تماما مثل الحريق الذي التهم دار الأوبرا بالقاهرة عام واحد وسبعين ظللت شاخصا عدة ساعات أتابع تطورات الحريق الذي اشتعل مساء الثلاثاء في المبنى التاريخي لمجلس الشورى (المصري)، الفرق بين الحالين، أنني في الحريق الأول كنت في الميدان ضمن مجموعة من الفنانين والمثقفين، أذكر منهم بكاء ونشيج الراحل سعد أردش. أمضيت سبع ساعات أمام دار الأوبرا، أحد أجمل مباني الأوبرا في العالم، بناها الخديوي إسماعيل على نمط أوبرا ميلانو، وقد زرت أوبرا ميلانو وشاهدت فيها أوبرا «دون كيشوت»، وأقول بثقة إن الأوبرا القاهرية كانت أرق وأجمل، كان حريق الأوبرا ماديا، اختفت فيه علامة كبرى من ذاكرة المدينة والحياة الثقافية، وكان رمزيا فقد بدا عنوانا للتدهور الثقافي الذي بدأ منذ السبعينيات والتي شهدت اضطهاد المثقفين، وهجرتهم وبدء تراجع الدور الثقافي المصري، جالت بذهني تلك الخواطر الكئيبة وأنا أتابع من شاشة التلفزيون حريق المبنى القديم التاريخي، لم أره مباشرة كما رأيت الأوبرا، رحت أتنقل حزينا من فضائية إلى أخرى في محاولة لتلمس المعلومات، لفتت نظري قوة النيران، واستمرارها، وتباطؤ عملية الإطفاء، بل وبدائيتها، خاصة عندما رأيت عربات الفناطيس تنقل المياه إلى موقع الحريق، مما يعني عدم وجود حنفيات حريق في المكان، وأذكر أن الجمالية كانت مزودة بهذه الحنفيات الخاصة التي تتدفق منها المياه بسرعة أعلى، وفي قناة النيل للأخبار، قال المذيع إن بعض السلالم لم تعمل. كما أن معدات المطافئ تبدو متخلفة مما دعا برئيس مجلس الشعب أن يطالب بمضاعفة الجهود خلال تصريحاته للتلفزيون الرسمي المصري، الكارثة المادية للحريق لا يمكن أن تقدر، ليس فقط لندرة المبنى وتاريخه، لكن لما يضمٌه من وثائق تعد جزءا أساسيا من تاريخنا الحديث، كذلك تدمير متحف مجلس الشعب، لقد أسس الخديوي إسماعيل أول برلمان في الشرق الأوسط وإفريقيا ليكون واجهة الدولة الحديثة التي كان يطمح إلى بنائها، أطلق عليها «مجلس شورى النواب» وكان ذلك عام 1866 ميلادية، وكان مقر البرلمان في القلعة حيث مؤسسات الدولة منذ العصر الأيوبي وحتى عصر الخديوي، بعد بناء قصر عابدين، نزل الخديوي بمقر الحكم إلى وسط المدينة والناس، وانتقل مجلس الشورى إلى إحدى قاعات مبنى المحكمة المختلطة بميدان العتبة، وفي المبنى نفسه استقر مجلس النظار (الوزراء). ثم انتقل مجلس الشورى إلى إحدى قاعات وزارة الأشغال العمومية التي كانت تشغل المبنى الذي التهمه الحريق، وكان مقرا لمجلس الشورى، كان الحرص دائما على تجاور مجلس الشيوخ ومجلس النظار، أي السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا ما نجده الآن في رمزية التقابل أو المواجهة بين مجلس الشعب ومجلس الوزراء في مقرهما الحالي، في فبراير 1922، بعد استقلال مصر عن بريطانيا شكليا، أنشأ الملك فؤاد، مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، وقررت الحكومة بناء مبنى مستقل لمجلس النواب، وهو يمين مجلس الشعب الحالي، وقد وضع أساسه في سبتمبر 1922، وتم بناؤه في مارس 1923، كما تم اختيار مقر مجلس شورى النواب ليكون مقرا لمجلس الشيوخ منذ مارس 1924، وهو مبنى مجلس الشورى الحالي نفسه الذي احترق الأسبوع الماضي، وفي 1990 أخلت وزارة الري (الأشغال العمومية سابقا) مبناها التاريخي، وتم ضمه إلى مجلس الشورى ليكون مقرا للمكاتب الإدارية، المنطقة تمثل المركز السياسي للنظام، حيث مجلس الوزراء، ومجلس الشعب، ومجلس الشورى، إضافة إلى وجود مبنى بالغ الأهمية من الناحية العلمية والثقافية، مبنى الجمعية الجغرافية المصرية، والحمد لله كثيرا أن النيران لم تطله، إنني أكتب هذه السطور وحزن عميق يغمرني، فالحريق فادح، وللحرائق موقع خاص في ذاكرة القاهرة، وحتى الآن لاتزال أسباب الحريق مجهولة، ولم تصدر حتى الساعة بيانات رسمية توضح التفاصيل والأسباب، لايزال ذلك يحتاج إلى وقت، وبعيدا عن تصريحات الموظفين مطلوب حصر الخسائر خاصة الوثائق التاريخية التي التهمتها النيران، وليس لنا إلا أن نتمنى محدودية ما جرى، وأن يكون السبب تاسا كهربائيا كما قيل، وإن كان ذلك يفتح ملف الإهمال، وغياب وسائل تأمين الأماكن والمباني التاريخية ضد كوارث من هذا النوع، إن احتراق المبنى ورؤية النيران القوية يثيران الحزن، والتوجس.