حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. «ما عَنْدي زْهَرْ» عبارة كررتها «نادية» على مسامعي لأكثر من مرة خلال الحديث الذي دار بيني وبينها عبر الهاتف، كانت تتأفف بعصبية وهي ترددها وتعود لتقول «أستغفر الله العظيم هاد الشي ما كتاب عليّ». ثم استرسلت في الحكي قائلة: حياتي لم أتذوق خلالها إلا طعم النحس والفشل واليأس، أعيش دائما الأحاسيس ذاتها التي أحسستها منذ ولادتي، الخوف يُلازمني دائما مما يمكن أن تخبئه لي الأيام، الحذر من كل شيء يطبع تصرفاتي، فهكذا تعلمت أن أعيش بحذر، لا أثق في أية لحظة صفاء، أخاف من مشاعر الفرح لأن اليأس يجذبني دائما إليه، أحيانا عندما تسير حياتي بشكل جيد أحس بعدم الارتياح لأنني أتوقع الأسوأ دائما، أجد مشكلة مع سلوكي هذا ولا أعرف كيف أتخلص منه، عوامل كثيرة جعلت كل هاته الأشياء تختلط في ذهني وتعوق مسيرة حياتي، فقد كنت سيئة الحظ منذ المهد. ولدت يتيمة فعشت في كنف عمي ولم أر في بيته يوما أبيض، كانت كل أيامي بلون القتامة والحزن وقصتي في ذلك تشبه قصة الكثير من اليتامى الذين وجدوا أنفسهم في ضيافة الحياة يراقبون مشاهد الآباء يعيشون فرحة الولادة التي لا تشبهها أية فرحة، بينما هم يتكبدون مشاعر الحرمان على هيئة خيبة مرة تدوم مدى الحياة. توفي والدي وترك والدتي حاملا بي، توفيت بدورها عند وضعي فصرت من يومها عبئا على الحياة. علمت حين وعيت أن أسرتي والدتي ووالدي عقدتا جلسة إثر ذلك قاموا خلالها بعمل «قرعة» لسحب إسم من سيتكفل بي، كنت من نصيب أحد أعمامي الذي استشاط غضبا عندما وقعت عليه مصيبة كفالتي. لم أكن أدرك بالتأكيد كل ذلك حينها، لكن زوجة عمي تكفلت بتفسيره لي بالواضح طوال الأيام والشهور والسنين التي قضيتها في بيتها. كنت أنام وأستيقظ على هاته الحقيقة، لم تكن تحترم مشاعر الطفولة والبراءة والنقاء التي لم تكن تهمها أو تهم أي أحد من أبنائها وزوجها. كانت تتفنن في إخضاعي وإذلالي ويصمت الباقون، سأظل أتذكر كيف كنت أقضي الليالي وحيدة، أختفي داخل اللحاف لأبكي بحرقة، بينما هي تلاعب أطفالها وتضحك معهم، كانت تُدخر لهم كل مشاعر الحب وتمنحني نظرات الكره والبغض. حين بلغت سن السابعة أدخلتني إلى مدرسة حكومية بينما أبناؤها كانت تصر أن يدرسوا في مدارس خاصة. حين كانت سيارة النقل المدرسي تأتي لأخذهم من أمام البيت كنت أنا أودعهم لآخذ طريقي إلى المدرسة التي أدرس بها مشيا على الأقدام. حزنت بالطبع لتمييز كهذا ولكن مع ذلك حمدت الله لأنها لم تحرمني من نعمة التمدرس، كنت عندما أعود من المدرسة أصبح خادمة البيت الصغيرة، بينما أبناء عمي كانوا متفرغين للمراجعة ولإنجاز التمارين واللعب ومشاهدة التلفاز. كانوا هم أيضا مثل والدتهم يعاملونني بدونية وكأني شيء زائد في بيتهم وحين يسألهم أحد من أكون، يجيبون: «غير بنت عمي». لم يكن عمي يملك أي سلطة على زوجته وأولاده، كانت هي الوحيدة المتفردة بكل القرارات، وهي من يتصرف في كل أمور البيت وقاطنيه، وهي من يقرر ما يصلح وما لا يصلح لكل واحد. حين بلغت سن الرابعة عشرة من العمر، أجلستني في البيت وقالت لي «باراكا عليك من القراية» بينما أبناؤها لم تعترض سبيل طريق مستقبلهم، بالعكس كانت تحفزهم وتشجعهم على الدراسة. هكذا جاء قرار انتزاعي من حاضرة العلم والدرس والتحصيل، رغم أنني كنت مجتهدة، لألتحق بحاضرة المطبخ والكنس والتنظيف... أمضيت سنوات على هذا المنوال، إلى أن صرت شابة في العشرين، لم أكن أخرج كثيرا لوحدي لأتعرف على شكل الحياة خارجا، كنت حبيسة البيت، فلم تتح لي فرصة الاختلاط مع الجنس الآخر، اللهم بعض القصص التي عشتها من خلف نوافذ البيت مع شباب كانت تلتقي نظراتنا من بعيد، وأحلم بأن أحدهم سيأتي ليفك قيدي وينطلق بي لحياة أكثر رحابة، لكن لا شيء من هذا كان يحصل، فحتى حين يدق بابي خطيب لطلب يدي لا يشرب إلا الشاي ولا يعود ثانية، بالرغم من أنني على قدر من الجمال بشهادة الكل، كنت دائما أتساءل لماذا: هل لأنني يتيمة وعرسان اليوم يطلبون عروسا لديها عائلة، والد ووالدة حقيقيان لكي يقفا بجانبه إذا تعثرت حياته، عكس وضعي أنا الذي لم أجن منه إلا الأعباء؟ هذا هو التفسير الوحيد الذي وجدته لحالتي. ومع ذلك تقبلت الأمر وانتظرت إلى أن التقيته صدفة، رجل يكبرني بسنوات، تعلق قلبي به وأحببته بجنون ربما لأنه الشخص الوحيد في هذه الحياة الذي أظهر بعض الاهتمام بي، لم يدم تعارفنا طويلا لأنني لم أكن أستطيع الخروج من البيت للقائه، فتقدم لخطبتي ومن ثم تزوجنا بسرعة، كنت غير متطلبة وتركت الأمور تسير بسلاسة لكي أعجل أمر تركي بيت عمي وأنتقل إلى بيت زوجي الذي توسمت فيه منذ البداية حسن الخلق. تم كل شيء بسرعة وانتقلت إلى بيته ثم بدأ ما يسمى بالصدمات، وكانت البداية أن زوجي لديه مشاكل جنسية عديدة، صار لي معه الآن ثلاث سنوات ولا أزال بكرا، يستفزني ويعنفني كلما طالبته بحقوقي الشرعية، يقلقني أن أعيش وحيدة بلا أولاد، عندما أفكر في حياتي أجدها غير ما توقعت أن أعيشه، مما يزيد من همومي واكتئابي وحزني، أشعر أحيانا برغبة في الصراخ والبكاء، ولا أعرف كيف سأتصرف، هل أترك الحياة تمضي على هذا النحو وأرضى بهذا النصيب أم ماذا أفعل؟ أنا في حيرة شديدة، لا أستطيع أن ألجأ إلى أبغض الحلال فالمحطة بالتأكيد ستكون بيت عمي من جديد وأنا لا أرغب في عودة بهذا الشكل.