أنهض كل يوم في السادسة صباحا،آخذ الدش الصباحي،وأحمل آلة التصوير وحقيبة الكومبيوتر، وأتوجه إلى المقهى الموجود في ساحة المدينة. هناك أفطر، وأبدأ جزءا من برنامج عملي اليومي. ها أنذا أعود مرة أخرى إلى العمل في المقاهي، كنت قد أقلعت عن هذه العادة مدة طويلة، فمزاجي سريع العطب، وأنفق مزيدا من الوقت في البحث عن المقهى المناسب والمكان الخالي المشرف على الناس، والوقور. في اليوم الأول غيرت المقهى في أصيلة أربع مرات، المكان الأول الذي يوجد فيه «بريز» لشحن الكومبيوتر كان قريبا من المرحاض، ورغم أن الصباح كان باكرا، فإن «حركة المرور» لم تكن تنقطع في اتجاه «بيت الماء» ذهابا وإيابا. هكذا وجدت نفسي نهبا للروائح وللوجوه الصباحية العابسة.. وجوه استفاقت من الدور المجاورة، ووجدت تواليت المنزل عليها الصف، فتوجهت إلى أقرب مقهى. حزمت أمري وقلت لنفسي: كوم يا رجال، لا يصح أن تبدأ صباحك على هذه الرائحة. في المقهى الثاني، كان عامل المقهى يكنس البلاط، وعلى الطاولات المجاورة شابات وشباب، رؤوسهم مرمية على «ليساك آادو» مثل قتلى مر عليهم تنظيم مسلح، قلت مع نفسي هذه هي السياحة الداخلية وإلا فلا. في المقهى الثالث، قال لي النادل: ماكاينش البريز. وحطت قدماي في المقهى الرابع الذي أكتب منه هذه السطور. في اليوم الأول نظر إلي صاحب المقهى بتحفظ، وفي اليوم الثاني اعتاد، وفي الثالث طلبت مني فتاة سيجارة، قلت لها: لا أدخن، أقصد لم أعد أدخن. بدورها كان محياها متعبا، فليل أصيلة لا ينام، وأما في نهارها فمن له «بوادر» فليظهرها، شرط أن تكون بوادر»إيجابية»، وليست سلبية مثل بعض» العضايات» والبطات المبلولة، هؤلاء الرجال بكروش متهدلة، و»الموستاج» من الفوق ورغم ذلك لا يأخذهم الخجل من «حالتهم» المزرية. يمشون دافعين بطونهم إلى الأمام..إلى الأمام. الحق في الشمس هو حق للجميع، البرونزاج في أصيلة بأقل تكلفة، لكن البحر يجلب الجوع، ولذلك تزدهر محلات» المسمن» وطالحريرة»، البشر يحب أن يعوم ويأكل وينام. في آخر المساء أخرج إلى الشاطئ، يتحول الكورنيش إلى امتداد متراخ. غرف الكراء على أشدها، وأن تكون طيب الحظ، هو أن تجد لك غرفة في بيت شعبي أو في نزل. محمد بن عيسى يقول دائما في الجلسات إننا في أصيلة لا نتوفر على بنيات فندقية كبيرة، لذلك، ينزل ضيوف المهرجان في فنادق طنجة. وكأنه يريد أن يقول: «انظروا ما أنا فاعله في المدينة الصغيرة». المسافة بين أصيلة وطنجة لا تتعدى نصف ساعة في الأوقات العادية، وفي الصيف وبسبب الزحمة يصبح لزاما عليك أن تقضي في الطريق أكثر من ساعة ونصف. يضع بن عيسى برنامجا مكثفا، لا يتركك تتنفس، هو يريد أن يقول شيئا لم يتغير، حتى وإن أصبح خارج الوزارة، ولذلك حشد أكثر من 400 شخصية هذا العام. في أصيلة لا توجد إلا قاعة سينما واحدة هي سينما «ماكالي»، شيدت من أيام الإسبان، لكن أمجادها ولت بعد أن أغلقت أبوابها وأصابها الكساد، وهي الآن معروضة للبيع. مبالغ خيالية قدمت لشراء عقار السينما. في نفس الشارع توجد عيادة الطبيبة «إيرينا»، ومبنى الكنيسة التي مازالت تستقبل صلوات قداس يوم الأحد. عدد لا بأس به من الإسبان من أصحاب الديانة المسيحية ما يزالون يقيمون في أصيلة، بل إنهم يعودون إليها مثلما يعودن إلى باقي المدن المغربية. المعبد اليهودي الموجود في الملاح أغلق أبوابه، لا يعمل، ربما بسبب تقلص الحضور اليهودي في المدينة أو أن اليهود لم يعد لهم وجود. أساوم على أكرية المنازل. يقول لي الشاب، ثمن الغرفة الواحدة في حدود 150 درهما لليلة الواحدة، وثمن الشقة في حدود 500 درهم لليلة. يدعوني الشاب إلى مرافقته من أجل رؤية المنزل، أقول له: دعني أستشير أصدقائي أولا، وأتخلص منه. في الطريق إلى مركز الحسن الثاني للملتقيات في المدينة القديمة أمر على ضريح الإمام الأصيلي في زاوية الشارع. الضريح ما يزال مغلقا. هو مجرد قبة صغيرة في زاوية الشارع، تكاد لا تنتبه إليه. بعد الظهر يفتح أبوابه، القيمون عليه يجلسون على قبره المغطى بالقماش الأخضر، بينما يزوره بين الفينة والأخرى رجال ونساء يترجون بركة الولي الصالح. أقول في سري: رزق الحي على الميت، وأنظر إلى بركة أولياء الله الصالحين الجارية، من جد لأب ومن سلالة لسلالة.