الإسلام قبل ثورة الحسين ليس هو الإسلام بعد ثورة الحسين صورة عن المشهد تحبل المادة الأولى التاريخية للمأساة بمخزون درامي لا تحصره بكائيات الجمهور الحسيني. إنها مادة ثقيلة وغنية يعجز الوصف عن نقلها كما هي. فالخيال أحيانا يبدو حيلة العاجز في الوصف لا استكمالا للحدث ومعانيه. ومن هنا كانت عاشوراء ملحمة نقلها الحسين من طقس بارد يمر بسلام إلى حرارة يجد عندها المؤمنون لوعتهم كما يجدون حرارتها إلى يوم القيامة. هذا الاستبدال التاريخي لعاشوراء جعل منها أكثر من كونها مناسبة تستمد معناها من مخزون التجارب الدينية السابقة، بل أصبحت عاشوراء مع الحسين ملحمة تاريخية إسلامية بامتياز. الصورة يجب أن تحضر إذن بتفاصيلها لكي تمنح الأجيال فرصة فهمها وتصورها وفق نماذج وأنماط ومستويات من الأحاسيس والأفكار مختلفة. تضعنا الصورة أمام حالة من التردي المضطرد في التجربة الإسلامية تضاعفت حلقاتها لكي تبلغ حالة الاحتقان فيها درجة الانفجار. وحيث بات واضحا أن مآلات الأمور كانت تنبئ بتلك اللحظة الحاسمة، لم يكن الوضع أنسب من أن يقود هذه المعركة من الطرفين شخصيتان على طرفي نقيض؛ لو سعينا جهدنا للبحث عن نظائرهما في الاستحقاق لما ألفينا غيرهما: الأول هو الحسين الذي يقف شامخا كالجبل من حيث هو ابن علي بن أبي طالب وابن الزهراء وحفيد النبي(ص). والثاني هو يزيد الذي ينحط كالسفح من حيث هو ابن معاوية وابن هند إن أحسنا الظن وحفيد أبي سفيان. يحيط بالأول الشرف من كل الجهات. بينما يحيط بالثاني الخسة من كل الجهات. ولم يكن ذلك اعتباطا في تاريخ الإسلام. فمنذ بدأت الدعوة والصراع تقوده عصبتان ويتزعمه بيتان وينهض به شيعتان: مدرسة آل البيت وشيعتهم، ومدرسة آل سفيان وشيعتهم. عرف الصراع جولتين: الأولى كانت حين الدعوة إلى سقوط بني أمية وعصبيتهم أمام ثورة الإسلام. والثانية حدثت بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) وتفجرت بوضوح وعبر مراحل مضطردة عند مقتل عثمان وما أحاط بها مما سماه البعض يالفتنة الكبرى. والحق لم تكن الفتنة هي مشكلة المسلمين ، لأن تاريخ المسلمين كله فتن. ولأن الفتنة تكون في السلم والحرب حتى أن القرآن اعتبر المال والذرية فتنة أيضا. فقد كان المطلوب ليس منع وقوع الفتنة وإنما اجتناب شرورها: أي معرفة تدبير الفتنة بحيث تصبح طريقا إلى معرفة الحق وليس طريقا لتعزيز الباطل. فالفتنة هي امتحان وطريق لمعرفة الحقائق وتمحيصها. ومن هنا كان واضحا أهمية ما جاء في الخبر من توجيه إلى عدم كراهية الفتنة؛ ففيها تمحيص للقلوب. فلولا الفتن التي عصفت بالمجتمع الإسلامي لما أمكننا إدراك الحقائق أو الحسم في المواقف. ففي الفتنة وحدها ينفضح التلبيس وينكشف المخبوء. فمن يخشى الفتن إلا من يخشى على نفسه الفضيحة؟ لقد قبل علي بن أبي طالب بالخلافة على الرغم من أنها جاءته على غير ما كان يرتضيه لها من شرائط. لكنها وخلافا لمن سبقه من الخلفاء أدرك أن هذا البيت الأموي لا خير فيه على الإسلام والمسلمين. فكل المآسي والمصائب التي واجهتها الدعوة جاءت من هذا البيت الذي سماه القرآن: الشجرة الملعونة في القرآن. فإذا كان السلف قد داهن بني أمية ومكن لهم في سياسة الأمة خوفا من شوكتهم التي أضعفها الإسلام، فإن علي بن أبي طالب رفض أن يبقيهم فيها ولو يوما واحدا. وكان يا ما كان مما جعل فتوح علي من أجلّ الفتوح، لأنها قادت معركة تصحيحية داخلية. وهي من أجل الفتوح كما يقول ابن حزم وليست أقل قيمة من فتوح معاوية كما يقول شيخ النواصب ابن تيمية الحراني. ثم جاء الحسن وكان يا ماكان. وكان الصلح من الحسن آخر الحلول بعد أن قاتل بكل ما لديه ولم يعد له جيش يحارب به وبعد أن انقسم جيشه وارتد بعضهم تحت تأثير رشاوى معاوية. ثم كان ما هو أسوأ حين جاء يزيد بن معاوية ليكمل مهزلة التسلط الأموي على رقاب المسلمين. ففي مثل هذه الأيام من محرم الحرام انطلقت قافلة الحسين تحمل أخلص الناس في اتجاه ملحمة جعلت من التاريخ الإسلامي يتوقف عند سؤال: نكون أو لا نكون. كانت قافلة الحسين أبي الشهداء تتجه خارج المدينة وخارج مكة بعد أن لم يعد من إمكانية للسلام. حرص الطاغية يزيد وهو يستكمل مشوار أبيه وجده في تقويض المعنى الأصيل لإسلام ساوق العدل كله والتحرر كله والعقل كله والسمو الروحي والجماعي كله لصالح تخريج عصباني وقبلي، انتهى بالطغمة الأموية إلى أن تقرصن الإسلام من حضن أهل البيت لتضعه تحت تصرف الشجرة الملعونة في القرآن. من أولئك الذين سقطوا في الإسلام من أستار الكعبة بعد الفتح . فكان أن جاء يزيد وهو في حالة سكر يلعب بالقرود ليفرض البيعة على أحد سيدا شباب أهل الجنة وإماما من أهل البيت أسند له الأمر. كان لا بد للتاريخ يومها أن يختار. فإذا كان الأمر قد تشابه على الناس وثبجت مظاهره على القوم بين علي ومعاوية حتى قال الأول : أنزلني الدهر حتى قيل علي ومعاوية فإن الأمر واضح وضوح الشمس في رائعة النهار اليوم. الحسين سيد شباب أهل الجنة ويزيد من زعران العرب ومجرميها. لذا كانت ثورة الحسين عليه مبررة حينما يقول الحسين عنه بأنه راكب الفجور وقاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله. لم يعد الموقف ملتبسا كما قد يبدو حينما سكت التاريخ عن الصراع بين علي ومعاوية. اليوم لا شيء يلتبس . فكان لا بد أن يفترق التاريخ الإسلامي بين وجهتين: وجهة الحسين ووجهة يزيد. فلا نستغرب أن في الأمة اليوم من لا يزال يترضى على يزيد وبذلك يفقد فعل الترضية دلالته وقدسيته حينما يشرك فيه يزيد مع صحابة لهم مكانة محترمة في التاريخ الإسلامي. في سنة 60 للهجرة حسب تاريخ اليعقوبي حل يزيد خليفة على شرف مجد الجاهلية الأولى. كتب فورا إلى عامله بالمدينة والوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقال له : "إذا أتاك كتابي هذا ، فأحضر الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ، فخذهما بالبيعة لي ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما ، وابعث لي برؤسهما ، وخذ الناس بالبيعة ، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم ، وفي الحسين وعبد الله بن الزبير ، والسلام ". لم يكن الحسين يريد خروجا في البدء . ولكنه رفض أن يذل ببيعة يزيد. ولكنه حينما أدرك أن القوم مصممين على قتله ، استأخرهم قليلا. كان بود الوليد أن يقتله إذ جاءه وابن الزبير ، فقالا : "نصبح ونأتيك مع الناس" . فأما مروان فقد كان رأيه مختلفا تماما. فلقد أشار على الوليد بعدم إمهاله. فخرج الحسين إلى مكة حيث منها كاتب يستنصر أهل الكوفة. فجاءه الرد من ابن أبي هانئ وسعيد بن عبد الله : "بسم الله الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي من شيعته المؤمنين المسلمين ، أما بعد فحي هلا فإن الناس ينتظرونك ، لا إمام لهم غيرك ، فالعجل ثم العجل والسلام " . ثم سرعان ما بعث إليهم بسفيره مسلم ابن عقيل ليأخذ منهم البيعة للحسين. استطاعت عيون يزيد في الكوفة أن تقبض على مسلم بن عقيل وقد قتلوه هو وهاني بن عروة وهو من الصحابة، وسحبوهم بالخيول وطافوا بهما في الأسواق ونشروا في الأهالي الرعب. انطلق الإمام الحسين إلى الكوفة حيث لم يعد له من خيار. فوكل يزيد بن معاوية عامله عبيد الله بن زياد لقتل الحسين بعد أن قتل سفيره مسلم وكذا نصيره هاني بن عروة. استنفر القوم أزيد من أربعة آلاف جندي يتألفون من مجموعة الحر بن يزيد الرياحي وجيش عمر بن سعد الذي كان يقصد به الديلم. ذهبوا جميعا لمحاصرة الحسين بكربلاء بينما لم يكن مع الحسين سوى اثنان وسيعون رجلا من أهل بيته وخلص أصحابه. حاول يزيد منذ البداية قتل الحسين (ع) إذا استعصى عن مبايعته ، وما كان الإمام الحسين يرى أن يبايع رجلا من أكبر فساق بني أمية ، فكان الخيار الوحيد أمام الإمام الحسين ، أن يستقبل الموت مع آل بيته الذين أبوا إلى الخروج معه ، إنه التاريخ يعود من جديد ، ليشهد معركة الحق كله ضد الباطل كله . إذ ليس الآن أمام جيش بني أمية سوى الحسين (ع) وآل البيت وشيعته القلائل ، وهم بقية الرسول صلى الله عليه وآله . لقد سمع الحسين قبل ذلك الرسول صلى الله عليه وآله يقول لأم سلمة بعد أن أعطاها تربة في قارورة : " إذا أصبح هذا التراب أحمر فاعلمي أن ابني الحسين قد مات" . . كان يعلم منذ البداية كما أبيه ، أنه سيموت لا محالة مقتولا . لذلك لما وصل إلى كربلاء وسأل عنها القوم ، قال : " هذا كرب وبلا". حينما حكموا على الحسين وذريته وأصحابه الحصار بكربلاء ، منعوا عنه وأطفاله الماء. على الرغم من استعطافه للمعسكر لكي يسقوا الماء أطفاله. قال شهر بن حوشب وكان من عملاء يزيد : "لا تشربوا منه حتى تشربوا من الحميم ." . لم يتركوا للحسين خيارا إلا النزول عند حكم بن زياد. فلا هم تركوه يواجه يزيد ولا هم تركوه يذهب إلى أي ثغر من الثغور . فلم يتركوا له من خيار. عندئذ ثار الحسين فقال : "أأنزل على حكم ابن زانية؟ لا والله لا أفعل ، الموت دون ذلك أحلى ." لقد خاطب الحسين أخاه ابن الحنفية وغيره من الصحابة وهو يغادر باتجاه الكوفة: " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي . أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا ، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين". كما ردّ على الذين حاولوا تخويفه بالمصير السيئ بقاء صموده ذاك ، بالقول: سأمضي وما بالموت عار على الفتى*** إذا نوى حقا وجاهد مسلما وحينما ازداد تثبيط القوم له وقد رأى منهم من الخوف والنكوص ما لا يحمد قال: " إنا أهل بيت النبوة ، بنا فتح الله ، وبنا يختم ، ويزيد شارب الخمور وراكب الفجور ، وقاتل النفس المحترمة ، ومثلي لا يبايع مثله". كانت ثقافة الخوف والركود قد أحاطت بالقوم حتى لم يعودوا يجدون أي معنى للإصلاح. ومهما أصاب هذه الأمة من النكسات لم يكن ذلك ليحرك فيهم ساكنا. ولم يكن أحد يدرك أي خطر سيصيب الإسلام فيما لو امتلك بنو أمية ناصيته. لقد قال لهم الحسين يشموخ وإياء: إن كان دين محمد لم يستقم*** إلا بقتلي فيا سيوف خذيني خوف ورعب وانحطاط. لا يوجد في هذه الأمة العريضة من امتلك شجاعة الحسين؛ لا ليتقدم القوم بل لينصر حفيد النبي وقد أجمعوا على أنه كان على حق. قام الإمام الحسين خطيبا وضمن خطبته ثقافة ثائر غير الوجهة وأحرج الأمة التي خلدت إلى نومها. فلو كانت هذه الخطبة وحدها لكفت دليلا على أن الحسين طالب إصلاح وليس طالب سلطة. وبأن قيادة أهل البيت تضحية وتكليف وليس تشريف بارد لم يقدموا فيه من التضحية ما خلده التاريخ. قال الإمام الحسين: " الحمد لله وما شاء الله ، ولا قوة إلا بالله ، وصلى الله على رسوله . خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقربهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته ، موطنا على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى". اشتد الحصار على أهل البيت. وما أشبهه بحصار آل سفيان للنبي وآل بيته في شعب أبي طالب في مبتدأ الدعوة. ازداد عطش الأطفال وعلا صياحهم في معسكر الحسين. حاول استعطافهم فأبوا. وكان الحسين حينها يكتب تاريخ آخر للقوم: تاريخ خلو من الروح الإنسانية ومن كل عاطفة برية بله عاطفة دينية. حينئذ دخل إلى الخيمة التي كانت بها أخته زينب (ع) حيث كان علي بن الحسين مريضا ، وهو يقول : يا دهر أف لك من خليل ***كم لك في الاشراق والأصيل من طالب وصاحب قتيل*** والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الأمر إلى الجليل*** وكل حي سالك سبيلي وحينما بات واضحا أن القوم لم يتركوا له من سبيل للرجوع أو التقدم التفت إلى قومه قائلا: "إن القوم ليسوا يقصدون غيري ، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا ، فأنتم في حل ، فقالوا : لا والله ، يا ابن رسول الله ، حتى تكون أنفسنا قبل نفسك .". خرج زهير بن القين على فرس له فنادى : حسب اليعقوبي :" يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله ، نذار عباد الله! ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ولد سمية ، فإن لم تنصروهم ، فلا تقاتلوهم ، أيها الناس! إنه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت نبي إلا الحسين ، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغصه الله الدنيا ، وعذبه أشد عذاب الآخرة ." وها هنا انطلق المجرمون يقتلون من وجدوه أمامهم ويحرقون الخيام ويطاردون حرم الحسن وأولاده. في تلك الأثناء انهارت كل القيم وانهار الإسلام في نفوس معسكر عمر ابن سعد وباقي عملاء الخليفة يزيد. وقد حاول الحسين أن يذكرهم بفضله ونسبه لعل ذلك يشفع له عند القوم فيدعوا صغاره وحرمه ويكفوا يدهم عنهم. فقال: "أيها الناس انسبوني من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي . أو ليس جعفر الطيار عمي . أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقوله ، وهو الحق والله وما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرب من اختلقه ، وإن كذبتموني فإن فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم عن سفك دمي؟ فقال ، شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول!. فقال ابن مظاهر : والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك! . قال الحسين : فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته! أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جرامة ، ثم نادى : يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن ابجر ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن أقدم قد أينعت الثمار واخضر الجناب وإنما تقدم على جند لك مجندة؟ . فقالوا : لم نفعل . قال : سبحان الله بلى والله لقد فعلتم . فقال : أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض . فقال له قيس بن الأشعث : أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه! . فقال الحسين : أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد كان الإمام الحسين (ع) يحرص على كرامة الأمة ومصلحتها . ويحول دون يزيد وإذلالها : ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة . وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام . ثم دعى عليهم: " اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبره فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير" . كانت لكلمة الإمام الحسين (ع) صدى ، أدركت معناها قلوب القوم ، غير أنها لم تستجب . فأقبل إلى عمر بن سعد وقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ . قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال : لو كان الأمر إلي لقبلت ولكن أميرك أبى ذلك . فتركه ، وقال لقرة بن قيس : هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا: قال : فهل تريد أن تسقيه؟ . فطن قرة من ذاك أنه يريد الاعتزال . فأخذ الحر يدنو من الحسين . فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل؟ فسكت ، فارتاب المهاجر من هذا الحال ، وقال له ، لو قيل لي من إشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحر . إني أخير نفسي بين الجنة والنار ، ووالله لا أختار على الجنة شيئا ولو أحرقت . ثم اتجه نحو الحسين (ع) منكسرا معتذرا يلتمس الغفران . فقال للإمام : اللهم إليك أنيب فتب علي ، أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك! يا أبا عبد الله ، إني تائب فهل لي من توبة؟ . قال له : أبو عبد الله : نعم يتوب الله عليك . فأستأذن الحسين في أن يخاطب القوم ثم قال : يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر ، أدعوتم هذا العبد الصالح ، حتى إذا جاءكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضة حتى يأمن وأهل بيته ، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وهاهم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ. انطلق الحر ، معربا عن ورعه وإخلاصه لقضية الحسين ، وهو يقول. إني أنا الحر ومأوى الضيف*** أضرب في أعناقكم بالسيف عن خير من حل بأرض الخيف*** أضربكم ولا أرى من حيف ثم راح يقاتل ببسالة حتى قتل . وكانت تلك شهادة على توبته وفيئه إلى الحق ، ثم جاء إليه الحسين (ع) وهو ممدد فقال. لنعم الحر حر بني رياح*** صبور عند مشتبك الرماح ونعم الحر إذ نادى حسينا*** وجاد بنفسه عند الصباح وقال : والله ما أخطأت أمك لما سمتك حرا ، فأنت الحر في الدنيا والآخرة! اشتد القتال ، وشيعة الحسين (ع) يتساقطون كأوراق الخريف الواحد تلو الآخر ، وكلهم يقدم أروع أدوار البطولة والفداء . حتى لم يبق إلا الحسين وأهل بيته ليس معهم إلا الله . كان علي بن الحسين (ع) مريضا . وقد شاءت الأقدار أن يكون كذلك للدور التاريخي المنوط به بعد الحسين (ع). غير أن عليا الأكبر ، وهو أخوه ، كان في تمام الاستعداد ، لالتماس (الشهادة) ليكتب بها وثيقة عار في تاريخ الجريمة التي ارتكبت في حق آل البيت المحمدي . انطلق يطلب القوم نصرة أبيه ، وللحق الذي جاء من أجله ونشد في القوم : أنا علي بن الحسين بن علي *** نحن ورب البيت أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي*** أضرب بالسيف أحامي عن أبي ضرب غلام هاشمي قرشي اشتد الإحساس بالاستضعاف فنادى الحسين وهو يقصد عمر بن سعد:" ما لك؟ قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلط عليك من يذبحك على فراشك . ثم رفع يديه الكريمتين نحو السماء وتمثل قائلا : " اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمدا خلقا وخلقا ومنطقا وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه اللهم ، فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقا ، ومزقهم تمزيقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدا ، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا .". قاتل علي الأكبر القوم ، وأبوه يرى بلاءه فيهم . واشتد العطش عليه ، فعاد إلى أبيه يستسقيه ، ليستجمع قواه ، ويكر من جديد على جيش الأعداء . غير أن الحسين (ع) أدرك أنه ليس بينه وبين مفارقة الحياة إلا فترة قصيرة . ففضل أن يبقى على عطشه حتى يلقى الله تعالى فأعطى بذلك لابنه روحا جديدة ، فقال له : "ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدا" . ثم راح يقاتل الأعداء ، فحملوا عليه وطعنوه بالرماح وضربوه بالسيف على رأسه ، وقطعوه بالسيوف قطعا . وفارقت نفسه الحياة ، وجاء أبوه يودعه ، فما وجده إلا جثة هامدة مضرجة بدماء العزة الإيمان . فقال : "على الدنيا بعدك العفا ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول يعز على جدك وأبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك". ثم نادى: " يا عمر بن سعد : هذا الحسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى ، فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ". فصاح شمر : يا ابن أبي تراب - يقصد الإمام علي (ع) - لو كان وجه الأرض كله ماء وهو تحت أيدينا لا سقيناكم منه قطرة ، إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد . فرق قلب أخيه أبو الفضل العباس ، واستنفر عزيمته ، وانطلق في القوم ، يقاوم يمينا وشمالا حتى أتى الفرات واغترف منه ماء ، ورجع يقاوم جيش النفاق ، فنصبوا له كمينا ، وضربه بعضهم فقطع يمينه . واستمر في مسيره قاصدا الحسين ، يريد إيصال قربة الماء ، لسقي عطاشى آل البيت وهو يقول : والله إن قطعتم يميني*** إني أحامي أبدا عن ديني وعن إمام صادق اليقين***نجل النبي الطاهر الأمين وانطلق بعيدا حتى باغته حكيم بن الطفيل من وراء نخلة فضربه على شماله ، وقطع يده الأخرى . وانهالت عليه السهام من كل جانب ، وأصابت صدره وضرب رأسه فانفلق ، وسقط صريعا وهو يقول : عليك مني السلام أبا عبد الله . رآه الإمام الحسين (ع) وهو يكفكف الدمع ويقول : "أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حق ينصرنا ، أما من خائف من النار فيذب عنا ". لقد استنفذ معسكر الحسين (ع) كل عناصره . ولم يبق إلى جانب الحسين ، سوى عياله . وكان ذلك الطفل الرضيع ولده فتح عينيه في معمعة الحرب . فرفعه أمام القوم يريد استعطافهم يطلب له الماء. غير أن الروح الدموية التي ما رآها التاريخ ولا شهدتها ملاحم البشر ، كانت ديدن جنود يزيد . فرفع حرملة بن كاهل الأسدي سهمه ورمى بها الطفل فسال دم البراءة على كف الحسين ، وأخذ يرمي به نحو السماء وهو يقول : "اللهم تقبل منا قربان آل محمد" . وقال : "هون ما نزل بي إنه بعين الله تعالى ، اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح ، إلهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه وانتقم لنا من الظالمين ، واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل ، اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك" ، ثم نزل عليه السلام عن فرسه ودفن طفله الرضيع وصلى عليه . فكان الإمام هو آخر من يتقدم للميدان ، انطلق إلى القوم مصلتا سيفه ، فقاتلهم قتالا شديدا وهو يقول : الموت أولى من ركوب العار*** والعار أولى من دخول النار هنالك صاح عمر بن سعد : هذا ابن الأنزع البطين (يقصدون الإمام علي (ع)) هذا ابن قتال العرب احملوا عليه من كل جانب . فصاح فيهم الحسين(ع) يردهم بكلامه النافذ في أعماق الضمير . فقال شمر بن ذي الجوشن : ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال: أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا . واستمر القتال بين جيش عمر بن سعد ، والإمام الحسين (ع) ، وقد بدأت الدماء تغطي جسده وهو يقول : "هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا مخضب بدمي وأقول : يا جدي قتلني فلان وفلان .". لقد أصابته السهام في جسده ورأسه فسقط ، ولم يقدر على الحراك ، يقول صاحب أسد الغابة :" أمر عمر بن سعد نفرا فركبوا خيولهم وأوطأوها الحسين ." . كانت الحياة لا تزال تدب في جسده الشريف ، ولا يزال به رمق . فلا بد أن يتقدم إليه القوم ليحتزوا رأسه . فبادر زرعة بن شريك بضرب كتفه الأيسر ، ثم رماه الحصين في حلقه وطعنه سنان بن أنس في ترقوته ، ورماه بسهم في نحره وطعنه آخرون على عاتقه وجنبه. وارتفعت الأصوات ، ونادت أم كلثوم وأخته زينب : وامحمداه وا أبتاه واعلياه واجعفراه واحمزتاه هذا الحسين بالعراء صريع بكربلاء ثم نادت زينب : ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل! ولا يزال الصياح يهز الميدان ، والنوح تولول على الحسين (ع) والدنيا قد اظلمت ، فالحسين صريع! ويقف عمر بن سعد ، انزلوا إليه وأريحوه. فانطلق شمر ، فضربه برجله وأمسكه من لحيته وما زال يضربه بالسيف ثم احتز رأسه . يقول اليعقوبي : "وانتهبوا مضاربه ، وابتزوا حرمه ، وحملوهن إلى الكوفة". لقد أطمعهم في الحسين (ع) سيفه وملابسه . فراح كل واحد يلتمس له قطعة من لباسه ينهبها ، فأخذ الأسود بن حنظلة سيفه ، والأسود بن خالد ، نعليه وإسحاق ابن حوية قميصه . وقطعوا إصبعه الذي به الخاتم لما رأوا الدم قد تجمد والتصق به . يقول صاحب أسد الغابة : إن سنان بن أنس لما قتله قال له الناس ، قتلت الحسين بن علي ، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله أعظم العرب خطرا ، أراد أن يزيل ملك هؤلاء ، فلو أعطوك بيوت أموالهم لكان قليلا ، فأقبل على فرسه ، وكان شجاعا به لوثة ، فوقف على باب فسطاط عمر بن سعد ، وأنشده الأبيات : أوقر ركابي فضة وذهبا*** فقد قتلت السيد المحجبا قتلت خير الناس أما و أبا*** و خيرهم إذ ينسبون نسبا قال اليعقوبي : "وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشام ، ونصب رأسه على رمح ، وكان مقتله لعشر ليال خلون من المحرم سنة 61 .". ثم جاءوا بالرأس ووضعوه بين يدي يزيد (لعنه الله) ، فأخذ ينكثه بقضيب وهو ينشد : ليت أشياخي ( ببدر ) شهدوا ***جزع ( الخزرج ) من وقع الأسل لأهلوا، واستهلوا فرحا***ثم قالوا: يا ( يزيد ) لا تشل قد قتلنا القرم من ساداتهم*** وعدلناه ببدر فاعتدل لعبت هاشم بالملك فلا ***خبر جاء ولا وحي نزل لست من هند إن لم أنتقم***من بني أحمد ما كان فعل تظل هذه هي المادة الأولى للمشهد الذي اكتفينا ببعض من تفاصيله وليس كلها . وهي وحدها تفرض على الكائن السوي بالأحرى المسلم الي يدرك خطورة الموقف حينما تقدم عصابة بني أمية على إبادة آخر ما تبقى من نسل محمد بن عبد الله (ص). ومع ذلك ، يوجد في كل العصور من يتطوع لتبرير جرائم بني أمية ومن دون رشاوى منهم. تبرير مجاني يقدحه الحقد وموت الضمير والنزق والعناد. من هو الشخص؟ لكي تكتمل الصورة وتظهر خطورة المشهد يجب أن نعرف مقام الشخص ومن يكون الضحية. فالذي قامت عصابة بني أمية في تواطؤ مع الأوباش بذبحه وبنيه في كربلاء هو رجل يحمل خصائص معينة وشأنية معتبرة . إذا كانوا قد غصبوه حقا في الحكم كان له أهلا وبه حقيق، فما الذي أكرههم على ذبح أولاد النبي وخرم وصيته في المودة في القربى. لقد قتلوا أحب أولاد الزهراء لمحمد(ص). وقتلوا سبطا من الأسباط. فعن يعلي بن مرة ، قال : إنهم خرجوا مع النبي (ص) إلى طعام دعوا له ، فإذا حسين يلعب في السكة ، قال فتقدم النبي (ص) أمام القوم ، و بسط يديه تحت ذقنه و الأخرى في فأس رأسه . فقبله و قال : حسين مني و أنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، حسن سبط من الأسباط . وفي سنن الترمذي عن أنس بن مالك يقول : سئل رسول الله (ص) أي أهل بيتك أحب إليك ؟ قال : الحسن والحسين و كان يقول لفاطمة (ع) : ادعي ابني ، فيشمهما و يضمهما إليه .". وفي سنن الترمذي أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ص) : الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة ". وفي الإصابة في تمييز الصحابة لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني قال يونس بن أبي اسحاق عن العيزار بن حريب ، قال : بينما عبدالله بن عمر جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين (ع) مقبلاً ، فقال : هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم ". وجاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري : قوله : ( حدثني محمد بن الحسينبن إبراهيم ) هو ابن أشكاب أخو علي . قوله : ( حدثنا جرير ) هو ابن أبي حازم ( عن محمد ) هو ابن سيرين . قوله : ( أتي عبيد الله بن زياد ) هو بالتصغير , وزياد هو الذي يقال له ابن أبي سفيان وكان أمير الكوفة عن يزيد بن معاوية وقتل الحسين في إمارته كما تقدم فأتي برأسه . قوله : ( فجعل ينكت ) في رواية الترمذي وابن حبان من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس : فجعل يقول بقضيب له في أنفه , وللطبراني من حديث زيد بن أرقم : فجعل قضيبا في يده في عينه وأنفه , فقلت ارفع قضيبك فقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه , وله من وجه آخر عن أنس نحوه وسيأتي . قوله : ( كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي أشبه أهل البيت , وزاد البزار من وجه آخر عن أنس قال : " فقلت له إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث تضع قضيبك , قال : " فانقبض "وليس لفضائله في مصادر المسلمين حد ولكن هذا النزر البسير فيه كفاية لمن اعتبر. الحسين بين قراءتين إذا استثنينا بعض المؤرخين والأعلام الذين قالوا أقل ما يجب قوله في حق الحسين وظلامته ، فإننا نجد محاولات فاشلة وعبثية من قبل البعض الآخر في تمييع المشهد واستصغار خطورته. وليس الأمر يقف هنا فقط ، عند حد مفارقة الجمع بين تعظيم أهل البيت واستصغار الجريمة في حقهم إلى درجة يمكن الجمع فيها بين محبة الحسين ويزيد والترضي عنهما معا فمن المسلمين من ضيعوا قضية الحسين التي لم تكن إلا قضية أمة بكاملها، حيث نهض بها وعبر عنها من خلال خطبه وأشعاره ومواقفه . ولكننا في مقابل ذلك نجد في غير المسلمين من هالهم أمر كربلاء وتعاطوا معه بإنسانية بالغة وبعمق فكري لا يوجد له مثيل عند من اعتبرها حكاية لفها النسيان. لقد جعل غاندي من سيرة الحسين ومثال كربلاء نموذجا لتحرر الهند من الاستعمار. وهذه أكبر إدانة أن يكتشف غير المسلمين الحسين فيما نسيه من اعتبروا مجرد ذكراه فتنة ، كما لو كانوا في وضع مريح وسلام . ألا في الفتنة وقعوا. يقول غاندي: " لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلابد لها من اقتفاء سيرة الإمام الحسين". ومثل ذلك ذكر تاملاس توندون الهندوسي (الرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي): "هذه التضحيات الكبرى من قبيل الشهادة الإمام الحسين (ع) رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد وتذكر على الدوام". ويذكر المستشرق الإنجليزي السير برسي سايكوس : "حقاً إن الشجاعة والبطولة التي ابدتها هذه الفئة القليلة، كانت على درجة بحيث دفعت كل من سمعها إلى اطرائها والثناء عليها لاإراديا. هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لازوال له إلى الأبد". وفي كتاب تاريخ مسلمي أسبانيا يقول رينهارت دوزي المستشرق الهولندي : " لم يتردد الشمر لحظة في الإشارة بقتل حفيد الرسول حين أحجم غيره عن هذا الجرم الشنيع.. وإن كانوا مثله في الكفر". وتذكر الكاتبة الإنكليزية فريا ستارك: "وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة أن يستفيد كثيراً من زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة لأن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء". ويقول جون أشر الكاتب الانجليزي: " إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي.". ويقول كارل بركلمان: " الحق أن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين بن علي قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة.". وليس ثمة أجمل من قولة لصديقنا الكاتب المسيحي انطوان بارى صاحب كتاب الحسين في الفكر المسيحي: "لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل ارض راية، ولأقمنا له في كل ارض منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين". وحينما عاند بعض المسلمين ضد فهم المغزى العميق لهذه الثورة وقيمتها ، كان الأديب الأنجليزي شالرز ديكنز يقول: "إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام". وأما توماس ماساريك فقد رأى في ما يبديه شيعة الحسين من حماسة ما يتوفر عليه المتحمسون لمأساة المسيح . فيقول: " على الرغم من ان القساوسة لدينا يؤثرون على مشاعر الناس عبر ذكر مصائب المسيح إلا أنك لاتجد لدى أتباع المسيح ذلك الحماس والانفعال الذي تجده لدى أتباع الحسين عليه السلام. ويبدو أن سبب ذلك يعود إلى إن مصائب الحسين عليه السلام لا تمثل إلا قشّة أمام طود عظيم". وهذا أيضا نزر يسير مما قاله هؤلاء عن الحسين ونهضته التي تحمس لها شيعته أكثر من أربعة عشر قرنا. في صمت وذهول من باقي المسلمين بمن فيهم حتى أولئك الذين لا زالوا يحتفظون ببعض العواطف تجاهه لكنها عواطف باردة تجعلهم لا يذكرون الحسين إلا يعد أن يذكرهم به شيعته. وطبعا بعد أن يثير ذلك عليهم من الشتيمة واللعن ما يزيد من فضيحة الصورة. هناك فقط ندرك كم كانت مأساة الحسين عظيمة!