الظلم والطغيان والتسلط والاستبداد كلها وجوه لنفسية واحدة يطبعها الجور والاستعلاء ويسكنها البطش والجبروت، وهي قيم غالبا ما تلتقي كلما نزعت النفس إلى واحدة منها، وتتضخم كلما زاد موقع أهل الاستبداد وعلا سلطانهم. هكذا تجري قاعدة الطغيان على واقع الإنسان وفق قانون إلهي سمته الاطراد، وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ وتعرضه تقريرات القرآن من باب النُّذر والاستذكار. القرآن الكريم يعرض، بكثير من التفصيل، لقاعدة تسلط ذوي النفوذ، كما يكشف عن كثير من أسباب الطغيان من خلال نفاذه إلى خبايا النفس البشرية ومن خلال تعرية أستارها وكشف حجبها، فنصوصه تعالج في تشخيصها لأسرار النفوس ظاهرة التلازم بين القوة والعجب، بين الغنى والطغيان، والرياسة والاستبداد، والجاه والاستعلاء، كما تعرض لحالات اجتمعت فيها هذه الخصال كانعكاس لذات الأوصاف. ومن هذه الحالات ما استعرضه القرآن الكريم من تسلط صادح لفرعون الذي قال لوزيره يوم امتلك نواصي الناس: «يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات والأرض فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا»، وقال «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي». هذه النفسية حين نقلها القرآن، نقل معها صورة غارقة في الانتشاء بالسلطة، كما نقل معها أخطار التعمية التي يمكن أن تمارسها السلطة على قلب صاحبها، وهذا العمى لا يعلقه القرآن بالرياسة فحسب، بل يكاد يكون في معهوده صفة لازمة لاتساع نفوذ السلطان كيفما كان نوعه، حيث يصيب، في من يصيب، بعض أهل الثراء الفاحش من المغترين، على اعتبار أن المال يُمِد صاحبه بدعاوى العجب والاستعلاء أيضا، وبيان ذلك في قوله تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»، فالظلم والطغيان مردهما إلى امتلاك الإنسان أسباب القوة كيفا كانت، مع اقترانها بسوء التدبير والاستغلال، أما إذا اجتمعت هذه الأسباب فإن سوء التدبير يِؤدي إلى ظلم كبير. ومن عجيب الترتيب الرباني في النص القرآني أن الوحي، بالقدر الذي يقدّم هذه الأمثال والقصص بغرض التشخيص والكشف وتقديم العبرة، يعرض نموذجا فريدا وأسلوبا غاية في الحكمة في ردع سطوة المال والسلطان والجاه والحسب وما يترتب عنها من ظلم وجور. فهذه القضايا لا يحسبها القرآن الكريم ظواهر للانحراف تجََُبّها الصالحات، وإنما يعتبرها أولويات للدعوة ويحسب الحرب عليها أساسا يسبق التشريع. فالطغيان والاستبداد والبغي واستعباد الناس وقمع الحريات ظلم يستحق أن ترسل الرسل ويبعث الأنبياء لرفعه، ولذلك اعتبرت قيم العدالة وما يتبعها من حريات وكرامة إنسانية وغيرها من أهم كليات التشريع ومقاصد البعثة، ومن الأساسيات التي كلف بها الرسل ابتداء، يقول الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا عليه السلام: «وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم»، وهذا البيان يلخص رسالة النبي في جملة واحدة تحتمل كل جزئيات التشريع، والآية التي تزكي هذا المعنى هي قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي». ولعل قائلا يقول: كيف يتضمن النهي عن الظلم والبغي فروع الشريعة؟ والجواب أن قضية العدالة جامعة لكل ما يندرج تحت قيمة العدل من قيم، يقول الإمام العز بن عبد السلام: «فإن العدل والإحسان للعموم والاستغراق فلا يبقى من دِق العدل وجِلِّه شيء إلا اندرج في قوله إن الله يأمر بالعدل... وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولما ينكر من الأقوال والأعمال». إن القرآن الكريم حين يتحدث مثلا -وليس حصرا- عن قيمة التعددية وواجب إتاحة المجال للفكر المخالف يعتبر ذلك وجها من وجوه العدالة المطلوبة ابتداء وينكر على المستبدين بالرأي هيمنتهم وتسلطهم الفكري. ومن أجل التوضيح، يقدم نماذج يحيطها بالاستنكار، ومن ذلك بسطه لدكتاتورية فرعون الذي صار رمزا للظلم والاستبداد، حيث قال لقومه: «لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد»، فهذه الآية تنكر على فرعون غياب الحوار والإقناع في بسط الأفكار، وسياقُها يؤاخذ هذا الطاغية على أخذ الناس على الرأي الواحد وإلزامهم به، حيث إن الصواب -في التصور القرآني- مهما تجلى للمدعي، فإنه يحتاج إلى قبول الناس له واستحسانهم إياه، وكأن القرآن يقول إن الرئاسة تستدعي الرجوع إلى رأي القواعد أو من ينطق باسمهم. ولتقريب الصورة وتجليتها يقدم القرآن نموذجا سياسيا ناجحا على سبيل وضعه للاحتذاء، ويتمثل في طريقة تدبير الحكم عند ملكة سبأ التي قالت لقومها، من موقعها المشابه لموقع فرعون السياسي والرياسي: «قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمان الرحيم»، وخفيُّ الإيحاء في الآية يشير إلى استحسان الملكة لمضمون الرسالة «الكريمة» من سليمان، بما يعني أن رأيها كان يميل إلى اتباع ما جاء فيه، ولكن ذلك لم يمنعها من الرجوع إلى القواعد وإشراك الناس في ما يهم قضاياهم، ولذلك أفصحت عن قناعتها بالقول «أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون»، فللناس رأي لا بد أن يحترم، ولا يمكن الاستهانة به على أي حال من الأحوال، ولا سبيل إلى تحقير المواقف الفكرية المخالفة ولا التنقيص من القدرات العقلية للعوام، وإلا فإن احتكار الحقيقة والرأي يؤديان إلى الاستبداد والطغيان وقمع إرادة الجماهير. ومن جهة أخرى، يؤكد القرآن الكريم في مناسبات كثيرة على ضرورة تمكين الناس من حرية العقيدة على اعتبار أن احترام قناعات الناس، بعد مطارحة وحوار، هو من صميم إشاعة مبدأ التعددية الفكرية وحرية التعبير اللتين يتضمنهما مبدأ العدل الأسمى، وفي ذلك قوله تعالى: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وقوله جل وعلا «وذكِّر إنما أنت مذكِّر لست عليهم بمسيطر». ومن المهم القول أن منهج القرآن في إثبات حرية الاعتقاد لا يقتصر على الحث والأمر، وإنما ينهج أيضا مسلك الاستنكار كما جاء في قوله تعالى على لسان مؤمن فرعون: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، فإن يك كاذبا فعليه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم». فالعدل يقتضي ضمان حريات الأفراد والجماعات وإتاحة فرص التعبير وعدم كبتها، كما يعني ضمان حق الوجود والحياة وعدم استباحة الدماء، ويعني أيضا حفظ كرامة الناس ومنع تمريغها في التراب، وصيانة الحقوق المالية والاقتصادية للناس وعدم التطاول عليها، وكل ذلك يدخل في الكليات العامة وأمهات القضايا التي جاءت الشريعة لرعايتها وحفظها من باب إشاعة العدل وتحقيقه، وتحتها تندرج كل القضايا الجزئية واللامتناهية للناس. إن ثنائية العدل والظلم في القرآن الكريم تساق، في الغالب، في ارتباط بالعمران، وهناك آيات كثيرة تؤكد أن هلاك الأمم إنما يكون بسبب تفشي الظلم وغياب العدل، يقول تعالى: «وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون»، فالعدالة حين تسود على جميع المستويات، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، تكون نتيجة ذلك رفاه الشعوب وتحَقُّق النماء وسيادة الأمن، وإلا فإن العكس يودي بالأمم ويؤدي بها إلى استفحال الفوضى والقتل والنهب والاضطراب في البلاد، وقد يحصل نتيجة لذلك ما عبر عنه ابن خلدون ب«خراب العمران»، وآثار هذه السُّنة المطردة في القرآن لا يحمّلها الوحي للظلمة المتسلطين فرادى، وإنما يقلدها الأمة، قمة وقواعد، فهي تصيب الظالم في نفسه، لكونه أودى بمصالح الأنام وخان أمانة الاستخلاف على الناس، ومن ذلك قوله تعالى: «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»، كما أن شرر فتنتها يصيب المجتمع كله والناس جماعة في أمنهم وأرواحهم بما اقترفت أيدي رؤوسهم من الظالمين أو الظالم الواحد، يقول تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة»، فاستفحال ظاهرة الظلم مسؤولية يقلدها القرآن لكل الأمة، الظالم لظلمه من جهة والناس لقابليتهم واستعدادهم لاستقبال هذا الظلم، يقول تعالى: «فلا تركنوا للذين ظلموا فتمسكم النار». والقرآن على كلٍّ ما تنزل إلا لغاية الهداية للتي هي أقوم وليذكر المؤمنين، ولكن أكثر الناس لا يعقلون.