متى تولد الحرية حقا ومتى نكون أحرارا؟! في الحوار الذي دار بين الفيلسوف إبكتيتوس وتلميذه، يسأل الفيلسوف التلميذ: هل يستطيع أحد أن يجعلك تصدق ما ليس بصدق؟ فيجيب: لا! يتابع الفيلسوف: هل يستطيع أحد أن يكرهك على فعل ما لا تعتقده؟ يجيب التلميذ: نعم! الفيلسوف: كيف؟ التلميذ: إذا هددني بالموت أو الحبس. الفيلسوف: فإذا لم تخش الموت أو الحبس، هل يستطيع؟ التلميذ: لا. الفيلسوف: أنت عند ذلك حر. مشكلة الإنسان ليست في الخوف الفردي من الطبيعة أو الحيوانات المفترسة، والحشرات الضارة، والخيالات الجامحة، والعفاريت الشاردة، والجن الخفي، والسحر الأسود والغول المتربص. الخوف الأكبر عند الإنسان طبيعته اجتماعية.. إنه خوف الإنسان من الإنسان! الإنسان يخاف كجرعة قصوى من أخيه الإنسان، من النظام السياسي الذي يعيش في ظله، من الدول المجاورة العدائية إذا اجتاحت مجتمعه في صورة حرب مدمرة. جدلية الإنسان وخوفه من أخيه الإنسان هي أكبر فزع وأعظم رعب والتجلي الأقصى للخوف الكبير. ولكن، لماذا يخاف الإنسان من أخيه الإنسان أحيانا بأكثر من خوفه من الله، فالق الحب والنوى والإصباح؟ الخوف عندما يصل إلى جرعته القصوى من مصدر ما يصبح في طريقه إلى الإلوهية، فإذا اقترن بالحب والثقة والاحترام والرجاء بدون حدود برز معنى الله العلي الكبير وتجلت الوحدانية وأشعت الطهارة والمطلق والمقدس. لا يمكن أن يتحرر الإنسان من الخوف ما لم يفكك الخوف نفسه، مصدره، نوعه، أحقيته في طيف الأسئلة العقلية الخمسة الفلسفية الكبرى: لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟ من؟ الأشياء والأشخاص والطبيعة لا تخيف بنفسها وإنما بموقفنا منها وتصوراتنا عنها! فالمشكلة عندنا في أنفسنا وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
علاقة الخوف بالعنف ما هي علاقة الخوف بالعنف؟ الخوف عنف وتوقع أذية. ولكن لماذا نتوقع الأذية وممن؟ القلق هو حالة التوتر والتوقع للأذية. والخوف هو تمكن القلق وسيطرته على النفس إلى درجة الارتجاج والاهتزاز وبداية إفراز سلوك حقيقي، من تقلص المعدة أو الإسهال أو الانهيار والصراخ والهرب من مصدره. إذا تشكلت صورة الخوف في العنف والأذية فهو لم ينشأ في فراغ ومن فراغ. ولكن، هل سألنا أنفسنا أو راجعنا موقفنا.. أننا قد نكون ساهمنا في توليد الأذى المضاد والفزع المسلط والخوف الموجه تجاه ذواتنا؟ ينشط الحوار هذه الأيام في المحطات الفضائية عن غياب الديمقراطية في العالم العربي للبحث عن كبش فداء، ويصفق الجميع في النهاية لكونهم وضعوا أيديهم على منبع الداء ومصدر البلاء: هو السياسي. وينسى الجميع في زحمة تراشق التهم أن السياسي حفيد المثقف، ولكن السياسي مستباح الدم في العادة وهمسا، في صورة هدف بارز وجيد للرشق. هل المراهنة على الديمقراطية عمل السياسيين وصناديق الاقتراع أم وعي الأمة؟ لماذا تشبعت البيئة العربية بكل شحنات العنف وتيارات الخوف؟ لماذا يخاف الطفل من أبيه والمرأة من زوجها؟ لماذا يرجف التلميذ أمام الأستاذ؟ والمواطن أمام رجل الأمن مع أنه خلق للأمن وليس للرعب؟ لماذا انكسرت حلقة الحوار بين السلطة والفرد؟ إنها تعبيرات الخوف في كل مفصل، ومع كل كلمة، ولدى كل هاجس، ومع تحليق كل فكرة. الديمقراطية هي إشاعة جو الثقة والأمن المتبادل للحاكم قبل المحكوم، وإزاحة وزحزحة آليات الإعدام المتبادل والإلغاء المزدوج.
التحرر من الخوف إننا نعيش في عالم مليء بالخوف والعنف، فالعنف والخوف توأمان من رحم واحدة، وننتمي إلى أمة يحلو للآخرين أن يطلقوا عليها نعوت الإرهابية، ونتألم كل يوم بسماع أخبار العنف تقريبا مع كل نشرة أخبار، تصدر في قسم ليس بالقليل من أخبار العالم العربي والإسلامي، ونجد أننا لا نملك حولا أمام حجم العنف والعنف المضاد، ومعها قائمة الضحايا البشرية التي تتلى أعدادها علينا آناء الليل وأطراف النهار، وينتابنا الخوف كأفراد وجماعات من أن يتطاير إلينا شرر هذا العنف أو يسقط فوق رؤوسنا من حيث ندري أو لا ندري، فالزلازل عندما تهز وتقوض الأبنية فوق رؤوس أصحابها لا تبحث عن انتماءاتهم، والبراكين الاجتماعية عندما تحصد الناس تتناول الحيادي قبل المشترك في العنف. أفلا يستحق موضوع بهذا الحجم أن نوجه إليه اهتمامنا لنرى المخرج من هذا المأزق الذي هو شغلنا الشاغل ومازال منذ عقود؟ كل الناس يستطيعون إدراك أن المريض عليل، فوجهه يحسن الكلام بأفضل لغة وأجلى بيان، ولكن ليس بوسع كل الناس أن يشخصوا المرض ويصفوا العلاج، ومن يفعلون هذا هم الأطباء، وسر نجاحهم في ذلك تسلحهم بالمهارات الطبية والقاعدة العلمية التي حصلوها بطول وقت وجهد ومران، وهي بدورها قاعدة تخضع للتجديد الدائم والتطور المستمر.
معالجة المرض الاجتماعي كل الناس يستطيعون إدراك قباحة العنف ومآله الوخيم، ولكن ليس كل الناس يضعون أيديهم على أسباب العنف، فالمرض الاجتماعي يعرفه المتخصصون في التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم التي تتعامل مع النفوس البشرية، فكما تدخل الطبيب بيولوجيا لإصلاح خلل الجسد، يمكن لعالم الاجتماع أن يدرك طبيعة الأمراض الاجتماعية واقتراح حلولها. والمهتمون من أمثالي الذين يحملون هذه الهموم، التي تتبدى لهم من خلال المعاناة مع ملامسة الواقع والتعامل معه، يمكن أن يتشكل عندهم نوع من التصور في كيفية المساهمة في التحرر من عناء اجتماعي ممض. وقناعتي أن كل فرد يمكن أن يساهم في حل المشكلة، عندما يترك العنف كفرد تجاه أي مشكلة تواجهه في الحياة. ترك العنف ليس كممارسة عملية وتكتيك مؤقت، بل كقناعة نفسية كاملة وهدوء نفسي لا يعرف القلق. إننا كأفراد عاديين لا سيطرة لنا على أحد، إن يكن جماعات أو دولا، فضلا عن صانعي القرارات. ولكننا نملك السيطرة، كل السيطرة، على أفكارنا. إنني، كفرد، لا يستطيع أحد أن يفرض علي أن أكون عنيفا. إذن، أستطيع التخلص من العنف، ومن إيذاء أي فرد، ومن المشاركة أو التعاون مع أي كان يؤمن أو يمارس أعمال عنف. يتلخص موقفي في أنني لن أساعد أحدا يريد أن يقوم بأي إيذاء جسدي لأحد، ولن أدعم أحدا يريد أن يحل مشكلة ما بقتل أحد، كما لن أفرح بموت أحد أو اغتياله كائنا من كان.. فهذه أساسيات لتأسيس المفهوم السلامي. إذا استطعت أن أصل إلى بلورة هذا المفهوم بوضوح ووعي، أمكنني مقابلة العالم وأنا مطمئن، فأنا لست متهما بإيذاء أحد، وأستطيع بالتالي أن أعبر عن آرائي بحرية وجرأة فلا تغتال كلماتي قبل ولادتها، ولا أعاني من عقدة الحرمان من التعبير الحر، فعندما أطلقت الأمان للآخرين أمنت نفسي، وعندما سمحت للآخرين بالوجود ولد كياني، وعندما لم أفكر في اغتيال وإزاحة وتصفية وتهميش الآخرين سمحت لوجودي بالوجود، فأكون قد تحررت من الخوف مرتين: من غير خوف من أحد، ومن غير خوف من أن يلصق بي أحد تهمة قتل وعنف وإيذاء، وهي التهم التي تغذي مسلسل سفك الدم.
تجاوز مركب الخوف بهذا أتجاوز مركب الخوف، فأتجرأ على أن أبدي النصح وأطرح رؤيتي في حل المشاكل وأنا على أرض ثابتة، أساسها الأمانة والحرص والثقة وعدم الغدر. دعونا نتخيل التوتر النفسي عند من يمارس العنف أو يرزح تحت سيطرة خيالاته، فهو بقدر ما يفرح بموت الآخرين يقع في حمى الرعب والخوف، فهو لا يصرح بزوابع العنف التي تعصف بمخياله، كما لا يحرص على التصريح بعلاقاته الاجتماعية أو أسماء من يعرف، فكلها اختلاطات لمرض السرية والعنف والخوف وشعور الملاحقة وضغط وإلحاح مشاعر التهمة والريبة المتقابلة. أما من تخلص من كومة هذه الأمراض وما قرب إليها من قول وعمل ونبذ العنف، جملة وتفصيلا، فهو يمشي سويا على صراط مستقيم، تطل من ملامحه معاني الطمأنينة وينعكس على قسمات وجهه الصدق، وفي نبرات صوته القوة والتفاؤل، وفي تصرفاته الهدوء والثقة، فهو يعبر عن آرائه بدون خوف وعقد، ويبني علاقاته مع الناس على أساس الثقة والوضوح والعلنية، ويصرح بأسماء من يعرف بدون خوف التهمة والظنة، فالعنف جنين السرية واللاعنف ابن العلنية. ولمَ يخاف وهو الذي لا يضمر غدرا لأحد أو يخطط شرا ضد مخلوق.. لا يفرح بسوء يصيب إنسانا ولا تنفرج أساريره بخبر موت أو اغتيال أحد، كل همه أن يتفاهم مع أخيه الإنسان بالحسنى برفع مستوى الفهم فهو مفتاح الحل لأي إشكالية تواجههما.