خلال الأسابيع الأخيرة، تابع المغاربة شبابهم يتظاهرون ويحتجون، رافعين مطالب مشروعة تتجه رأسا نحو ترسيخ دائم الدولة الحديثة، لكن ما يسترعي الانتباه هو اتفاق التيارات والمشارب الإيديولوجية التي خرجت يوم 02 فبراير وما بعده على المطالب نفسها، فمن أقصى اليسار، مرورا بأكثر التيارات العرقية جذرية، وصولا إلى أكثر التيارات الإسلامية معارضة للنظام، رأينا كيف وحّدت المرجعية الأنوارية لحقوق الإنسان والدولة وشكل الحكم، فلم نقرأ أو نسمع أو نر شعارا واحدا يطالب بتطبيق الشريعة بالنسبة إلى الإسلاميين، أو شعار ديكتاتورية البروليتاريا بالنسبة إلى الشيوعيين... إذ الجميع يطالب باحترام الحريات والاستناد إلى سيادة الشعب ومحاربة الفساد والمفسدين والفصل بين السلط واستقلال القضاء... وهي كلها شعارات يمكننا إيجاد مرجعيتها في فلسفة الأنوار وتطوراتها. فهل يعني هذا الإجماع في المطالب إجماعا في المرجعية؟ هل صحيح أن الدولة، وهي تحافظ على طابعها الديني، تستطيع -في نفس الوقت- احترام المنظومة الكونية لحقوق الإنسان؟ الوضع الحقوقي في مغرب الأمس من الصفات التي لازمت النظام المغربي في عقود ما قبل «الإنصاف والمصالحة»، تلك المتعلقة بمرونته وقدرته الفائقة على التكيف مع القوانين والتنظيمات الحادثة على المستوى العالمي، سواء في مجالات حقوق الإنسان أو الاقتصاد أو الإدارة أو تدبير الشأن السياسي، غير أنها مرونة تصل حد الازدواجية والانفصام في محطات عديدة.. وإذا استطاع هذا النظام أن يكتسب، بهذه الصفة، «مناعة» مكّنته من الخروج بسلام من مراحل تاريخية كانت فيها الشعوب تغير أنظمتها السياسية، كما يغير المرء معطفه في البيت، وكذا من تشكيل حالة الاستثناء في منطقة ما يزال الرؤساء فيها إلى اليوم «لا يأمنون» على كراسيهم، إنْ استجد ما يفرض عليهم السفر خارج البلاد (وما النموذج الموريتاني عنا ببعيد) فإن هذه المرونة ليست وحدها التي سجلها التاريخ لهذا النظام، إذ ما زالت ذاكرتنا موشومة بممارسات أفرغت هذه الاختيارات، على شجاعتها وجرأتها، من مضمونها الحقيقي وأبقت على ازدواجية مرعبة، ما زال الجميع يسعى جاهدا إلى نسيانها، فهل يشكل مخزن اليوم قطيعة مع هذه الازدواجية؟... عندما نصادر بهذه المقدمة عن نظام كان فيه رجل الأمن هو من يعطي شهادة «حسن السلوك» لرجل السياسة والتربية والفن والاقتصاد.. فلأن تاريخ هذا النظام يوفر لنا أمثلة كثيرة على ذلك، هكذا فقد كان النظام سباقا إلى اختيارات سياسية واقتصادية وحقوقية، مثل «الديمقراطية البرلمانية» و«التعددية السياسية» و«دولة السلطات الثلاث» و«الاقتصاد الحر»... في وقت كانت موضة «الحزب الوحيد» و«ديكتاتورية البروليتاريا» و«الاقتصاد الموجه» هي السائدة في أغلب الأنظمة العالم -ثالثية، ومع أن الاختيارات المتبناة كانت مثار سخرية من طرف جيران الشرق، مثلا، الذين كانوا يسِموننا بالرجعية والتبعية للإمبريالية الغربية، فقد كان تبنّيها واضحا ومعلنا ومبعث فخر أيضا عند النظام، ولعل امتدادات هذا الاختلاف في الاختيارات هو ما عزز عداء الأولغارشيا العسكرية الحاكمة في الجزائر للمغرب ودعمها ل«البوليساريو»... غير أن هذا البعد الإستراتيجي، الذي عكسته هذه الاختيارات السياسية والاقتصادية، كان مجرد «فيترينا» للتسويق الخارجي آنذاك أو للعلاقات العامة في المحافل الدولية، وهذا ما أثبتته عقود من تدبير الدولة، وقتها، للمشهد السياسي الوطني، سياسيا وحقوقيا واقتصاديا، إلى درجة قد تبدو معها الأنظمة التي اختارت الحزب الوحيد فلسفة للحكم، أكثر تساهلا من نظامنا. وصحيح أيضا أن هذه الاختيارات عبّرت عن رؤيا إستراتيجية مشهودة للملك الراحل استطاعت، على الأقل، أن تُخلّصنا من أنياب ميليشيات «حزب الاستقلال» ونزوعه إلى السيطرة على المشهد السياسي الوطني ومن أنياب الحركات الاستبدادية الماركسية وكذا صيانة وحدة البلاد من القلاقل التي تولدها الانقلابات، كل هذا صحيح، غير أن هذا لم يكن دون «ضريبة» حقوقية غالية الثمن. الواقع الحالي لحقوق الإنسان ارتبطت المرحلة الثانية في تاريخ الوضع الحقوقي في المغرب بالبدء في مسلسل «الإنصاف والمصالحة»، والذي أعطى أرضية عمل لما عُرِف بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وخاصة في نسخته الثانية، التي دشنها المرحوم إدريس بنزكري، وهي الهيأة التي انتهى عملها قبل أسابيع، إذ هي إحدى المؤسسات العمومية التي تجسد الإرادة الفعلية لمغرب اليوم تحويلَ المسألة الحقوقية إلى عمق المشروع المجتمعي الحداثي الذي نستهدفه بشكل لا رجعة فيه. ومن الطبيعي أن يكون إحداث القطيعة مع ممارسات الماضي على المستوى الإستراتيجي خطوة لتجديد الوصل بين النظام والشعب، المثخن بجراح وخيبات الأمل المتراكمة على مدى عقود من «الرصاص والجمر»، بعد أن كان الخطاب الحقوقي الرسمي «فيترينا» للاستهلاك الخارجي، على غرار مؤسسات موازية أخرى، كوزارة حقوق الإنسان. غير أن هذه التجربة لم تكن لتسلم من الالتباس الذي ما يزال يشوب مشهدنا الوطني العام، التباس موضوعي تفرضه المرحلة الانتقالية ذاتها، بما تفرضه من استمرار ل«الحرس القديم»، المتشبث بما يعتقده واجبا للدفاع عن المقدسات، والتباس ذاتي مرده ضعف الإمكانات، بالقياس إلى حجم الملفات المطروحة، مع التعويل كليا على النوايا الحسنة لبعض ممثلي القضاء والأمن في الكشف عن مصير المختطَفين والمختفين، وهذا الوضع يخلف -كالعادة- نوعين من القراءات: قراءة عدمية تعتبر المجلس إطارا لتنظيف غسيل النظام، مع التأكيد على استمرار ما كان يعتبر ماضيا في حاضرنا، وما يبرر هذه القراءة هو انعدام ضمانات عدم تكرار ما وقع، وقراءة أخرى، أكثر إيجابية، تعتبر المجلس إطارا للعدالة الانتقالية، بما يتضمنه هذا المفهوم من ضرورة العمل الدؤوب على المستويات الحقوقية والقانونية والثقافية، ومن منطلق قناعة مبدئية هي أن وجود مجلس لحقوق الإنسان في دولة هو اعتراف ضمني بأن مبادئ حقوق الإنسان، كما هي متعارَف عليها كونيا، لم تجد بعدُ الأرضية المناسبة لتحيينها. مستقبل الحربات في مغرب الغد تُطلعنا تجارب دولية كثيرة، منها تجربة جارتنا الشمالية، على أن المدخل الحقوقي يمكن أن يكون مدخلا مشروعا للتوافق على بنية من الإصلاحات، وأولها الإصلاحات ذات الطبيعة السياسية والدستورية، لسبب رئيسي وذي أهمية قصوى، وهي أن ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في الإدارة والمجتمع، بمختلف مكوناته، يمكن أن يضمن حدا أدنى من التوافق على مختلف الواجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما الاضطرابات السيكولوجية التي يعيشها المواطن المغربي اليوم، على خلفية الحركات الاحتجاجية ل02 فبراير وما بعدها، إلا نتيجة طبيعية لفشل كبير على مستويين رئيسيين: مستوى سياسي، عندما لم يحقق اليسار أي شيء في ما كان يُنتظر منه شعبيا ورسميا، ومستوى حقوقي، يتمثل في كون مسلسل الإنصاف والمصالحة انتهى -للأسف- دون أن يحقق المشرفون عليه الحد الأدنى من فلسفته. لذلك، فتأسيس مؤسسة حقوقية هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بحجم الصلاحيات التي يعطيها لها ظهير تأسيسها، يمكن بالفعل أن يكون خطوة في الاتجاه الصحيح لتدارك أخطاء في التصور، حرمت المغاربة جميعا من جني ثمار النقلة الحقوقية التي جاء بها مسلسل الإنصاف والمصالحة، ثم وهذا هو الأخطر، أن هذه الأخطاء في التصور قوت تيارات حقوقية وسياسية عدمية تدافع عن أطروحة فيها من الجحود الشيء الكثير، وهي أنه لم يتغير شيء، وأنا أقول الجحود ولستُ أعرف كلمة أقوى، فمن سمع وقرأ شعارات المتظاهرين في 02 فبراير الماضي، سيتأكد بالملموس أن المغرب تغيّر، نعم تغير كثيرا. صحيح أنه ليس هو بريطانيا ولكن ليس هو كل العرب، فمتى كان المغربي، قبل عقدين، قادرا على رفع شعار خطير «الملكية البرلمانية» في مكبر صوت، وفي الشارع العام، دون أن يُعتقَل أو يُختطَف؟ بل وهناك شعارات أخطر من هذه بكثير، ومع ذلك رأينا كيف استمتع قائلوها بما قالوه دون خوف، إذن، هل تغيّر المغرب؟ نعم تغير، فقط ينبغي إحداث نقلات مؤسساتية تلملم شتات ما تحقق وتكون لها أيضا القدرة على مراقبة وضمان وترسيخ عدم العودة إلى الماضي، فمسلسل الإنصاف والمصالحة ليس شيئا منجزا وتاما، بل هو مشروع مفتوح لم يُنجَز بعدُ، فهو أفقٌ أمامنا وليس تراثا نهائيا وراءنا. إن عملية الإنصاف والمصالحة، في «نسختها» الأولى، كانت محتشمة، إذ أظهرت وكأن المشرفين عليها كانوا يستهدفون الاستماع من أجل الاستماع، الأمر الذي لم يترك أثره الشعبي المسطر له قبلا، وهو القطع مع ظلام الماضي بنور الحقيقة وتكسير جدار الصمت بمعول البوح، وكأن العملية أٌريد لها النسيان... إن أهم وسيلة للإنصاف هي التنمية المستدامة، وهذه أهم هدية يمكن أن ينصف بها شعب بأكمله، لأن الضحايا كانوا يطالبون بالخبز والكرامة لهذا الشعب، ولا أرى من وسيلة لتحقيق هذا غير التنمية المستدامة، لأنها ستجعل هذا الشعب يجني ثمار ما زرعه أبناؤه الأوفياء لقضاياه، وهو في نفس الوقت صمام الأمان ضد النزعات المتطرفة، سواء في أقصى اليسار أو في أقصى اليمين، وهي النزعات التي نلاحظ أنها تستغل الأخطاء في مجال التنمية للترويج الشعبوي لأطروحات ستجعلنا نتنكر ليس لماضينا فقط، بل ولمستقبلنا أساسا، فالاعتذار المطلوب اليوم هو تحقيق تنمية مستدامة حقيقية، تعيد إلى الشعب ثرواته المنهوبة وتقرب الدولة من المواطن وتُرسّخ قيم الحكامة الأمنية والعدالة الاجتماعية... من أجل كل هذا، استشهد من استشهد وعُذّب من عُذّب، ما يؤسف له حقا هو أن الدولة، حتى بعد انطلاق مسلسل الإنصاف والمصالحة، كانت «وفية» لنهجها السابق، وهو دخولها على خط المزايدات السياسية، مع أن دورها الأساسي تحكيميّ...