في هذا البحث يقربنا جان نوييل فيرييه من دينامية مصر الحديثة، التي تتراوح أو تتأرجح بين الديمقراطية والإسلاموية. جان نوييل فيرييه، مدير أبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي. كما أنه من الخبراء السياسيين. عمل بمصر بمركز الدراسات والتوثيق الاقتصادي، القانوني والاجتماعي لوزارة الشؤون الخارجية. كما أنه المؤلف لكتاب «نظام الكياسة بمصر. الجمهور وإعادة أسلمة المجتمع». وقد عين مؤخرا كمسؤول بمركز جاك بيرك بالرباط بالمغرب تؤكد غالبية الأبحاث والدراسات، وما أكثرها، التي تتناول مصر على المستوى السياسي أو الجيو-استراتيجي أو الاقتصادي، على تعايش البلد، إلى حد القدرية، مع مآزقه وأزماته المزمنة التي أنتجتها عدة أنظمة تناسلت السلطة بعضها عن بعض من دون طرح قطيعة أو بديل يرفع «أم الدنيا» إلى مقام مارد اقتصادي في المنطقة، بل على العكس من ذلك ينظر إليها بعض المحللين كرجل الشرق الأوسط المريض، الذي لا يتردد مع ذلك في رفع العصا أكثر مما يوفر الجزرة! وبعد 30 عاما من حكم مبارك، لا زال المجتمع حبيس مآزقه المزمنة. وتعتبر مصر أحد المجتمعات العربية، التي حظيت ولا تزال باهتمامات الباحثين والمحللين، على اختلاف تخصصاتهم ومشاربهم. كما أن المؤسسات المستقلة الموجودة بالبلد أو خارجه، التي تعنى بمقاربة البلد، سحره، مفارقاته وآفاق مستقبله، عديدة وذات صيت علمي راسخ. استراتيجيا، يقف خلف هذه العناية الموقع الاستراتيجي الذي تتبوؤه مصر كبرج مراقبة لبلدان الشرق الأوسط. ولهذا السبب استثمرت مؤسسات مثل مؤسسة فورد أو كارنيجي لإنشاء بنية لمتابعة وتقفي انحصارات وانتقالات المجتمع المصري ومجتمعات المنطقة. أما فرنسا فتحظى بحضور علمي عبر مركز الدراسات والتوثيق التابع لوزارة الخارجية والمركز الوطني للبحث العلمي. هدف هذا البحث ليس سياسيا وحسب. كما أن الكتاب لا يؤكد الحديث حصريا على الإسلاموية. إذ ألفت في الموضوع خزانة بكاملها. مما لا جدال فيه هو أن الحركات الإسلامية تنعم بحضور قوي في الساحة السياسية المصرية. المشكل هو أنه من الصعب طرحها كبديل للنظام القائم. إنها شكل من أشكال النزعة التقليدية المحافظة، وبأن معارضتها للنظام تكتسي بشكل مغلوط أشكالا إصلاحية. من التمتين إلى الانتقال ساعد الاختيار الليبيرالي، الذي انتهجته مصر تحت حكم السادات على تمتين، بل ترسيخ السلطوية في المشهد السياسي وفي المجال العمومي. بدءا من الثمانينات وجدت مصر نفسها تحت رحمة مفارقة عجيبة: من جهة الاعتراف بالتعددية، ومن جهة أخرى رفض أو إجهاض صوت صناديق الاقتراع! اصرخوا ما طاب لكم من الصراخ لكن الصناديق يجب أن تنطق بصوت واحد. تلك هي الرسالة التي مررها النظام إلى كافة الأحزاب، التي عملت بها مكرهة. نحن أمام تعددية بلا منافسة، على اعتبار أن الانتخابات تدبر كي لا يخسرها النظام. وعليه، فإن الليبرالية التي عمل بها النظام لا تعني ولا تفترض مسلسلا انتقاليا، أي الانتقال من الاستبدادية إلى الديمقراطية. إذ توحي بانبثاقها لا غير. تستغل الأنظمة السلطوية هذا الغموض لتظهر بمظهر لائق. وتعتبر تونس في هذا المجال «قدوة» لا تضاهى. فالتوجه الليبرالي يشير جان نوييل فيرييه هو محصلة انتصار الحكام على معارضيهم، وخاصة على معارضي اليسار. إنه نتيجة لاختفاء الديمقراطيين لا لضغطهم. وبما أن أنشطة هؤلاء لا تشكل خطرا على حكوماتهم، يسمح لهم بالتحرك، إلى درجة أن هذه الحكومات تتبنى أحيانا بعضا من أنشطتهم! وعليه، فإن تطور المجتمع المدني هو محصلة وليس سبب هذه الحركة: ترك المعارضون سياسة المعارضة للانخراط في حياة جمعوية. في هذه الحالة فإن الليبرالية النسبية تبدو أقل تكلفة من القمع . بالإضافة إلى هذا الاحتواء، استعمل النظام سلاحا آخر، ألا وهو طرح مشروع إعادة أسلمة المجتمع. ذلك أن أنصار هذا الاختيار يقدمون أنفسهم كقوى مناهضة لدينامية المناضلين اليساريين. هكذا ساندت العديد من الأنظمة العربية، وخاصة نظام السادات، مشروع «إعادة أسلمة» المجتمع. النتيجة هي إفراغ المرجعية الإسلامية من زخمها باستعماله المفرط في المجال السياسي الدعوي. غير أن ثمة مرجعيات متعددة المناهل والأصول تخترق هذا المجال العمومي. وهي مرجعيات تؤسس لتعددية المعايير والقيم، حتى إن كان أغلبها لا يحظى باعتراف قانوني. الهجانة المصرية إن التعددية المحدودة والطابع الهجين (ليبيرالي، ديني، سلطوي، إباحي) للنظام السياسي المصري ليست بخاصيات حديثة العهد. نتعرف على كل هذه الخصائص في التاريخ المعاصر لمصر. شهدت مصر منذ 120 سنة انطلاقة أول جمعية تمثيلية مصرية من طرف نائب الملك إسماعيل عام 1866. وبقي المجتمع محافظا على هذه التمثيلية إلى غاية وصول حسني مبارك إلى السلطة عام 1981. طورت مصر بالتوازي مؤسسات تمثيلية ومؤسسات سلطوية وخطابا ليبيراليا وممارسات غير ليبيرالية. أدمج المجتمع المصري باستمرار في الثنايا اللينة لنظامه المجموعات الاجتماعية الجديدة. كما دار النقاش منذ القرن التاسع عشر في مواضيع سياسية ومبادئ كبرى مثل الدستور والحكومة المنظمة. كما أقيمت الانتخابات منذ مدة طويلة. لكن، بالمقابل، وضعت ولا تزال قيود وعراقيل. إذ غالبا ما كانت الانتخابات محط تزييف منهجي ومقصود.. تبقى الخاصية التي رافقت الممارسة السياسية في مصر هي خاصية الاعتدال. إنها أولى الخاصيات للحياة السياسية المصرية ويجب أخذها بعين الاعتبار. لكن ما هو مصير هذا الاعتدال في سياق الانتقال الرئاسي الذي يحضر له اليوم؟ توجد مصر بالكاد على أهبة تحول نجهل مجرياته ومصيره. في الأنظمة السلطوية، غالبا ما تتم خلافة الرئيس في أجواء من الخوف والترقب، نظرا لطول المدة التي يشغلها الرئيس أو الملك في الحكم. ولطول هذه المدة يصبح المواطنون غير قادرين على التمييز بين استقرار البلد وسن الحاكم. من جهة المحللين الغربيين، تطرح أيضا قضية علاقة الديمقراطية بالتوجه الإسلامي. هنا يطرح السؤال: هل المطلوب أن يرافق هذا الاعتدال انفتاح وشفافية يقودان إلى فوز الإخوان المسلمين؟ لا يضمن هذا الحل أو هذا البديل الحفاظ على الاعتدال السياسي وعلى استقرار البلد. ولنا في وصول منظمة حماس عبرة. «إعادة أسلمة» مصر بالتوازي مع إقامة التعددية السياسية النسبية والانخراط في الانفتاح الاقتصادي، انبثقت حركة عريضة تدعو إلى إعادة أسلمة المجتمع. وفي هذا الشأن جعلت من التعصب الأعمى، من خلال الخطب النارية عبر ظاهرة الأشرطة المسجلة، السلوك المعمول به في البلد. صحيح أن السياسة اختلطت دائما بالدين في مصر، سواء تعلق الأمر بمرشدي الأزهر أو بالإخوان المسلمين أو حتى بقائد سياسي متدين مثل جمال عبد الناصر، فإن السياسة كانت دائما لصيقة بالدين، أو مطية لتقلد مناصب رفيعة في هرم السلطة. لكن المستجد في ظل حكم أنور السادات هو المكانة الكبيرة التي بدأت تحتلها المرجعية الإسلامية في المجال العمومي، وخاصة كسب الهبة والوقار. وقد رغب الجميع في إبداء هذا الوجه الوقور. هذه الرغبة القوية للانصياع إلى كل ما هو تقليدي ومحافظ، ساعدت على خلق ما أسماه الباحث «التضامن بلا إجماع»: كيفما كانت الأهداف التي نعمل من أجل تحقيقها أو الأفكار التي ندافع عنها، فإن ذلك يتم بالنسبة لمرجعية المعايير الإسلامية. إبقاء الوضع على ما هو عليه مع فتح الباب أمام التغير: إنها السياسة التي انتهجها الرئيس حسني مبارك. وظف واستغل عامل الزمن، وهو امتياز «تتحلى» به الأنظمة السلطوية. في الأنظمة الديمقراطية فإن الإصلاحات يجب أن تكون سريعة على اعتبار أن الأغلبيات السياسية غالبا ما يكون عمرها قصيرا. إرجاء الإصلاح لاحقا معناه التخلي عنه أو تركه للذين سيأتون فيما بعد. أما الأنظمة السلطوية فإنها غير مرتبطة بأي أجندة ولا بأي توقيت انتخابي، مما يؤثر على سياسة الإصلاحات، التي قد يستغنى عنها أو يشرع في تطبيقها بوتيرة بطيئة. على مدى نصف قرن من التحول والتطور السياسي، لا تبدو مصر، ذاك البلد الذي شبهه البعض ب«الكوكوت مينوت» القابلة للانفجار نتيجة الاستياء المتراكم، والإحباطات، وخيبة الأمل، بل المجتمع القادر على امتصاص عوامل القطائع. هذا لا يعني إنكار وجود هذه القطائع التي يترجمها مثلا الدخل اليومي للمواطن المصري والذي لا يتعدى 4,20 دولارات في اليوم. تكتيك التوازن السياسي لا يستثمر المواطنون اليوم وقتهم وطاقتهم في السياسة لأنها بضاعة كاسدة لأنهم يسعون إلى إيجاد حلول بديلة لمشاكلهم. حلول تختلف عن تلك التي توفرها لهم الدولة. يتأتى عن هذا الوضع خصاص في المشاركة في الحياة السياسية بشكل عام وفي الانتخابات بشكل أخص. إن انبثاق معارضة صادقة من شأنه توجيهم مجددا نحو السياسة. لكن ماذا تعنيه»معارضة صادقة»؟ إنها المعارضة التي تحظى بثقة المحكومين والحاكمين. نوعيا، يقدم الإخوان المسلمون جميع مواصفات هذه المعارضة. وليس هذا حال العديد من الأحزاب التي تعمل على تنشيط الحياة السياسية المصرية من دون أن تنجح في تقويم بنيانها. إن التعددية التي تدمغ الحياة السياسية المصرية هي من قبيل الشكليات. فالأحزاب السياسية تنبت كالفطر، وهو وضع يستفيد منه بالدرجة الأولى الحزب الحاكم. نحو توازن جديد؟ المستجد الذي يحظى بعناية المراقبين والمحللين اليوم هو الاستحقاق الرئاسي، الذي ستقبل عليه مصر لاحقا. ليس المشكل في المدة التي قضاها حسني مبارك في القصر الرئاسي، بل سنه. إذ سيناهز 83 عاما عند نهاية ولايته، وهو يوجد في وضع صحي غير مريح. من سيخلفه؟ تطرح قضية الخلافة، أي إعادة صياغة التوازن السياسي حول رئيس دولة جديد. والرجل السياسي الوحيد الذي يقدم نفسه كوريث لمبارك هو نجله جمال! خرج إلى السياسة في أحضان الحزب الحاكم، الحزب الوطني الديمقراطي، عند نهاية التسعينيات. منذ انتخابات 2000 نجح في «كاستينغ» الخلافة! يجب عدم تجاهل بعض التحولات التي اعترت كيفية التعامل مع الحزب ومع السلطة بشكل عام. ويقف من وراء هذه التغييرات جمال مبارك، الذي يسعى إلى خلق انصهار حقيقي بين الحزب والحكومة. ذلك أن الشرعية الوحيدة، التي يمكن أن يستند إليها ابن الرئيس ضمن نظامي سلطوي «تمثيلي»، هي انتماؤه إلى حزب يمثل الأغلبية. فهو على قناعة بأن استمرارية النظام لا يضمنها الجهاز الأمني لمراقبة الانتخابات، لكبح الحركات الاجتماعية وتقييد حريات الإعلام، بل جهاز حزبي يقوم بإعادة تدريب الحكام والمسيرين على المنافسة، أي الحصول على موافقة قسم من المواطنين لإنجاز المشاريع. لكن هذه الحركة التي تحبل بالكثير من المخاطرة مثلها مثل التنقلات السياسية، لم تخلف الانطباع بأن هندسة النظام والسلطة قد اعتراهما تغيير حقيقي.
مصر وغموض المشروع الديمقراطي ليست مصر مقبلة في السنوات القادمة على مشروع ديمقراطي، بالمعنى الذي يبدي فيه الحكام الحاليون الرغبة في التخلي عن السلطة وترك الحكم للمعارضة نتيجة انتخابات حرة ونزيهة.يبقى السؤال : هل المشروع الذي يدعو إليه الإصلاحيون قابل للتحقق؟ هل إدخال إصلاح داخلي على نظام مبارك من شأنه المساعدة على الخروج من التوازن السياسي السلطوي الذي تعيشه مصر منذ عقود، وهل يمكن تحقيقه بتنحية الإخوان المسلمين، واليوم بالحركات الممثلة للمجتمع المدني؟ يتوقف نجاح هذه الاستراتيجية على احترام ثلاثة مستلزمات: الأول هو عدم الوقوف وسط الطريق، ليس على مستوى الإصلاحات أو على مستوى تغيير توازن النظام. يجب القيام بإصلاحات مع إنجازها التام، أي اقتلاع، على المدى المتوسط، النظام السلطوي، وبالتالي وضع حد لتزييف الانتخابات. المستلزم الثاني هو إدماج الإخوان المسلمين في الحياة السياسية العادية. هذا يقتضي من الإخوان العمل ضمن إطار الاعتدال. كما يفرض على السلطة التخلي عن كل ما من شأنه الدفع بالتنظيم إلى نهج راديكالي. المستلزم الثالث هو انبثاق معارضة علمانية حقيقية، وهي مسألة ليست بالهينة. إن في غياب توفر أحزاب المعارضة على المصداقية يدفع بالليبراليين نحو الحزب الحاكم. إن حصول الإجماع على توريث جمال مبارك سيكون المرة الأولى، التي يتقلد فيها الحكم رجل خارج العسكر. يطمح ابن الرئيس إلى تغيير العديد من مجريات الحياة السياسية. لكن هل هو قادر على التخلص من الثقافة السلطوية التي ورثها عن والده، وحاشية الحزب الذي نهل منه أبجديات السياسة؟ ذاك سؤال من بين العديد من الأسئلة المصيرية التي ستطرح مستقبلا على البلد. على أي، المؤكد هو أن مصر توجد اليوم عند مفترق خطير للطرق.