في البديات الأولى للأنترنيت، لم يكن أحد يتصور أن الأربعة مليارات عنوان المستعملة في الشبكة ستصبح يوما ما غير كافية لتلبية الحاجيات المتزايدة لزوار الشبكة. بالفعل، فإن النسخة الرابعة لبروتوكول الأنترنيت المستعملة منذ ثلاثين سنة، صُمِمت من أجل تمكين ربط جميع الحواسيب الموجودة على الشبكة. من هذا المنظور، لم يكن يُتصور أن عدد العناوين التي توفرها النسخة الرابعة سيصبح بسرعة غير كاف. في بداية شهر فبراير المنصرم، تم الإعلان رسميا من طرف سلطة تخصيص عناوين الأنترنيت (يانا) عن انتهاء العناوين المتوفرة لديها، بمعنى أنه لم يعد ممكنا توفير عنوان أنترنيت جديد غير مستعمل، مما يشكل، لا محالة، نهاية بروتوكول الأنترنيت، في نسخته الرابعة، على مستوى العنونة والتي تشكل إحدى أهم وظائف هذا البروتوكول، فغني عن البيان أنه بدون عنوان أنترنيت رقمي لا يمكن لأي مستعمل ولوج الشبكة للإستفادة من خدماتها. الآن، نحن بصدد التحول إلى استعمال النسخة السادسة من بروتوكول الأنترنيت، مما يفتح آفاقا كبرى وتحولات جذرية في عالم الشبكات والاتصالات. فإذا كان استعمال عناوين الأنترنيت قد اقتصر، منذ بدايات الأنترنيت إلى وقت قصير، على تمكين الحواسيب من الاتصال في ما بينها، فإنها الآن قد امتد استعمالها إلى مجال الهواتف المحمولة والتلفزة الرقمية وعدة مجالات أخرى، مما يفسر تزايد الطلب على عناوين الأنترنيت وبالتالي نُدرتَها. لقد شكل الإعلان الرسمي لنهاية عناوين النسخة الرابعة لبروتوكول الأنترنيت ميلادا جديدا لشبكة الأنترنيت التي أصبح مستقبلها يتحدد من خلال اعتماد كل الفاعلين على النسخة السادسة من بروتوكول الأنترنيت والتي تمكن من توفر عدد «خيالي» من العناوين الرقمية، لا تبدو، على المدى القصير أو المتوسط، إمكانية نفاذها. بالفعل، سيمكن الانتقال إلى النسخة السادسة من بروتوكول الأنترنيت من انبثاق أنترنيت جديدة، من حيث كونه سيسمح بنموها السريع، وسيشجع الابتكارات الجديدة على مستوى الخدمات المتوفرة في الشبكة، فالأنترنيت في الوقت الحاضر يطغى على كل تفاصيل حياتنا اليومية، بدءا من إرسال الرسائل والتويت والصحافة الإلكترونية والتدريس عن بُعد، إلى الاتصالات الهاتفية عبر بطاقات الدفع،... مما يؤدي إلى ظهور نوع من الوجود الرقمي في كل مكان (ubiquité). هكذا، فإذا كان الانتقال إلى استخدام النسخة السادسة من بروتوكول الأنترنيت يُعتبر، إلى وقت قريب، خيارا قد نلجأ إليه، فهو الآن واجب يفرض نفسه على الجميع، سواء تعلق الأمر بمزودي خدمات الأنترنيت أو تعلق بمديري الشبكات. من بين التغيرات والمفاهيم الجديدة التي نراها مع عهد الإصدار السادس من بروتوكول الأنترنيت، والتي تشكل «قطيعة» مع ما سبقها وطفرة هائلة في عالم الاتصالات، إمكانيةُ ربط الأشياء التي تحيط بنا ببعضها، وبالإنسان بصفة خاصة. فالآن أصبح من الممكن لأي مستعمل للأنترنيت أن يتحكم عن بعد، من خلال الشبكة، في الأجهزة الموجودة في بيته، مثلا، من الثلاجة لمعرفة ما ينقصه قبل الرجوع إلى المنزل، إلى معرفة درجة الحرارة أو الرطوبة في ضيعته أو حقله، وبالتالي التحكم عن بعد في هذه المقاييس. يكفي لهذا الغرض أن نزود هذه الأشياء ببطاقة صغيرة تحمل عنوانا رقميا للأنترنت! إنه امتداد شبكة الأنترنت إلى العالم الواقعي حيث يتم ربط كل شيء بالشبكة أو ما اصطلح عليه بأنترنيت الأشياء. ومن الواضح أن هذا هو نتيجة مباشرة للكم الهائل من العناوين التي توفرها النسخة السادسة من بروتوكول الأنترنيت بالقياس إلى سابقتها. الأدهى من هذا هو أنه في عالم أنترنيت الأشياء يصبح دور الإنسان ثانويا. فجميع الكائنات والأشياء متصلة بواسطة شبكة الأنترنيت، وهي قادرة على التواصل في ما بينها بدون تدخل بشري. لكنه من جانب آخر، فإن أي شيء يتم وصله بشبكة الأنترنيت إلا ويزداد خطر اقتحامه عن بعد من خلال الشبكة، مما يعيد طرح الأسئلة المتعلقة بالأمن والسلامة في الأنترنيت والتي أضحت الهاجس الأكبر لكل المشتغلين في ميدان الشبكات. إذا كانت الأشياء، في عهد الأنترنيت الجيدة، قادرة على التواصل واتخاذ القرارات من دون تدخل الإنسان، فإننا نقف على مشارف إلغاء دور الوسيط البشري في عالم الاتصالات والتواصل، ومن ثم تصبح إعادة تعريف الأنترنيت إشكالية حقيقية يجب على كل الفاعلين والمهتمين الانكباب على حلها. وفي جميع الأحوال، فإنه في أنترنت الغد ستصبح الحدود بين التكنولوجيا والخيال واهية. نبيل بنعمرو - أستاذ باحث في الإعلاميات