«إن المعاناة الحقيقية التي نعانيها جميعا هي قسوة البرد، رغم توفر الأغطية، وقلة التطبيب، لأن عددا منا يعاني كثيرا من الأمراض التنفسية».. جملة ترددت كثيرا على ألسنة عدد من لاجئي دوار «الصيابرة»، بالقرب من دوار «الملاينة»، الذي يبعد عن مدينة سيدي سليمان بحوالي 25 كيلومترا. لا يحتاج المسافر نحو دوار «الملاينة» في إقليمسيدي سليمان، الذي يقيم بقربه ضحايا فيضانات دوار «الصيابرة»، إلى دروس لتعلم رقصة «أحيدوس»، لأن الحالة المهترئة للطريق التي تؤدي إلى هناك تجبره على أداء هذه الرقصة رغم أنفه... لا يتوانى المشرف على النقل المزدوج عن «تكديس» الراغبين في السفر انطلاقا من سيدي سليمان، إلى درجة أنه يترك الباب الخلفي للسيارة مفتوحا أثناء السير، رغم تعبير الركاب عن استيائهم من ذلك وتكرار شكاواهم بأن البرد يلسع أجسادهم المنهكة. يعطيك السفر داخل سيارة النقل المزدوج نظرة حول انشغالات هذه الطبقة التي لا تخرج عن سياق حديث الرجال عن جني الليمون وعن الأرض والأعمال المرتبطة بها، وحديث النساء عن الأعراس المقبلة وعن خصام هذه أو تلك مع زوجها ومكوثها عند والديها، وبين الفينة والأخرى، يقطع حديثهم خصام المكلَّف باستخلاص المال من المسافرين مع أحدهم، رفض إضافة درهم، لتكملة ثمن «الرحلة»... بأسلوب فضّ، يأمر المشرف على النقل الناس بالتوجه نحو الأمام: «زيدو لْقدّام.. راه كاينْ التيساعْ».. وهدفه هو ترك الجزء الخلفي للسيارة شاغرا، من أجل «نقل» مسافرين آخرين. مراحيض قصديرية لم يتبق من دوار «الصيابرة» إلا الأطلال، بعدما تضرر من فيضانات فبراير من السنة الماضية. منازل قليلة ظل أصحابها صامدين، لأنهم بنوها من حجر، في حين أن منازل المرحَّلين كانت مساكنهم قد بنيت من طين، وبعدما اجتاحتهم مياه وادي سبو، هدمت بيوتهم وضاعت ماشيتهم وأُتلفت فلاحتهم ونُقلوا إلى ملعب بالقرب من دوار «الملاينة». ما زالت مريم بوشتي، وهي امرأة مسنة، تتذكر حجم كارثة الفيضانات التي أصابتها وتُرجع الفضل في سلامتها إلى المنازل المبنية بالحجر، تقول هذه المرأة: «لولا صعودنا فوق المنازل التي لم تهدم، لزهقت أرواحنا، ضاع منا كل شيء، ضاعت كل السلع التي كانت داخل دكاني»... تحت خيمة تكسوها الرطوبة من كل جانب، رتبت «مريم» المواد الغذائية المتنوعة، من أجل تلبية رغبات الزبناء، الذين يقصدونها من أجل التزود بها. مراحيض بلاستيكية وأخرى قصديرية تؤثث ضواحي المخيم، يصعب الاقتراب منها أو قضاء الحاجة فيها، غير أن هناك من اعتادوا الدخول إليها بعدما «تأقلموا» مع الوضع القائم، الذي يظهر جليا في تشييد النساء أفراناً تقليدية بالقرب من هذه الأماكن، فتختلط رائحة الدخان برائحة المراحيض، تضاف إليها رائحة الأزبال، وهو ما يجعل عددا من الأطفال عرضة للأمراض، حسب قول السكان. من بين القاطنين من اختاروا بناء مرحاض بمحاذاة خيامهم، وهي عبارة عن حفرة محاطة بغطاء بلاستيكي من كل جانب، بعد تثبيت أعمدة خشبية لذلك. «ندعوك إلى قضاء الليل في المخيم من أجل الوقوف على حجم معاناتنا، فعندما يحين الليل، لا صوت يعلو على صوت السعال وعلى أصوات بعض الحيوانات، التي «تؤنسنا» هنا».. تقول إحدى النساء، مازحة، تقاطعها جارتها قائلة: «إننا نمارس في الليل مهنة «الحراسة» ونلعب لعبة «القط والفأر» مع الرياح والمطر، ونحاول اتقاء شر البرد والأمطار، التي «تقطر» علينا، بوضع أوان لتجمع المياه». «حرب» مع البرد لاجئو «الصيابرة»، يحتوي هذا الاسم على حروف «الصبر»، الذي طالما ردد أصحابه أنه بفضل هذه الصفة ما زالوا ينتظرون تنفيذ الوعود، من أجل القطع مع ظروف عيشهم داخل «الخيام» التي لجؤوا إليها منذ فيضانات 2010. تتالت عليهم الفصول فعانوا من حر الصيف ومن برد الشتاء، عددهم يفوق 2000 نسمة، يقيمون في حوالي 300 خيمة أو بالأحرى أبنية قصديرية. خيام بالية ومساكن قصديرية جعلت أصحابها يخوضون يوميا حربا ضروسا على عدوهم الأول «البرد والشتاء» والصيف الحار. عندما يهطل المطر، يتسرب إلى أفرشتهم، لذلك فإن الأسِرّة الحديدية والخشبية تعتبر عملة نادرة لديهم، لأنها تقيهم، على الأقل، قسوة البرد. تقول حادة الرياضي: «إن الحال يغني عن السؤال، فلولا هذا السرير الحديدي، لَما استطعت النوم أبدا من شدة البرد والأمطار التي تتسرب من الجدران القصديرية». تقول هذه المرأة، التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها وزواج ابنتيها، إنه لا معيل لها وإنها «تتحارب مع الزمان»، على حد قولها. «البرد والمرض» هو المشكل لدينا، تقول رقية الغنيمي، وهي امرأة مسنة لا تفارقها روح الدعابة والنكتة، لتؤكد أن وضع المسنين صعب للغاية، ولكن لا خيار لهم سوى الانتظار. جعل حال المخيم بعض الفتيات يستغنين عن حفل الزواج، لأن الواقع لا يساعد على ذلك، واحدة فقط من تحدّت المشاكل وأقامت عرسا داخل خيمة كبيرة واستدعت الجيران من أجل كسر رتابة العيش في المكان، حسب قول قريبتها. «كينة وحدة» للجميع بالقرب من مدرسة دوار «الملاينة»، هناك مركز متنقل للقرب، تابع لوزارة الصحة، لا تفتح أبوابه إلا مرتين في أسبوع، فيحل طبيب بالمخيم، ليكشف عن المرضى من الناس. هذه الزيارة، وإن كان يعتبرها بعض السكان كافية ومقنعة بالنسبة إليهم، فإن ما يؤاخذونه على وزارة الصحة هو عدم منحهم الأدوية التي تناسب أمراضهم المتعددة. «كينة وحدة كتخدم ل300 أسرة، واش حنا كلنا عندنا مرض واحد؟ واش هادشي معقول؟»، تتساءل «فاطمة» بصوت مرتفع، وهي تستنكر استغباء المواطنين، عبر منحهم نفس الدواء. غير أن هناك من يقول إن المسؤولية لا يتحملها الطبيب الذي يقوم بواجبه لأن طلبات ساكني المخيم لا تتوقف ولا يمكن له أن يلبي حاجياتهم المتعددة والمختلفة. داخل خيمته القصديرية، يرقد إدريس الحيرش، على فراش جد متواضع، درجة حرارته مرتفعة، يحمل كأسا وضع فيه قرصا من دواء الحمى وصداع الرأس، اشترته زوجته من الدكان. يقول الحيرش، الذي كان يعمل مياوما في إحدى الضيعات الفلاحية: «هذا قدَرُنا، إمكانياتنا متواضعة ولا بديل لنا سوى الاكتفاء بأخذ دواء الدكان»، ليضيف بانفعال: «حْنا مْكرفصينْ بزّاف، والشكوى لله»... على مقربة من سكن الحيرش، تلزم عائشة فراشها، رفقة طفليها، بعد إصابتهم جميعا بالزكام وارتفاع درجة حرارتهم. لا تقوى «عائشة» على النهوض ولم تجد من يعينها سوى جارتها، التي تتابع أحوالها الصحية وترعاها وتتكفل بإطعامها، أما زوجها فلم يجد بدا من السفر وترك الزوجة مريضة، لأن البقاء إلى اجانبها لن يفيده في شيء. لقد رحل للبحث عن عمل، من أجل تأمين قوت أسرته الصغيرة المنكوبة... انقطاع عن الدراسة لم يمنع المكوث في مكان آمن بجانب دوار «الملاينة» من وقوع حوادث سرقة للمنحدرين من دوار الصيابرة، وهو ما دفع إلى أن يعود بعض الفلاحين إلى مكانهم الأصلي في انتظار الحلول. يقول فلاح من المنطقة: «عادت حوالي 25 أسرة إلى هناك من حتى تكون قريبة من أراضيها الفلاحية وتسهر على حراسة مواشيها، في حين ظل بالمخيم جل السكان، لأنه لا مدخول لهم سوى العمل كمياومين». يقطع تلاميذ هذه الأسر حوالي كليومترين يوميا من أجل الدراسة في مدرسة دوار «الملاينة»، الذي يوجد بجانبه مخيم لاجئي الفيضانات بعدما تهدمت المدرسة بفعل الكارثة البيئية، فكان نصيب أطفال من يتوفرون على منازل من حجر التنقل لمتابعة الدراسة في المدرسة التي يدرس فيها اللاجئون. وإذ كان أطفال صغار ما زالوا يقطعون المسافات من أجل الوصول إلى المدرسة الابتدائية، فإن آخرين من القاطنين بالمخيم قد انقطعوا، بفعل ارتفاع تكاليف التمدرس، خاصة الذين يدرسون في الإعدادية أو الثانوية. طارق بنزينة (20 سنة)، انقطع عن الدراسة لأنه إثر حدوث الفيضانات غاب عن الفصل لمدة شهر من أجل مساعدة أسرته، وحاول الحصول على شهادة طبية من أجل متابعة دراسته، لكنه لم يتمكن من ذلك فكان مصيره الشارع. يؤكد طارق أنه بعدما كانوا ينتقلون من دوار «الصيابرة» إلى أقرب إعدادية وهي إعدادية «لعبيات» بدرهم واحد على متن وسائل النقل المزدوج ودرهمين عبر سيارة أجرة كبيرة، أصبحوا الآن ينتقلون بدرهمين في وسيلة النقل الأولى وثلاثة دراهم في وسيلة النقل الثانية. أما تلاميذ المستوى الثانوي فينتقلون يوميا عبر النقل المزدوج بمبلغ سبعة دراهم بعدما كان ذلك يكلفهم قبل الفيضانات خمسة دراهم. إضافة درهم واحد قد لا يعني لعدد من المواطنين الشيء الكثير، غير أن عدم توفر أسرة على هذا الدرهم الإضافي قد يساهم في القضاء على مستقبل عدد من الشباب، بسبب الحاجة والفقر. في انتظار السكن عاد الأمل إلى اللاجئين في الآونة الأخيرة، بعدما تم اقتناء 10 هكتارات من لدن الدولة من أجل تجهيزها لتصبح بقعا أرضية من أجل أن يبنوا مساكنهم عليها. يقول بوشتى البركي، عضو لجنة المجتمع المدني المكلفة بتدبير الفياضانات لدوار الصيابرة، «نعقد اجتماعا كل 15 يوما مع السلطات المحلية من أجل مباشرة إعادة إيواء سكان دوار «الصيابرة»، وحاليا تتم مباشرة تجهيز الوعاء العقاري الذي تم اقتناؤه بالماء الصالح للشرب والطرق وبناء الحاجز المائي». لم يتم تحديد وقت لإعادة الإيواء، لأن الأمر يتعلق بتسليم بقع أرضية، وبعدها ستكون مرحلة البناء التي سيتكلف بها المستفيدون من البقع الأرضية والتي ساهموا فيها بقيمة 5000 درهم، حسب إفادات السكان. ما «خفف» عن الساكنة هو تلقيهم منحا مالية من قبل محسنين قالوا إنهم إمارتيون، إذ تسلمت كل أسرة حوالي مليوني سنتيم. لكن ما يخشى بعد تسليم البقع الأرضية هو حمل البراريك إلى دوار «الصيابرة»، إذ إن جل الأسر لا تتوفر على مدخول مالي يؤهلها لبناء منزل، لذلك تقترح سهام بيوض، طالبة، أن تقدم الدولة للأسر ثلاثة مليون سنتيم عوض 15 ألف درهم التي خصصتها لضحايا الفيضانات في العالم القروي، وتلزم الأسر بتخصيص المبلغ للبناء، حتى لا يصبح الدوار من جديد بناء عشوائيا، وتتكرر المأساة نفسها، في حالة اجتياح الفياضانات للمنطقة. تقول سهام «إن جل الأسر تنتمي إلى الطبقة الفقيرة، فالذين يعيلون الأسر جلهم مياومون، لذلك ينبغي أن تكون مساعدات كي يرتاح السكان».
50 مركز ا لإيواء ضحايا الفيضانات عرفت السنة الماضية فيضانات خلفت عددا من الخسائر فتم إعداد 50 مركز استقبال، وإيواء أكثر من 22 ألف شخص في منطقتي الغرب وسوس، وتوزيع أكثر من 55 ألف كيس غذائي، و60 ألف غطاء، و20 ألف فراش. ومن بين مراكز الاستقبال مركز دوار «الصيابرة»، إذ تم تهيئته بالماء والكهرباء في انتظار وضع حل نهائي، بعدما تشكلت لجنة تقنية مكونة من السلطة المحلية، ومصلحة المسح الطوبوغرافي، والمحافظة العقارية، ومصالح الفلاحة قصد البحث عن بقعة أرضية لاستقبال مشروع إعادة إيواء المنكوبين، فتم اختيار بقعة أرضية مساحتها 10 هكتارات في دوار «الملاينة» من طرف ممثلي العائلات المتضررة، وتمت الموافقة على هذا الاختيار من طرف اللجنة التقنية الإقليمية، وذلك باقتناء البقعة الأرضية من طرف الجماعة القروية أولاد احسين، إذ بلغت التكلفة الإجمالية لاقتناء البقعة 350 مليون سنتيم، حسب ما ورد في تصريحات إعلامية لمسؤولين محليين وقتها، وبعدها تمت إعادة تفويت البقعة الأرضية باسم أرملة مالك البقعة الأرضية ونشر ذلك في الجريدة الرسمية، إضافة إلى تدخل من طرف وزارة الفلاحة من أجل إسقاط الصبغة الفلاحية عن القطعة الأرضية من أجل خلق تجزئة لإعادة إيواء متضرري دوار «الصيابرة» من الفيضانات. وللإشارة، فقد بلغت المساحات المتضررة من الأمطار على المستوى الوطني، والتي اشتدت في فبراير من سنة 2010، ما مجموعه 168 ألف هكتار، منها 135 ألفا في منطقة الغرب. وتسببت الفيضانات في نفوق ألف و371 رأسا من الماشية، وإتلاف 4025 خلية نحل، و108 آلاف و500 من الدواجن. كما أدت إلى إتلاف عدد من السواقي والآبار، وآلات الضخ والحواجز التحويلية، وإلى انجراف جنبات وديان وتوحل قنوات لصرف مياه الأمطار. وعلى الصعيد الوطني، غمرت الفيضانات 25 عمالة وإقليما، بصفة متفاوتة، أدت إلى غمر ما يفوق 32 ألف هكتار من المساحات الفلاحية ونفوق أزيد من 550 رأسا من الماشية وتلف عدد من التجهيزات الهيدروفلاحية. وبلغت التكلفة الإجمالية للخسائر 366 مليون درهم، حسب بلاغ للوزارة الأولى. ورصدت الدولة اعتمادات لتمويل البرنامج الاستعجالي من الميزانيات الخاصة بالوزارات المعنية، في حدود 915 مليون درهم ومساهمة صندوق محاربة آثار الكوارث الطبيعية، في حدود 565 مليون درهم، مع تخصيص مليون فرصة عمل يومية، عن طريق الإنعاش الوطني، لفائدة سكان المناطق المنكوبة.