الكتاب الصادر هذا الأسبوع لروبير مينار ولزوجته إيمانويل ديفيرجيه (رئيسة تحرير ميديا) بعنوان «تحيا لوبن» (منشورات مورديكوس)، هو كناش أو كراس يتألف من 30 صفحة، وكان القصد منه ترك الانطباع بأن الأمر يتعلق بمنشور سياسي، خصوصا أنه نشر في سلسلة شعبية. واحتذاء بالاختراق الإعلامي، الذي حققه كتاب ستيفان هيسيل، «عبروا عن استيائكم»، حاول هذا الكراس، ذو الثمن الزهيد (4,90 أورو) أن يلعب على نفس الوتيرة والمنطق. إلى عهد قريب، كان الثلاثي بيرنار-هنري ليفي، أندريه غلوكسمان وآلن فينكيلكروت السلطة الثقافية والإعلامية المستنفذة في كتالوغات الناشرين وحلبات الإعلام المرئي، المكتوب والمسموع، يوجهون ويتحكمون في النقاش. كما أصبحوا بفضل هذه السلطة أصحاب مشورة يدلون بفتاوى لهذا الرئيس أو ذاك، كما حصل لفرانسوا ميتران، الذي رافق بيرنار هنري ليفي في زيارة إلى ساراييفو، أو ساركوزي الذي يستعد لمرافقة نفس الشخص إلى مدينة بنغازي الليبية. ولم يحظ العرب برضى أو عطف هذا الثلاثي، الذي «يدافع» في آن عن حقوق الإنسان ويناصر إسرائيل. لم ينسحب هذا الثلاثي نهائيا من المشهد، بل لا يزال نشطا وآخر «إنجاز» قام به بيرنار هنري ليفي هو الرحلة التي قام بها إلى بنغازي ثم استقباله لممثلين شيعيين من المعارضة الليبية وإعداده لزيارة ساركوزي إلى ليبيا. انبثاق الإعلاميين الاستئصاليين لكن في نفس المشهد الإعلامي والفكري يلاحظ انبثاق جيل جديد يعتبر امتدادا، بل تتمة لهذا الجيل. تقلب بعض منشطيه بين التروتسكية والاشتراكية على طريقة الحزب الاشتراكي، قبل قلب معاطفهم بكيفية راديكالية ومعانقة أطروحات المد اليميني، بل اليميني المتطرف. أعلام هذا الاتجاه يستحوذون اليوم على المنابر في العديد من القنوات التلفزيون والإذاعية، ويراكمون التدخلات في نفس الأجهزة الإعلامية. ويعتبر الإعلامي روبير مينار أحد هذه الأسماء. وقد أصيب الجميع بالدهشة، بل بالصعقة يوم إدلائه بتصريح يدافع فيه عن العقوبة بالإعدام. وكانت هذه الخرجة أول انزلاقاته نحو مواقف يمينية-متطرفة. يعزو البعض هذا التحول إلى الأصول التي حاول روبير مينار طمسها، والتي طفت اليوم على السطح. أصول يهودية، مسيحية وفاشية. ولد روبير مينار بمدينة وهران في السادس من يوليوز 1953، في الوقت الذي كانت الجزائر ماتزال مستعمرة فرنسية. استقرت عائلته بالبلد أبا عن جد منذ 1830، وكان والده مطبعيا كاثوليكيا وذا ميولات سياسية مقربة من المنظمة السرية المسلحة «OAS»، التي كانت تدافع بجميع أشكال العنف عن الجزائر الفرنسية. «كانت عائلتي تكره الديغوليين والشيوعيين» يقول مينار. غادرت عائلة مينار الجزائر إلى فرنسا مثل أغلبية الأقدام السوداء، وهو في التاسعة من عمره، أي بعد عامين على استقلال الجزائر، واستقرت بجنوب فرنسا ليتابع الشاب دروسا في إحدى الثانويات الدينية كي يصبح قسيسا. بعد انتقاله إلى مدينة مونبولييه اختار مادة الفلسفة، ليس عن قناعة، بل لأغراض تربوية فقط. بمدينة بيزييه، تقرب روبير مينار من الأوساط الفوضوية والتروتسكية قبل أن يصبح بين 1973 و1979 مناضلا في العصبة الثورية الشيوعية. انتقل بعد ذلك إلى الحزب الاشتراكي. وبعد أن عمل بالإذاعة، قرر رفقة الصحافي جان-كلود غيلبو والطبيب روني برومان، الذي كان يرأس آنذاك منظمة «أطباء بلا حدود»، إطلاق منظمة «مراسلون بلا حدود» عام 1985. وقد رأت المنظمة النور فعلا في 25 من يونيو 1985 بمدينة مونبولييه. منذ ذلك التاريخ ارتبط اسمه باسم أكبر القضايا التي داست فيها الأنظمة، الطاغية منها أو الديمقراطية، حرية الرأي والصحافة. كما نظم حملات كبرى لفضح السياسة الإعلامية وصيادي حرية الصحافة في العالم Prédateurs. وفي المناسبات الدولية، مثل تنظيم الألعاب الأولمبية أو الزيارات الرسمية لهؤلاء الصيادين من رؤساء الدول، كان يخرج على رأس مظاهرات تنديدية أمام سفارات هذه البلدان، مثل إيران، سوريا، الجزائر، الصين. اعتقل في 14 يوليوز 2008 في جادة الشانزيليزيه وكان يستعد للخروج على رأس مظاهرة ضد زيارة الرئيس بشار الأسد لفرنسا، وغادر المنظمة في 30 سبتمبر 2008، ليصبح مديرا لمركز استقبال الصحافيين بالدوحة بقطر، وكان المركز يحظى بدعم بلغت ميزانيته 3 ملايين دولار من خزينة دولة قطر. لم تكن منظمة «مراسلون بلا حدود» راضية عن هذا النوع من أساليب العمل. وقد استغرب البعض انقلاب روبير مينار للعمل لصالح بلد لا يتوفر على ذرة من الديمقراطية، إذ ليس للإعلام الحق في انتقاد العائلة الحاكمة، بل حتى الحكومة. وقد انتهت حكاية مينار مع داعمته الأولى، الشيخة موزة، بالقطيعة النهائية ومغادرته المركز. ومنذ 2009 نشط روبير مينار على قناة I-Télé في برنامج «مينار بلا موانع»، وهو برنامج يعطي فيه الكلمة لضيف في موضوع الساعة. لا نعرف الأسباب التي دفعت بالصحافي مينار إلى «قلب معطفه» والخوض في دعم أطروحات الجبهة الوطنية والتيار الشعبوي السائد. إذ باسم مناهضة الفكر السائد والمتفق عليه، دخل مينار المعترك لمناهضة قوى اليسار، ومناهضة الشواذ، والدفاع عن حكم الإعدام، بنفس الحميّة التي استعملها ووظفها للدفاع عن الأسرى من الصحافيين ومعذبي حرية الرأي. مواقف على طرفي نقيض، لا يشعر الصحافي روبير مينار أثناءها بأي إحراج ولا انقباض للضمير. إن الظرفية السياسية والاجتماعية التي تعرفها فرنسا، مع انسحاب المثقفين واستيلاء المثقف الإعلامي على حلبة الرأي، هي التي ساعدت على نماء مثل ظواهر الانحراف هذه، والانسياق الفكري نحو مواقف استفزازية أو تحريضية الغاية منها التشويش وخلط الأوراق. الكتاب الصادر هذا الأسبوع لروبير مينار ولزوجته إيمانويل ديفيرجيه (رئيسة تحرير ميديا)، بعنوان «تحيا لوبن» (منشورات مورديكوس)، يندرج في هذه الخانة. ويتعلق الأمر بكناش أو كراس يتألف من 30 صفحة، وكان القصد منه ترك الانطباع بأن الأمر يتعلق بمنشور سياسي، خصوصا أنه نشر في سلسلة شعبية. من جهة أخرى، واحتذاء بالاختراق الإعلامي، الذي حققه كتاب ستيفان هيسيل، «عبروا عن استيائكم»، حاول هذا الكراس، ذو الثمن الزهيد (4,90 أورو) أن يلعب على نفس الوتيرة والمنطق. يهدف الكاتب إلى تحفيز النقاش بناء على روح الاستفزاز. العنوان هو الدرجة صفر لهذا الموقف: تحيا لوبن.. يحيا لوبن، يقول روبير مينار وزوجته. نطلق هذه العبارة كتحدٍّ، كقفاز نلقي به في وجه عالم الصحافة، الذي يلعب دور المتعنتر أمام الجبهة الوطنية، لكنه- من خلال البرامج التلفزيونية وعبر التعاليق المكتوبة- يعبر عن كل أساليب الجبن حيال الجبهة الوطنية. الإعلام الذي يجند آلته لما يتعلق الأمر بالمس بحرية الرأي والتعبير، يصفق بحرارة لما يخص الأمر الضرب على اليمين المتطرف. «لا يتعلق الأمر هنا بالدفاع عن لوبن، الأب وابنته، بل بالتنديد بالسلوك القاضي بملاحقة الذين يعتبرون أن إبداء العطف أو الاهتمام بأفكار وتحليلات اليمين المتطرف يستحق لقب فاشي أو مؤيد للفاشية». ويوضح الكاتبان أن حرية التعبير متوفرة بالكاد في فرنسا. كما أنها محط احتفاء كما لو كانت من مفاخر التراث الوطني. ولهذا الغرض يجند الفيلسوف فولتير. كل ذلك من أجل الاستظهار والاستعراض الكلامي، لكن في الواقع اليومي، داخل هيئات التحرير، يُرمى بهذه الحرية في سلة المهملات، لما يتعلق الأمر باليمين المتطرف، يقول الكاتبان. بمعنى أن الرأي السائد يملي على الصحافي، مثلا، أن لا يتطرق إلى المواضيع التي تتنافى مع الآراء السائدة. «ثمة أشخاص ينصحونك بأنه في مصلحتك وفي مصلحة مستقبلك وسمعتك أن لا تستقبل، إن كنت منشطا لبرنامج تلفزيوني، ذاك الشخص ذا السمعة السيئة. إن الرقابة اليوم تأخذ مكانها إلى جانب الأخلاق. اسم هذه الرقابة هو مناهضة العنصرية، محاربة السامية، الفاشية، الدفاع عن الأقليات، وعن الأقليات الجنسية. تدفعنا هذه الأخلاق دائما إلى التعريف بهويتنا». في نظر مينار، في حالة ما استقبل لوبن في البرنامج الذي ينشطه، فذلك معناه في تصور الآخرين تأجيج الاستفزاز والعدوانية. أما توجيه الدعوة إلى الكوميدي ديودوني، فذلك من باب المستحيلات بحجة أن هذا الشخص مغضوب عليه وغير معترف به من طرف وسائل الإعلام. أما لما يتعلق الأمر بشخص يحمل أفكارا ثورية فلا حرج في ذلك. إن القاعدة الماركسية لجزء من النخبة الصحفية لا زالت صلبة. وتبعا لهذا المنطق، يقول مينار، فإن الدفاع عن حرية التعبير يتم تأويلها كدفاع عن اليمين المتطرف وعن المقربين منه. لما ننسحب ونتراجع عن خوض المعارك والجهر بالحقيقة، فإن المستفيد الأول يبقى هو إعلام الإجماع. هو الإعلام الذي يتفق مع كل شيء ويصفق لكل شيء. إننا أمام نوع خاص من الرقابة. من هذا المنطلق ثمة منشطون ومشرفون على برامج تلفزيونية قرروا عدم دعوة مارين لوبن، ومن قبلها والدها، باسم القيم الأخلاقية وباسم مبادئ المهنة بحجة أنهما فاشستيان، يقول روبير مينار، الذي يرى أن هؤلاء المنشطين من أمثال ميشال دريكير، لوران ريكييه، وغيرهما من المنشطين، يمول المال العام برامجهم. من ثم ينتقل مينار إلى هدم الحجج التي يستند عليها البعض لتبرير عدم توجيه الدعوة إلى رئيسة حزب الجبهة الوطنية، وهو أن هذه البرامج ترفيهية وليست سياسية. ويتساءل: في هذه الأثناء لماذا تحتضن هذه البرامج شخصيات سياسية مثل أوليفييه بوزانسنو التروتسكي أو جان-ليك مينلشون، رئيس حزب اليسار، الذي يدافع أمام آلاف المتفرجين عن فيديل كاسترو وهيغو شافيز؟
مارين لوبن.. «ضحية» إعلامية بعد دفاعه عن مارين لوبن وبسط الفكرة القائلة بأنها ضحية الإعلام الذي يهمشها باستمرار، وهي فكرة «بائخة» من أساسها على اعتبار أن مارين لوبن تحتل كل المساحات الإعلامية، من راديو وتلفزيون ويوميات وأسبوعيات، انتقل مينار إلى قضية إيريك زمور للإدلاء بدلوه، والقول إننا «نشاهد انبثاق بوليس فكري مشروعه هو محاربة التمييز تجاه الشواذ، النساء والمهاجرين». وتظهر المحاكمة، التي تعرض لها إيريك زمور، على خلفية اتهامه العرب والسود بالمجرمين، الدور المساعد للجمعيات. إيريك زمور هو بالكاد ضحية، لكن عليه، يتابع روبير مينار، أن يدافع بدوره عن الأشخاص الذين يخالفونه الرأي. الظاهرة السائدة في فرنسا هي أن الناس يدافعون عن حريتهم الشخصية أولا، ثم عن حرية الأصدقاء قبل حرية الآخرين. من جهة أخرى، ابتكر جان-ليك ميلنشون طريقة جديدة لاقت نجاحا كبيرا، هي «انتقاد الصحافيين والخبط عليهم من دون تمييز ولا هوادة». لكن بمجرد ما تنتقد مارين لوبن الصحافة حتى تقوم القيامة، يقول مينار. «الكيل بمكيالين» هو الكلمة السحرية التي تلخص أطروحة مينار وزوجته. لما يتعلق الأمر باليمين المتطرف، فإن الإعلام يغلق عينيه ويصم آذانه، لكن لما يبيح بعض الغلاة من اليسار المتطرف لأنفسهم ممارسة القذف، فإن هذا الإعلام لا تصدر عنه مواقف استنكار أو تنديد. لكن المؤلفين سقطا في المنطق ذاته الذي انتقداه: منطق ثنائية الخير والشر. إذ ينبني هذا المنطق على كراهية كل ما هو يسار ويساري: من جان-ليك ميلنشون إلى الفيلسوف آلن باديوه، الذي يعتبر ضميرا فلسفيا حيا لزمنه. الواضح أن روبير مينار وزوجته ينتميان إلى تيار عام آل على نفسه محاربة رموز الوعي، التي تناضل وتناهض اليمين المتطرف، الذي هو قيد التحول في مجموع أوروبا إلى هواء مشترك، حتى لا تبتذل أفكار العنصرية والإسلاموفوبيا.