قد تكون صفحات (الانتفاضة الثالثة) بداية لثورة سلمية فلسطينية على غرار الثورات العربية المعاصرة. دعوات إثر دعوات توالت على شبكة الأنترنيت، وكلما أغلقوا صفحة على «الفيس بوك»، أنشأ الشباب صفحة أخرى، وشارك مئات الآلاف من الشباب العربي في دعوة الزحف المقدس إلى إشعال الانتفاضة الثالثة، وأيا ما كان حظ تحركات الزحف الأول على حدود فلسطينالمحتلة، فإن العجلة دارت وبدأ العد التنازلي إلى ساعة صفر جديدة، تشتعل فيها ثورة سلمية جديدة على خط النار وجبهة الاحتلال الإسرائيلي . التحرك التلقائي لشباب الثورات العربية أشبه بحاضنة جديدة لحلم الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، ويثبت الطبيعة الوطنية الخالصة للثورات العربية المعاصرة التي حملت الشعارات الديمقراطية إلى أقصى مداها، وأعادت تفجير الطاقات المختزنة، وأثبتت عمق العداء الشعبي للاستعمار الأمريكي وربيبته الصهيونية التي تحالفت معها نظم عربية قاهرة وسارقة ومحتلة لشعوبها، ولعبت دور «أخوات إسرائيل» التي تتساقط تباعا. نعم، الثورات العربية المعاصرة تخلق حاضنة لفلسطين، وليس العكس كما يشاع، والنظم العربية المتهاوية هي حائط الحماية لإسرائيل، وهي 22 إسرائيل في 22 عاصمة عربية، وكلما تهاوت إسرائيلهم في عاصمة عربية، عنى ذلك اقترابا من خط المواجهة مع إسرائيل الأصلية، وهو ما يفسر عملية اقتران الزحف الشعبي لخلع الحكام من القصور المغصوبة، وكسر القيود التي تكبل الأيادي، وكسر الأقفال على الأفواه، وتحطيم العجز الذي كتب علينا بدون وجه حق ولا استقامة منطق، وكان طبيعيا أن يحدث الاقتران وأن تعيد شعوب الأمة العربية اكتشاف قوتها الكامنة، والقادرة على إعادة النجوم إلى مداراتها، وإعادة بناء طوق حركة شعبية تجعل تحرير فلسطين هدفا ممكن التحقيق في التاريخ الجاري، وليس مجرد حلم ساكن في الوجدان والمخيلة الشعبية المراوغة. وبدلا من دعوى انصراف الشعوب العربية إلى أوجاع قطرية داخلية، وابتعادها بالتالي عن الهم الجامع على جبهات الاحتلال في فلسطين والعراق، فقد أثبت سير الحوادث أن القصة مختلفة تماما، وأن النظم الديناصورية العربية هي التي تلفت النظر عن الارتباط بفلسطين، بينما حركة الثورات العربية السلمية المعاصرة تلفت النظر إلى فلسطين وتمد العمل الفلسطيني ذاته بطاقة خلق جديدة، وتثير فزع إسرائيل وتهدد احتلالها بنهاية تشبه نهاية النظم الرديفة. وقد لا تكون مصالحات «فتح» و«حماس» مهمة في ذاتها، وإن كان حصولها في ذاته أثرا مهما للثورات العربية، وأثار ارتياحا شعبيا فلسطينيا عاما لا يفارقه القلق، ولا يصح أن يفارق، فالمصالحة باتجاه «أوسلو» وباتجاه بؤسها العظيم ليست هي المطلوبة، ولا تعني سوى الدوران مجددا في حلقات اليأس المفرغة، بينما وقف صداع الانقسام يتيح فرصة التفكير المرتب والهادئ والمنطقي الذي يذكر بأصل القصة لا بعوارضها، فالاحتلال هو أصل المأساة، وللشعب الفلسطيني مآثره وكفاحاته وانتفاضاته الملهمة التي هي عناوين وجوده وأدلة تصميمه على تحرير وطنه شبرا فشبر، وعبر انتفاضتين هما الأحدث، الأولى في 1987 والثانية في 2000، الأولى بالتحرك السلمي وما ملكت الأيدي من حجارة الأرض المقدسة، والثانية بانتفاضة الغضب وعمليات الاستشهاد والفداء النوعي، وكان الحصاد ظاهرا بالميزات والنواقص فيه، فقد ضاعت قوة دفع الانتفاضة الأولى في سراديب ومتاهات أوسلو، وانتهت الانتفاضة الثانية إلى تحرير غزة إلا قليلا، بينما ظلت الضفة والقدس تحت احتلال منخفض التكاليف بالنسبة إلى إسرائيل ومتوحش الأثر بالنسبة إلى الفلسطينيين، يغير خواص الجغرافيا والديموغرافيا ويلتهم الأراضي بالاستيطان والتهويد ويدمر تنظيمات وخلايا العمل الفدائي بتعاون ووكالة أمنية لسلطة رام الله، والمحصلة مجددا، غزة المحررة نسبيا مهددة، والقدس يجري ابتلاعها، والضفة مثقوبة بالمستوطنات، والجدار العازل يخنق الناس في قفص حديد، ثم أخيرا مصالحة توحي بحكومة واحدة للبؤس، وبدلا من حكومتين، وكأن الأرض تحررت وتنعمت ولم يبق سوى حسم صراعات سلطة يجري التصالح عليها، وربما الفناء فيها. قراءة توحي بانسداد طريق، لكنها تفتح الباب لطريق آخر، يستعيد الألق لقضية فلسطين بحركة الناس، وليس بإعادة تنظيم صفوف الحراس، فحركة الناس وحدها هي التي تجعل المستحيل ممكنا جدا. وعلى غرار معجزات الثورات العربية المعاصرة، فقد كانت حركة الشعب الفلسطيني ملهمة لكل العرب، وآن للفلسطينيين الآن أن يتعلموا الدرس من إخوتهم العرب في أقطار الجغرافيا القريبة بالذات، وأن يشعلوا انتفاضة سلمية ثالثة على النسق نفسه، وبتطويع مفهوم باختلافات التفاصيل، وبوضع فصائل السياسة على أطراف المشهد، وليس في قلبه، وبهدف وجودي جامع هو إنهاء الاحتلال، وبضربة واحدة، جغرافيتها الأساسية في القدس والضفة الغربية، وبدعم مباشر من جماهير غزة قد ييسره شعور المصالحة، وفي صورة مطابقة لأصل الثورات العربية السلمية، اندفاع شبابي واسع بمئات الآلاف إلى الشوارع والساحات وعند الحواجز والجدار العازل والمستوطنات، والاتصال في تحرك مستعد للاستدامة شهورا على طريقة ثورة اليمن الباسلة، وتقبل لتضحيات ومكاره وسقوط شهداء ومصابين بالآلاف، ورفع علم فلسطين وحده دون أعلام الفصائل، وعدم مبادلة السلاح الإسرائيلي بأي مقاومة بالسلاح خلال الانتفاضة السلمية، والاقتصار في الحد الأقصى على المقاومة بالحجارة، وعدم وقف الانتفاضة بغير تحقيق الهدف المرحلي المجمع عليه في تحرير غزةوالقدس والضفة، والتركيز على تعظيم التحركات في أيام الجمع والآحاد بالذات، والجمع بين شعار إنهاء الاحتلال الجامع وشعارات أخرى تندرج تحته، من نوع وقف التعامل مع البضائع والمستوطنات الإسرائيلية ووقف التعامل مع أي طرف فلسطيني يتعاون مع سلطات الاحتلال، ثم المطالبة باستعادة الأسرى وتجنب التورط في أي اتفاق متعجل ينطوي على وعود مؤجلة التنفيذ وتخصيص أيام تضامن ودعم لمبادرة شباب وجماهير الضفة والقدس، وتنتظم فيها تحركات جامعة للفلسطينيين وراء الخط الأخضر وفي أقطار الشتات وفي العواصم العربية والإسلامية والعالمية، وتأجيل انتخابات الهيئات الفلسطينية الناظمة إلى ما بعد إنهاء الاحتلال. وكاتب المقال لا يخاطب الفصائل الفلسطينية في الأساس، وإن كان لا يستثنيها بالطبع، بل يخاطب أولا أربعة ملايين فلسطيني في الضفة والقدسوغزة، ويخاطب ما يقارب المليون ونصف المليون فلسطيني من عرب 1948، ويخاطب ما يزيد على الخمسة ملايين فلسطيني في المخيمات وعواصم الشتات، وملايين لا تحصى من شباب الزحف العربي المستعد لنصرة فلسطين ونصرة ثورتها السلمية المرشحة بعونه تعالى لتكون أم الانتفاضات.