حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. قصة اليوم هي لسيدة تقف على أعتاب العقد الرابع من العمر، اسمها «سعيدة». لم تكن ترغب في الحديث عن أي شيء عندما التقيتها، ورفضت بالتالي أي تواصل معي. كان يمكنني أن أتجنبها لو أنني عدلت عن الإصرار على كتابة قصتها، لكنني صممت مع ذلك على أن أقترب منها فكلمتها على الهاتف مرة واثنتين إلى أن فتحت لي قلبها قائلة: عندما يموت الإحساس داخل الإنسان يفقد الرغبة في أي شيء، ما فائدة الكلام أمام تكوم متتاليات الحزن الشرسة التي تعصف بالقلب وتدفعنا للانفجار في وجه الحياة. أنا كرة حلم محترقة تتقاذفها الأيام، كنت بالأمس أمثل الأمل لكل من كانوا حولي، كان يتعبني الشعور بأن علي أن ألبي الأمور التي يحتاجون إليها، واليوم أنا بالنسبة إليهم مجرد عاهرة متقاعدة لا يرغبون بحضوري بينهم حتى لا تهتز الصورة المنافقة التي يظهرون بها أمام الآخرين. تسكنني ذكريات أليمة تلتهم أحاسيسي وأنا أتذكر كل ما مر بي، «كيف كنت وكيف وليت» من تصيبه مصائبي يجد كل شيء بعد ذلك هينا. وهذه إحدى علامات المستقبل المظلم الذي ينتظرني. كنت مراهقة أقف في مواجهة الحياة وما ينتظرني من مشروعات حياتية عملاقة سوف تحدد ملامح حياتي المستقبلية، كان أهم مشروع بعد الدراسة هو مشروع يحمل لمسة الشرف والكد، كنت أرسم لنفسي أجمل الصور عن غد مشرق، كنت مجتهدة أحصل دائما على أولى الرتب في المدرسة فكانت أحلامي تتلخص في أن أصبح طبيبة أو مهندسة أو ربانة لأسبح بأحلامي في عرض المحيطات. لكن بمجرد انتقالي من المرحلة الابتدائية في مرحلة الطفولة والبراءة اكتشفت أشياء لم أكن أعلم بوجودها، تغيرت مع اكتشافها خارطة أحلامي، إذ تشكل وعيي من جديد وتغيرت لدي الكثير من المفاهيم وفقدت فكرة أن أًصبح طبيبة أو مهندسة رونقها. فأخذت نتائجي تتراجع وأصبحت الدراسة آخر همي، بل صارت عبئاً ثقيلا يسلبني الكثير من الوقت الذي كنت بحاجة إليه لأسرح وأمرح على راحتي وأتوه طيلة اليوم من مقهى لمقهى ومن سيارة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر رفقة فتيات كن في مثل سني. محيطي العائلي الهش سمح لي بالمشي في طريق الأخطار دون رادع إلى أن وقعت في شباك امرأة دللتني وأولتني اهتماما كبيرا، تعرفت على والدي وبدأت بعد ذلك في عملية سلخي عنهم، كان ذلك عبر دعوتي للمبيت في بيتها في الأول ثم تطور الأمر لتشجعني على مغادرة بيت والدي والسكن معها، وحين تأكدت من تعلقي بها إلى درجة ليس بعدها تراجع جعلتني أخطو خطوتي الأولى في اتجاه ممارسة الدعارة. كنت صيدا سهلا وقع في شباكها فأقنعتني أن السير في هذا الطريق الجديد يعد بالكثير ولن يؤثر فقط علي لأحصل على ما أريد من خلاله ولكنه سوف ينعكس على مجمل حياتنا كأسرة يشرئب عنقها إلى مغادرة شرنقة الفقر؟ منحني هذا الاقتراح الأمل في إنشاء واقع جديد وفرصة لحياة أحسن وجني عائد مالي محترم. كنت أكسب الكثير، كان المكسب الأول بيت أهداه لي أحد الشيوخ كهبة أيضا، وباختصار أصبحت حياتي كلها هبات بعد أن أصبح جسدي ساحة تدور فيها أعتى معارك الرجال من كل أمم الأرض. أصبح للمال سحره في علاقتي مع الآخرين وأولهم أسرتي، أخرس، وجمد نخوة والدي حين دخل إلى جيبه، أطلق سلطويته المزعومة من عقالها، لتذهب دون رجعة مع الريح، أما والدتي فكانت حليفتي في كل شيء فقد كنت خائفة من ولوج عالم الدعارة وكانت هي متشوقة إذ لم تكن تكف عن ترديد «تتخرجي تتخرجي اللهم مع اللي كيعطي أحسن من اللي كيعطي غير الهضرة الخاوية» في إشارة لعلاقات لي كانت تعلم بوجودها مع شباب مغاربة. كنت جميلة وقبل 20 سنة لم يكن طريق العهر هو المنفى لكل المغضوب عليهن من الحياة ولكل المختفين وسط زحامها دون مسكن مناسب وملبس لائق، كنا نحن المتعاطيات له قليلات لذلك كان الإقبال علينا كثيرا وما أتلقاه كان مهما، ليس كما يحصل الآن مع «برهوشات اليوم»، حيث «طيحو السوق معهم» ورحب الشيوخ بهذه الجيوش وأدخلوهن على الفور إلى ميادين السباق وبعد أن وطدن أركانهن واكتسبن قوة جديدة لم يتوقف مدهن واستولين على كل شيء وطردت أنا ومثيلاتي من حلبات السباق نحو الربح السهل منذ زمن. لم أكن أنتظر مثل هذا اليوم، كنت ألعب بالملايين، سافرت إلى دبي ولمصر ولبنان وسوريا والأردن والكثير من العواصم العربية لممارسة الدعارة الراقية مع شيوخ خليجيين. كنت أسافر تحت غطاء راقصة وفنانة رفقة الكثيرات، كان يتم عرضنا على مسارح الأندية الليلية أمام الزبائن الذين ينتقون المناسبة منا لقضاء ليلية أو أكثر معها. الدعارة المقنعة منتشرة على نطاق واسع: كنا نرتدي العباءة خشية ملاحقتنا ونمارس نشاطنا من تحتها. كانت بعض السهرات تدوم ثلاثة أيام متواصلة، كانوا يعطونناحبوبا ومنشطات تساعدنا على ذلك، «باش نواصلوا» هكذا كنا نتهيأ وتخبر الواحدة الأخرى قائلة: «اليوم غذي نواصلوا» أتذكر بأسف كبير كل ذلك. لا أكاد أعرف نفسي وأنا أتذكر ذلك، إنها أحداث منتزعة من حياتي، لم أكن أدرك أن الأيام تتغير ولا أمان فيها، كنت أملك المال وكانت كلمتي لا تعلو عليها كلمة، الكل كان يتسابق لإرضائي وخدمتي فور قدومي، لم أكن قد استعددت بما فيه الكفاية لمعارك الحياة، وأول من صدمني هم إخوتي الذين طردوني من بيتي الذي اشتريته سابقا بمالي وكنت قد كتبته باسم والدتي. أعطوني نصيبي الذي لم يكن يكفي لشراء بيت آخر. اكتريت غرفتين أعيش فيهما إلى الآن وباقي المال استثمرته في بيع أشياء بسيطة لأحقق ربحا لا يكاد يتجاوز الخمسين درهما في اليومين، أنا من كانت تصرف بالآلاف في اليوم، عيون والدتي الصامتة الآن هي الشاهد الوحيد على كل ما مر بي بإشراف منها، تقف مكتوفة اليدين بسبب ما يحدث لي، وطبعا اليوم خسرت حياتي، إنسانيتي، مالي، كل شيء أو ربما هي لعنة المال الحرام «اللي تيمشي في الحرام كما يقولون».