نصحني أحد أساتذتي الأمريكيين بأن أعارض قرار الجامعة. ففعلت. لكن علاقتي بهذا الأستاذ تفتت لاحقا بسبب خلاف حول مسألة الهولوكوست. تم إنصافي، فاسترجَعت منحتي بسهولة.. فهمت مغزى ذلك مع مرور الزمن. الجامعات الأمريكية تخاف من القانون. ولو كُتب لهذه القضية أن تصل إلى القضاء لكانت النتيجة مكلفة جدا للجامعة، حيث سيدور النقاش حول حرماني من حرية التعبير كما ينص عليه القانون. وهذا لا يعني أن الحرية الأكاديمية غير معتدى عليها في أمريكا، فهناك أمثلة حية عانى منها الكثير من الأساتذة، فقُدوا معها كراسيهم أو وظائفهم بسبب مواقفهم السياسية، ونذكر هنا -على سبيل المثال لا الحصر- أستاذ العلوم السياسية نورمن فنكلشتاين Finkelstein Norman وأستاذ الدراسات الإثنية ورد تشرشل Ward Churchill، كما تعرض إدوارد سعيد للمضايقات والتهديد بالقتل ومحاولة الطرد من جامعة كولومبيا إلى أن جاء الموت إلى نجدته. روضني محققو نيويورك في الأخير كما تروض الخيل السائبة في ولاية مونتانا. انفلتُّ في النهاية من قبضتهم الحديدية ولم أعثر على أثر لصديقتي الأمريكية التي وعدتني باستقبالي. حاولت الاتصال بها هاتفيا ولم أفلح لأن هاتف أمريكا يشتغل على غير الطريقة المعهودة في أوربا أو المغرب. كان الجو مشحونا داخل المطار أو هكذا بدا لي على الأقل. فالناس كانوا يتكلمون بصوت مرتفع وعنيف وبحركات في الهواء وكأن شجارا يحصل. استعنت بأحد المارة الذي شغل الهاتف واتصلت بصديقتي أخيرا. وصلنا إلى منزل والديها، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا أو تزيد قليلا، وكانا في استقبالي مع شقيقها الأصغر. تحسروا لما حصل ورحبوا بي. هيؤوا لي بعض الطعام في هذا الوقت المتأخر من الليل وأصروا علي أن أتناوله. وقبل أن أغادر منزلهم في الأيام اللاحقة، سلموني قارورة عسل جلبوه من ضيعتهم المجاورة. أحسست بدفء الحفاوة وكأني بين أهلي في المغرب. ما أرهف روح الشعب الأمريكي! صعدت إلى الطابق الأول مع صديقتي ووهبتني غرفتها للنوم وانسحبت هي إلى غرفة مجاورة. كنت منهكا وأردت أن أستسلم إلى النوم بأسرع وقت ممكن، لكني وجدت نفسي في ورطة، حيث استعصى علي إطفاء الضوء ولم أرد استشارة صديقتي حتى لا أحرج نفسي. حاولت أن أفهم لغز المفتاح الكهربائي، لكني فشلت، ففكرت في كسر المصباح كما صنعت البدوية في باريس. واستسلمت للنوم في الأخير وقضيت الليلة تحت الضوء. وجاء الصباح، وفتحت عيني على نافذة جميلة مفتوحة تتوسطها شجرة مفتولة تسلقها سنجاب. ابتهجت لهذا المنظر وانتفضت قائما واقتربت من النافذة مبتسما للسنجاب حتى لا يفر مني، وقد حضر إلى ذاكرتي سوء معاملتي للحيوانات في بلدتي. لازلت أتذكر أني سجنت كلبا مع أحد أصدقائي في إحدى البالوعات ببلدتنا، وبعد بضعة أيام رجعنا إليه لنقتله رميا بالحجارة، وكم افتخرنا بهذا العمل الجليل، سامحنا الله! وفجأة دخلت صديقتي الغرفة وطلبتُ منها الحذر حتى لا يفر السنجاب الذي كنت أستمتع بحضوره. فشرحت لي أنه يأتي كل صباح إلى هذه النافذة، نافذتها، بحثا عن الطعام. فأحضرت لي بعضا من الفول السوداني وهبتُه هدية للسنجاب الذي امتطى ذراعي وبدأ يستمتع بأكله. خرجنا ذلك المساء إلى منهاتن، قلب مدينة نيويورك، فأحسست بأن ثقل المدينة ازداد عشرة أضعاف ما كانت عليه ونحن في سمائها. كل شيء حولي جميل. الشوارع مزدحمة، والناس سعداء فرحون، والسيارات الفخمة تكلل الطرق، والنساء الحسناوات الكاشفات لمفاتنهن يضفن جمالا إلى جمال المدينة ولا يتحرش بهن أحد. غادرنا نيويورك في الصباح الباكر تجاه مدينة بروفدنس Providence، عالم إدغر الآن بو Edgar Allen Poe، حيث تدرس صديقتي. بعد الظهر، أخذتني إلى جامعتها ودلتني على كل مرافقها. وقبل نهاية الجولة، أوقفني حدث كما حدث القطار في إسبانيا. قدمتني صديقتي إلى زميلة لها في الصف، وحين سماعها لاسمي العربي قامت الزميلة بحركة يدوية فظة وقالت: أنتم العرب همكم الوحيد هو قتل اليهود! الشبح يرافقني! أقول لكم إن سكينا دفن في قلبي تلك اللحظة وحُفرت هذه الكلمات في روحي عميقا ولا تزال تلازمني أينما حللت وارتحلت. أقلعت الطائرة في اتجاه ولاية أوهايو حيث الجامعة التي سأدرس بها. أثينا، تقع جنوب مدينة كولومبس، وهي مدينة صغيرة جميلة مفعمة بالجمال الطبيعي، تتشابك فيها الأشجار وتحاصرها الجبال والمروج الخضراء، ويشق جوانبها نهر أوهايو الذي يزيد المدينة سحرا، يشعرك بأنك في جنة الله على الأرض. هنا سألمس حقيقة أخرى: عشت المضايقات العنصرية في فرنسا لكني سأواجه مشكلة وجودية على الطرف الآخر من الضفة الغربية للمحيط، حيث سأدخل في صراع مفتوح ولا متناهٍ نتجت عنه أسئلة تتعلق بالهوية والانتماء. واجهتني مشكلتان مع دخولي الجامعة مباشرة.. الأولى هي القضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي أو سمه ما تشاء، والثانية تتعلق بقضية المرأة العربية المسلمة. وجدتني مرة ثانية وجها لوجه أمام حائط سميك، وكان لا بد لي من الدفاع عن نفسي، لكني لم أكن مؤهلا بما يكفي للدفاع عن هاتين القضيتين، فغرقت بين الكتب لأيام هي أكبر من دهر، ولساعات طويلة، أنسحب بعدها كل مساء إلى غرفتي منهكا متعبا كسلحفاة، أتكتم على الآلام الشخصية والجراح الحميمة. وفي يوم من الأيام وأنا أستعمل المصعد لزيارة مقهى المكتبة الجامعية، صعدت معي فتاة جميلة حسناء، لم أتمالك نفسي حين قلت لها: لقد أنار شعاع جمالك المصعد، ومفاتن أنوثتك قد توقع بالإنسان في الأسر، إنك تشبهين باقة من الزهور خرجت علينا من الفردوس. فملأت روحي بابتسامتها التي تشبه ابتسامة الجوكندا وقالت: شكرا على كلماتك الرقيقة النافذة. كنت حينها ما أزال في عنفوان الشباب وكان شعري المجعد يصل إلى كتفي وكنت نامي العضلات قبل أن يسحقني الزمن ويصيب مفاصلي في كل بقع جسدي ويطال رأسي ليحوله إلى ثعلبة. سألتني: ما اسمك، فأجبتها: هانسن Hansen، اسم اخترعته مع مرور الزمن تحت وطأة الضغط، أختبئ وراءه من «شر عروبتي وأتفادى معه أي صراع مفتوح. وسألتها بدوري عن اسمها وقالت: سوزن لوفين، أدركت بسرعة أنها يهودية وفرحت بأني لم أفصح لها عن اسمي الحقيقي. إنه التناقض بعينه، لكنها استراتيجية كان الغرض منها طلب «السلة بلا عنب»، وكنت كلما سئلت من أين لي بهذا الاسم قلت إنه اسم فرنسي. هذا الاسم وظفته لشخصيتي المتناقضة، التي كانت ولا تزال تعيش الاضطراب النفسي والارتباك الشخصي، لألتقط به حبات الكرز كلما سنحت الفرصة ولأتفادى العراك السياسي المفتوح. وما زلت أتذكر صديقتي الأمريكية هارييت التي أخذتني مرة إلى والديها لتناول طعام العشاء في أحد مطاعم العاصمة واشنطن، واستقبلاني بابتسامة عريضة ورحبا بي بحرارة كبيرة. ولم نسترخ بعد في مقاعدنا عندما تنهد الأب، وكان محاميا، وقال: الحمد لله أنك لست رجلا أسود لأن ابنتنا هارييت أخبرتنا بأنك من إفريقيا. فشرحت لهما أن في إفريقيا، ولاسيما الشمال منها، أناسا بشرتهم ناصعة. وتجاوزنا هذه النقطة وتطور النقاش وتوجه إلي بسؤال يطبعه الجهل السياسي كما طبع الجهل الجغرافي تصوره لإفريقيا، والجهل صفة ملازمة لعقلية الإنسان الأمريكي. سألني: ما رأيك في الخميني؟ ولما استفسرته، تبين لي أن الرجل يعتقد أن الخميني إنسان عربي، فحاولت تصحيح معلوماته عندما انفجرت الزوجة قائلة: فليذهب الخميني إلى الجحيم، عربيا كان أو مسلما، لأنه نعتنا ب«الشيطان الأكبر». وأضاف الزوج: ومعه ياسر عرفات وكل الفلسطينيين المحترفين في القتل والإرهاب. هذا هو حال البراغماتية الأمريكية التي تفصح عن وجهها القبيح عندما لا تحب أو لا تستسيغ شيئا دون مقدمات أو مجاملة أو خوف أو خجل. لم أنزعج لهذا الموقف بقدر ما حاولت فهم طبيعته وجذوره، لكني لم ألتق بهما بعد هذه الدعوة الأولى والأخيرة. أما قصتي مع سوزن لوفين فكانت مختلفة ولعبت دورا حاسما في مسار حياتي وفي تحديد المواقف والمصالحة مع النفس، حيث دعتني إلى بيت أهلها بمدينة «واست أورنج» في ولاية نيو دجيرزي لقضاء عطلة فصل الربيع معها. وعند دخولنا البيت الفاخر، انشقت الأرض وخرج من جوفها «نزار» حول البيت إلى قبر وكاد يتسبب لي في سكتة قلبية. ففي زاوية من زوايا غرفة الضيوف، انتصب علم إسرائيل الكبير الذي امتد من قاعدة الغرفة إلى أعلى السقف. وبينما كانت سوزن تتفاخر بالعلم الإسرائيلي بعدما سألتها عن سر وجوده في البيت، كنت أحترق بلهيب كلامها الذي كان يمطر أذني وكأنه سيف تضغط عليه لتوصله إلى آخر مكان في روحي. وتلقيت صفعة لاذعة وسقطت كل دروعي الوقائية واستسلمت لواقعي عندما أخبرتني بأن أباها بنى مستشفى بإسرائيل وأنه على علاقة وثيقة باللوبي الصهيوني الذي دوخ الأمريكان. يتبع...