ينقل حسين مروة في كتابه «تراثنا كيف نعرفه» محنة المثقف عبد الحميد الكاتب قائلا إنه حين فر مع مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، قال له مروان: «أنج بنفسك يا عبد الحميد، فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحدهم، وإن قتلوك خسرك العرب جميعا». كان على مروان أن يقول سوف تخسرك الإنسانية لأن خسارة المثقف، كما جاء في الحديث، مناحة تبكي فيها حيتان الماء وطيور السماء. وليس غريبا أن تذكر الآية أن الظالمين لا تبكي عليهم السماء ولا الأرض وما كانوا منظرين. أما مصير الخليفة الأموي مروان، فكان بالسيف في قرية بوصير في مصر، وأما المثقف عبد الحميد فاختفى لفترة عند ابن المقفع، ولكن عيون الجواسيس العباسية كانت خلفه ففاجأت الرجلين في بيت ابن المقفع وهتف الجند أيكم عبد الحميد فليتقدم؟ فوجئ الجند بأن الاثنين قفزا معا كل يقول عن نفسه إنه عبد الحميد! أما ابن المقفع فكان يريد أن يفدي ضيفه بنفسه، وأما الكاتب عبد الحميد فخشي أن يفرط في صاحبه ويسارع إليه الزبانية. تقدم عبد الحميد إلى رجال السلطة فقال: «ترفقوا بنا فإن كلا منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم، ففعلوا وأخذ عبد الحميد». ويذكر كتاب «وفيات الأعيان»، لابن خلكان، نهاية المثقف عبد الحميد فيقول إن أبا العباس السفاح الخليفة العباسي دفعه إلى صاحب شرطته «فكان يحمي له طستا بالنار ويضعه على رأسه حتى مات»، ويصفه ابن خلكان بكونه (يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماما». أما مصير ابن المقفع فتأخر بعض الشيء، ولكنه قتل بأشنع من الكاتب عبد الحميد. يقول ابن خلكان إنه لما ألقى عليه القبض والي البصرة قال له: «أنشدك الله أيها الأمير في نفسي. فقال أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنور فسجر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضوا عضوا، وهو يلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور، وقال ليس علي في المثلة بك حرج لأنك زنديق وقد أفسدت الناس».. يقول بعض الصيادين إن الأفعى عندما تقترب من فريستها تصاب بالرعب، فلا تتحرك، فتبتلعها لقمة سائغة. وأعرف من غابات ألمانيا أن الغزال يصاب بصدمة الضوء ليلا، فلا يبرح، وحتى لا يعمل السائق الحادث، عليه أن يطفئ النور فيفر الغزال. وأمام شحنة رعب من هذا النوع الذي تنقله قصص التاريخ أو ما نراه أحيانا في المنطقة العربية يصلح تفسيرا لحالة الخرس المطبق للمجتمع، فالإنسان يتلقى الجرعة القصوى من الرعب أسلمته إلى حالة الرهاب المرضية، وقتلت المعارضة اجتثاثا. راهن عبد الله بن المقفع على التغيير العقلي، فحاول القيام بمسؤولية المثقف في التوعية، وحاول في «رسالة الصحابة» أن يتناول أهم أربع نقاط في الإصلاح الاجتماعي، كانت الأولى في إصلاح المؤسسة العسكرية، وناقش في الثانية مسألة «القضاء» وذكر أنه ينبغي أن يرجع فيها إلى المصلحة العامة والعدل وعدم مراعاة القياس الشكلي، فمتى «رئيت العدالة في غير القياس يجب أن نضحي بالقياس». ويأتي ابن المقفع بمثال على ذلك وهو أنك لو سألت أحدهم: أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة واحدة أبدا، لكان جوابهم: نعم، ولكن ماذا تقولون لو أن رجلا هاربا من قبضة ظالم وسألني عن مكانه وأنا أعرف مخبأه، هل أدل عليه وألتزم الصدق؟ ليصل في النهاية باقتراح ما يشبه فكرة الهيئة التشريعية لتقنين القوانين وتعميمها في الدولة، ويقرر أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» أنه «رأي له قيمته ووجاهته، وهو يتفق في كثير من نواحيه والآراء الحديثة في التشريع، ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبير في الحالة الاجتماعية». ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى، فلعل كتاب «الخراج» الذي وضعه الإمام الحنفي (أبو يوسف) لاحقا لتنظيم أوضاع الأراضي كان من وحي فكرة ابن المقفع، بفارق أن ابن المقفع كان ينطلق من تحليل عقلاني بحت. وأما الفكرة الثالثة التي عالجها فكانت شريحة «البطانة» وأهمية انتقاء هذه النخبة، وهي ما عناه بعنوان الكتاب، فكلمة «الصحابة» قصد بها الحاشية التي تحيط بالحاكم وتدفعه إلى اتخاذ القرارات الخطيرة، فيقرر بكل أسف أن «الخليفة يقرب أوغاد الناس وسفلتهم، فهرب الخيار من التقرب إلى الولاة». ويروي أن من أتوا إلى دار الخلافة أيام السفاح أبوا أن يزوروا الخليفة لما يعلمون من بطانته وسوء سيرتهم. وذكر أنه «ما رأينا من أعجوبة قط أعجب من هذه، الصحابة ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور»، ليصل إلى نصح الخليفة بألا يقرب إليه إلا «رجلا أتى بمكرمة عظيمة أو رجلا له من الشرف وجودة الرأي والعمل ما يؤهله أو رجلا فقيها مصلحا ينتفع الناس بفقهه»، ويقرر في عمل هذه النخبة أنه «يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمل لا يتعداه» ما يسمى بالتكنوقراط في أيامنا. ويذكرنا هذا الكلام بما وصف به عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» طبقة الحاشية هذه، وهو أن تكون «النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا». ويصل ابن المقفع، في البند الرابع من رسالته، إلى فكرة الإصلاح الزراعي (الخراج) أن تمسح بشكل جيد مع التدوين الدقيق والضريبة المناسبة، ولكنه اعترف بأنها مسألة ليست بالسهلة أمام خيانة مستفحلة. يبدو أن رسالة الصحابة لابن المقفع لم ترو غليله، فاستعان بأدوات الأدب لينتج معجزة أدبية رائعة كانت فكرة في أفلام الكرتون التي نراها عند الأطفال اليوم، فإذا لم ينطق الناس فلتنطق الحيوانات، وإذا أصاب البشر الخرس فلا بأس من إرسال الأفكار على لسان القرد والغيلم والببر والجرذ والسنور، وهكذا بدأ كتابة «كليلة ودمنة»، وذكر في مقدمتها أهدافا أربعة: أن يسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، وإظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون إنسا لقلوب الملوك، والثالث أن يكثر استنساخه فلا يبطل أو يخلق على مرور الأيام، أما الغرض الرابع فقد أخفاه واحتفظ به لنفسه تحت عبارة غامضة «والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك مخصوص بالفيلسوف». ويعقب أحمد أمين على هذا الغرض الخطير قائلا: «والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه في أنه النصح للخلفاء حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، فيطالبوا بتحقيق العدل. ولم يوضحه لأن في إيضاحه خطرا عليه من المنصور. ولعل هذه النزعة كانت من الأسباب في الإيعاز بقتله». يبدو أن كتاب «كليلة ودمنة» قتل صاحبه ولم يشفع لصاحبه نبل أخلاقه ولاسعة علمه ولا أنه من ألمع الشخصيات في الأدب العربي. شعر الخليفة المنصور بأن شخصيات من هذا النوع غير مرحب بها، فهو يريد عبيدا وليس مفكرين أحرارا، يريد أدوات للاستخدام وليس إرادات لقيادة جماعية. وُصف ابن المقفع من قبل من عاصروه مثل محمد بن سلام الذي قال: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع»، ويصفه الجاحظ: «كان جوادا فارسا جميلا»، ويعجب الناس بأدبه فيسألونه من أدبك؟ فيقول: «نفسي إذا رأيت من غيري حسنا أتيته وإن رأيت قبيحا أبيته». كتاب «كليلة ودمنة» كان رسالة من ابن المقفع إلى المنصور، فتسلمها بأمانة ورد عليها، فأوعز إلى أحد أدواته، المدعو سفيان بن معاوية، وهو يعلم حقده عليه، فيلقي عليه القبض قائلا: «يا ابن الزنديقة لأدخلنك نار الدنيا قبل الآخرة»، وهو يعلم بأن تهمة الزندقة ليست فيها استتابة، وهي تهمة لا يخرج منها صاحبها إلا مع خروج الروح. إن الأمة خسرت الكثير من هذه الكنوز في جو الاستبداد، فالمقفع قتل وعمره 36 سنة شأن العباقرة، ولكنه ترك بصمات عمله على كل الأدب العالمي. ونكاد ننسى اليوم أنه قتل من أجل أفكاره ومن قتله. أما ابن المقفع فيلتمع كأشد كوكب دري في السماء إضاءة. يذكر مكيافيلي صاحب كتاب «الأمير»، عن الفرق بين الدولة العثمانية والفرنسية، أن الأولى صعبٌ قهرها سهلٌ الاحتفاظ فيها بعد كسرها، أما الدولة الفرنسية فسهل كسرها في البداية صعب الاحتفاظ فيها بعد ذلك. ويكشف السر في ذلك موضحا أنه يكمن في طبيعة الحاكم والأمة والعلاقة بينهما، أن الأمة التركية غنم على رأسه راع منفرد فإذا قتلت الراعي وضعت يدك على غنم لا تملك حولا ولا طولا، أما الأمة الفرنسية فهي مجموعة رعيان متشاكسين، على رأسهم أحد الرعاة، فإذا تغلبت على راع وقعت في مصيدة الرعيان بأيديهم عصي كثيرة.