واجه الدولة الفرنسية في قضية (دريفوس) وتحمل في ذلك، المحاكمة والنفي. كلها رموز دالة تعتبر بالنسبة إلينا اليوم، معالم طريق لا يجب أن نحيد عنها، لأن الدول والمجتمعات، هي دوما في حاجة إلى هذا الضمير الجمعي الذي يثور وينتفض كلما أحس بأن القيم الإنسانية التي ناضلت من أجلها الشعوب والأمم عبر التاريخ تنتهك حرمتها، سواء من طرف الدولة كسلطة سياسية أو من طرف مجموعة اجتماعية... نحن هنا لا نسعى إلى تحميل المثقف مسؤولية أكبر من قدراته الذاتية وكذلك أكبر من قدرات المرحلة التي ينتمي إليها، ولكن ما ندافع عنه هو أن تبقى شعلة الضمير متقدة لدى المثقف، وألا يستكين إلى تخصصه التقني الدقيق، بل يجب عليه أن يدرك أن تخصصه هذا، رغم طبيعته التقنية، يمكنه من قدرات لا يمتلكها غيره، تساعده على تشكيل فكر نقدي، لا يقبل المهادنة ولا التساهل، في كل ما يخص شؤون الدولة والمجتمع. فالمثقف وحده الذي يمكنه أن يمتلك الجرأة الفكرية اللازمة، وكذلك الوضوح المنهجي اللازم، في إبداء الرأي وفرضه من خلال استثمار رأسماله الرمزي. وهذا الرأي ليس دائما تخصصا تقنيا دقيقا، بل يمكن أن يتجاوزه إلى شؤون المجتمع والسياسة والاقتصاد، ولذلك فإن شؤون الدولة مثلا ليست حكرا على محترفي السياسة وأساتذة القانون، بل هي قضية فكر ونضال تهم جميع المثقفين من جميع المشارب الفكرية وجميع التخصصات العلمية. إن ما دفعنا إلى هذا الحديث هو ما يجري الآن في العالم العربي من حركة تغييريه، يربطها الكثير من المتتبعين بشباب الفايسبوك، مع ما يتردد من إلغاء لدور المثقف في تحريك الشارع العربي وفي صناعة التغيير في الأخير. ما يجب أن نقر به أولا هو أن المثقف العربي خرج لوقت طويل من الصراع الاجتماعي والسياسي، وخصوصا بعد أن داهمته العولمة في عقر داره، وخلقت فاعلين جددا، لعبت وسائل الاتصال الحديثة دورا كبيرا في تشكيلهم. لكن ما يجب أن نؤكده أيضا هو أن مقولة (موت المثقف) التي يروج لها البعض لا تعدو أن تكون فرقعة إيديولوجية، يراد منها إقصاء المثقف من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه العالم العربي، وذلك لأن المثقف، رغم غيابه الاضطراري، يظل فاعلا في صناعة الرأي العام وكذلك في توجيهه، وعندما نتحدث عن شباب الفايسبوك، فهم في أغلبيتهم تلاميذ وطلبة، يحملون وعيا سياسيا واجتماعيا متقدما، ويمتلكون كفايات تقنية متفوقة، وكل هذا يعود الفضل فيه إلى الطبقة المثقفة التي تحمل رسالتها كاملة في نشر المعارف الحديثة، سواء في مجال العلوم الإنسانية أو في مجال العلوم الطبيعية والتقنية. وحتى على المستوى النضالي، سياسيا واجتماعيا، يحضر المثقف مستثمرا رأسماله الرمزي لإضفاء الشرعية على النضالات الشعبية، سواء على مستوى التنظير أو التحليل أو التأطير، وكلها مهام ضخمة تظهر آثارها واضحة على مستوى الحراك الشعبي. -2 بيان من أجل الديمقراطية.. عودة المثقف المغربي الملتزم في إطار الحركية الاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم العربي، دخل المغرب مرحلة جديدة من النضال الشعبي لترسيخ قيم الديمقراطية ونموذج الدولة المدنية الحديثة. وقد دشنت حركة (20 فبراير) لهذه المسيرة النضالية عبر تأطير الشارع المغربي وتوجيهه للمطالبة بإصلاحات دستورية وبمحاربة الفساد المستشري في الحياة العامة. في البداية، سمعنا أصواتا ثقافوية وسياسوية، تحاول تبخيس قيمة هذه الحركة، باعتبارها فاقدة للرؤية والمشروع معا، وباعتبارها حركة فاقدة لقوة الدفع، ولذلك فإنها -من منظور هؤلاء- حركة بآفاق ضيقة، لا يمكنها أن تذهب بعيدا في مطالبها الإصلاحية. كما حاول بعض أدعياء الثقافة، من منظور (أكاديمي) مغلق، إصدار أحكام قيمة، لا تستند إلى معايير الواقع، حينما اعتبروا أن الشعب المغربي قاصرا عن المطالبة بالإصلاح السياسي/الدستوري، فيما ذهب البعض مدى أبعد، حينما شرح وفسر أكثر، واعتبر أن المغاربة ما زالوا قاصرين عن المطالبة بالملكية البرلمانية! كنا نقرأ ونتابع كل هذا، وفي كل مرة نستغرب أكثر ونتساءل في حيرة: ماذا يريد هؤلاء؟ هل حقا يمكن لكل حامل شهادة جامعية أن يكون مثقفا؟ أم إن الثقافة التزام فكري وأخلاقي قبل أن تكون تخصصا تقنيا يتوج بشهادة جامعية؟ انتظرنا لوقت طويل خروج مثقفينا من أبراجهم العاجية، لمساندة نضال شعبهم الطامح إلى الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة... وأخيرا خرج علينا بيان موقع من طرف نخبة ثقافية، نكن لها كل الاحترام والتقدير، ونعرف جميعا إسهاماتها الرائدة في مجال التفكير والإبداع، كما نعرف جميعا قيمتها الأخلاقية السامية، التي تجنبها السقوط في المزايدات السياسوية الرخيصة. لما اتصلت بي الصحافية المقتدرة (عائشة التازي) من الإذاعة الوطنية المغربية يوم الخميس 09 يونيو في برنامجها (بانوراما) ضمن فقرة (منبر حر) واقترحت علي اختيار حدث يشغلني خلال هذا الأسبوع، لم أتردد ثانيةً في اختيار الحديث عن (بيان من أجل الديمقراطية)، ليس باعتباره حدث الأسبوع فقط، ولكن باعتباره حدث السنة، ولمَ لا أهم حدث في مسيرتنا النضالية بعد تاريخ عشرين فبراير. جاء (بيان من أجل الديمقراطية) موقعا من طرف أربعين مثقفا مغربيا، من مختلف المشارب الفكرية والإبداعية: (أحمد الخمليشي - أحمد المديني - ادريس بنسعيد - جليل طليمات - ربيعة ريحان - رقية المصدق - سالم يفوت - سعيد يقطين - شرف الدين ماجدولين - عبد الإلاه بلقزيز - عبد الجليل ناظم - عبد الحميد عقار - عبد الرحمن العمراني - عبد الصمد الديالمي - عبد الغني أبو العزم - عبد الفتاح الحجمري - عبد القادر الفاسي الفهري - عبد الله حمودي - العربي الجعيدي - العربي مفضال - علال الأزهر - علي كريمي - محمد الأشعري - محمد برادة - محمد بنيس - محمد جسوس - محمد الحبيب طالب - محمد الدكالي - محمد زرنين - محمد سبيلا - محمد سعيد السعدي - مصطفى المسناوي - محمد المريني - محمد الناصري - موليم العروسي - الميلودي شغموم - نجيب العوفي - نور الدين أفاية - نور الدين العوفي). حاول البيان في البداية، التوقف عند الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه بلادنا، في علاقة بموجة الثورات والانتفاضات المندلعة في عدد من الساحات العربية والمتقاطعة معها في مطلب التغيير وشعاراته، كما أكد البيان أن قوى هذا الحراك من «حركة 20 فبراير» وقوى وطنية وتقدمية، تلتزم برؤية للمستقبل السياسي، تلحظ فيها تعديلا عميقا في علاقات السلطة، يقوم على إقرار نظام الملكية البرلمانية والتوزيع العادل والمتوازن للسلطة بين مؤسسات منتخبة بنزاهة وشفافية وخاضعة للمساءلة الشعبية. وفي هذا الإطار، يعترف الموقعون على البيان بأن الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011 قد سجل لحظة من التجاوب مع مطالب هذا الحراك، فأطلق مبادرة إصلاحية في المجالين السياسي والدستوري، على قاعدة الجهوية والمبادئ السبعة المعلنة فيه. يتبع... إدريس جنداري - كاتب وباحث أكاديمي مغربي