كان شعورا بالفخر والاعتزاز حينما قبلت الحكومة المغربية دون سواها في العالم العربي أن تحدث قناة الجزيرة القطرية مكتبا لها بالرباط لتبث منه نشرتها المغاربية. كانت بالفعل خطوة، نعتبرها للتاريخ، جريئة انسجمت وإرادة العهد الجديد في تثبيت ثقافة حرية التعبير والانفتاح والحق في الاختلاف. وتصورنا بصدق أن سعة الصدر التي أبانت عليها الدولة المغربية هي سلوك حضاري مبدئي ستدبره الحكومة بآليات تواصلية موازية مهنية ناجعة وفعالة. الآن، ومن غير أن نستبق الأحداث، كثيرة هي المعطيات التي تشير إلى أن مكتب قناة الجزيرة بالرباط ربما سيغلق ولربما سيتوقف الحديث عن الموضوع بشكل قطعي، لكن التاريخ لن ينساه ليذكرنا دائما بأن سعة الصدر تلك لم ترق، بالرغم من انزلاقات مقاولة الجزيرة، إلى مركز ومكانة الدولة.. الدولة المغربية. وأملنا في أن تتبنى قنوات التواصل للحكومة الملف من جديد، مستعينة بعضويها اللامعين في حقل الإعلام والتواصل لتدارك ما وقع، بغض النظر عن الجوانب القضائية والسياسية للمشكلة، وذلك للحيثيات التالية: - أبانت الدولة المغربية في كثير من المحطات التاريخية، الحرجة أحيانا، عن مرونة كبيرة في تعاملها مع الإعلام الأجنبي. وتعتبر النصوص المنظمة للإعلام الأجنبي بالمغرب مثالية بالمقارنة مع مثيلاتها في بعض الدول الأوربية والعربية، بل إن مواقف الدولة كانت متحيزة أحيانا لفائدة منابر إعلامية أجنبية أساءت إلى المغرب وإلى سلطان المغرب في أواخر سنوات الحماية كصحافة ماص ضدا على القوى الوطنية لتستمر إلى سنة 1974. وتعاطفت الدولة كذلك مع جريدة الشرق الأوسط ورخصت صدورها اليومي بالرغم من عدم قانونية طبعها بالمغرب بواسطة الفاكسيميلي سنة 1984، وذلك ضدا على إرادة الفاعلين المهنيين والسياسيين الوطنيين. كما سترخص الدولة المغربية في 2002 استثناء ودون سند قانوني لإذاعة سوا الأمريكية لتبث برامجها الموجهة من المغرب. - حينما قبلت الحكومة المغربية بمبدأ إقامة مكتب قناة الجزيرة بالرباط وبث نشرتها المغاربية منه، فقد قبلت كذلك أسلوب عمل الجزيرة وتوجهاتها المهنية والتحريرية فوق الأراضي المغربية على أساس تأطيرها. يشتغل فريق الجزيرة بمنطق جدة الأخبار وأهميتها بالنسبة إلى مشاهدي القناة، وهو منطق تنافسي عالمي، وجب على الحكومة المغربية أن تتكيف هي معه وليس العكس، مادامت قد وافقت على استضافة القناة وهي تعلم منحاها الإعلامي. ويقتضي التكيف بهذا المعنى الاستجابة المهنية لطلبات بل لإلحاح وسائل الإعلام للوصول إلى المعلومات، وفي كثير من الأحيان إلى التحقق منها أو تدقيقها، وهو ما نعنيه بالتأطير. إن أسلوب التكتم على المعلومات وغياب البلاغات والبيانات الرسمية المنتظمة وتأخرها واعتماد لغة الخشب في جميع المناسبات وغياب استراتيجية حكومية واضحة المعالم لتدبير العلاقة مع وسائل الإعلام الأجنبية وإدماجها في الحركية الإعلامية التي تشهدها بلادنا، لا يمكنه إلا إذكاء ثقافة الإشاعة وسلطة الأخبار الزائفة وسيادة الابتزاز. - يعتبر بث الجزيرة من الرباط تجربة إعلامية فريدة ونوعية، نشطت المشهد الإعلامي المغربي بفعل حنكة وتميز أطرها المغاربة خاصة. لقد حاول أسلوب وأداء الجزيرة من الرباط تحقيق نوع من التوازن لدى المشاهد المغربي المتتبع للأخبار في القنوات الوطنية، وذلك أمام التدهور الفظيع والمؤسف للأخبار في القناة الثانية إلا في ما ندر، والتماهي في تحويل الأخبار في الأولى إلى نشرات مؤسساتية، وهو ما قد يفسر حرص الجمهور المغربي على متابعة النشرة المغاربية أملا في الحصول على أخبار من نوع آخر تخصه وبلاده. لقد راهنت الدولة على التأهيل المهني للأطر الإعلامية الوطنية بإيلاء اهتمام خاص للموارد البشرية، وكنا نتصور أن طاقم وأداء الجزيرة بالرباط سيكون محكا حقيقيا لها، في إطار تنافس مهني مؤطر، خصوصا وأن مكتب الجزيرة بالرباط يعد فضاء سخيا للتدريب الصحفي، حيث يستقبل بانتظام طلابنا بمعاهد ومؤسسات التكوين الإعلامي، وهو بذلك شريك متميز. - مكتب الجزيرة بالرباط هو أيضا مشروع استثماري جيد بالنظر إلى ما يؤمنه من عائدات للخزينة العمومية وبالنظر إلى تشغيله لأطر وعاملين مغاربة. ألا تثقل كاهل الدولة الميزانية التي تنفقها الحكومة لجلب الاستثمار الخارجي حتى نتخلى عن مشروع قد يخدم أكثر صورة المغرب المكلفة، إذا ما نجحنا في جعل «الجزيرة من الرباط» منبرا إعلاميا مغربيا بامتياز. لكل هذه الحيثيات... نلتمس الإبقاء على مكتب الجزيرة بالرباط.