تودع أمريكا، قريبا، واحدا من أسوأ العقود على الساحة الدولية، منذ أن تحولت إلى قوة عظمى باهتمامات عالمية، بل هناك من الأمريكيين أنفسِهم من بدأ يشير إلى العقد الماضي وإلى عام 2003 تحديدا كعام بداية التراجع الكبير للإمبراطورية. على الجبهة الداخلية، كما جاء في رسالة الأسبوع الماضي، تخيّم حالة من الإحباط على جميع المستويات تقريبا، من ميزانية الحكومة الفدرالية إلى ميزانية البلديات، ومن الفوارق الطبقية المخيفة إلى هجرة الصناعات إلى الخارج، ومن انقسام سياسي عميق إلى إفلاس النخبة السياسية ذاتها. خوف أمريكا من التراجع عن «نحن رقم واحد في العالم» ليس جديدا، بل جرّبه الأمريكيون لفترة وجيزة في الستينيات، حينما اعتقدوا -خطأً- أن السوفيات ينفقون أكثر على ترسانتهم، وفي الثمانينيات، حينما اعتقدوا -خطأً أيضا- أن اليابانيين سيكتسحونهم... لكن الشعور مختلف هذه المرة، أو كما قال أحد المشرّعين الجمهوريين السابقين في برنامج إذاعي قبل يومين فقط: «إننا جميعا نركب طائرة متوجهة نحو الجبل». كان المشرّع يتحدث عن الأوضاع المالية للبلد، لكن تلك الأوضاع المالية الداخلية تؤثر تلقائيا على المسؤوليات الخارجية، كما كان شأن الإمبراطوريات منذ الفراعنة وحتى الاتحاد السوفياتي. نظرة على الأحداث التي طبعت علاقات أمريكا بالعالم الخارجي خلال الإثني عشر شهرا الماضية وسلوكها على المسرح الدولي يحملان على الاعتقاد بأنها مصممة على ارتكاب الأخطاء نفسِها، داخليا وخارجيا، مما قد يُعجّل بقدوم يوم انكماشها، على الرغم من مشاعر الارتياح التي خلّفها، قبل عامين في جميع أنحاء العالم، وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
أفغانستان.. مقبرة الإمبراطوريات في اليوم الذي كشف فيه البيت الأبيض النقابَ، بعد طول انتظار، عن «إستراتيجياته في أفغانستان»، استضاف أحد البرامج الحوارية في محطة «سي إن إن» مجموعة من كبار المتخصصين والمسؤولين السابقين في مجال الأمن القومي وفاجأهم المضيف بسؤال بسيط ومباشر: «ماذا نفعل في أفغانستان؟» ولم يتلق جوابا مقْنعاً... أكدت تصريحات المسؤولين الأمريكيين و»ملاحظاتهم» في وثائق «ويكليكس»، بالملموس، أن واشنطن الرسمية لا تستطيع إعطاء جواب شافٍ عن ذلك السؤال البسيط والمباشر، رغم أن الحرب على الأفغان أصبحت الآن رسميا أطولَ من مشاركة أمريكا في الحربين العالميتين، مجتمعتين. المفارقة المثيرة هي أن معظم الأفغان لا يعرفون لماذا أتى الأمريكيون وحلفاؤهم لإنفاق أكثر من 100 مليار دولار سنويا على المتفجرات والقنابل والصواريخ، لتدمير بلد مدمَّر أصلا ويمكن لنسبة قليلة من تلك الأموال أن تشتري قلوب وعقول الأفغان، إن أنفقت على المدارس والمستشفيات. حينما عرض مستطلعو الرأي موجزا لأحداث ال11من شتنبر ومضاعفاته على 1000 من الشبان في إقليمي «هلمند» و»قندهار»، أكدت نسبة 8 في المائة منهم فقط معرفتها بالأحداث التي كانت المبرّرَ الأصلي لغزو بلدهم. صعَّد باراك أوباما الوضع في أفغانستان وضاعف عدد الجنود ثلاث مرات، ليتعدى ال100 ألف، ليتحول عام 2010 إلى أكثر السنوات دموية للأفغان والأمريكيين، على السواء، دون إستراتجية خروج واضحة ولا أهداف محدَّدة. المفارقة الأخرى هي أن أوباما يخوض حربه المفضَّلةَ دون دعم من قواعد حزبه وفي غياب علاقة ودية مع المؤسسة العسكرية وكبار جنرالات «البنتاغون» ولا يعرف كيفية الخروج، دون إغضاب الجنرالات ودون الظهور بمظهر الضعيف أمام الجمهوريين. كما أن أوباما ينفق أكثر من مليار دولار سنويا في أفغانستان، في وقت تسرِّح فيه الكثير من المجالس البلدية المحلية في أمريكا المعلمين ورجالَ الإطفاء والشرطة، لأنها لا تستطيع دفع أجورهم.. بل إن ولاية هاواي، مَسقطَ رأسه، قررت الاستغناء عن التلاميذ، بتخفيض أيام الدراسة إلى أربعة أيام فقط، بسبب الضائقة المالية... وإن لم تكن كل تلك المفارقات كافية، فإن الحرب الطاحنة تدار رحاها في تضاريس أفغانستان الوعرة، في شبه غياب من الإعلام الأمريكي أو اهتمام الرأي العام الداخلي، باستثناء البيت الأبيض والجنرالات وأُسَر الجنود. في إحصائية أجرتها «نيويورك تايمز» للتغطية الإعلامية للعام الذي نودعه، وجدت الصحيفة أن كبريات وسائل الإعلام لم تخصص أكثر من 4 في المائة من وقتها لحرب أفغانستان ومعظم التغطية -على قلتها- كان متشككا ومنتقدا للحرب، بعد «الدروس» التي تعلمها الإعلام الأمريكي من أخطائه الفادحة أيام الحرب على العراق. تعد إمكانية «الإبداع» أفضل مما وقع أمراً شبهَ مستحيل، لأن البيت الأبيض قرر بدء الانسحاب مع مطلع صيف العام القادم ولن يستطيع التراجع عن ذلك التعهد، لأسباب إستراتيجية واقتصادية وسياسية انتخابية. ومهما كان الانسحاب بطيئا وقليل العدد، فمن المستحيل تصور نجاح واشنطن و»حلف الأطلسي» في تحقيق أهداف لم يستطيعا تحقيقها بجنود وعتاد أكبر. وإنْ لم تكن كل تلك العوامل دليلا على عبثية حرب تُزهَق فيها الأرواح والأموال، فقد أكدت وثائق «ويكليكس» أن واشنطن لا تملك إستراتيجية واضحة فحسب، بل لا تملك «عميلا» في المستوى، في شخص حامد كرزاي، الذي نصّبته على عرش بلدية كابول وحارت الآن في كيفية التعامل معه، بعد أن فقدت الثقة فيه وفقدت «السيطرة»عليه...
إيران.. حرب إسرائيلية أخرى بجنود وأموال أمريكية؟ يحدث أصدقاء إسرائيل من اليمين ضجيجا مدويا، منذ مدة ليست بالقصيرة، بشأن الخطر الإيراني ولا يجدون غضاضة في التهويل من ذلك الخطر أحيانا إلى درجة كاريكاتورية ولا يعدمون، طبعا، المطبِّلين لهم ولتحذيراتهم في وسائل الإعلام. واستنادا إلى أكثر من مصدر، فإن اللقاءات الأمريكية الرسمية مع الإسرائيليين خصصت نسبا كبيرة من وقتها على إيران وخطرها، أكثر مما خُصِّص للسلام، بما في ذلك لقاءات جورج ميتشل، التي حددت مهمتَه في جهود السلام فقط. وبعد انتقال تلك الجهود إلى الموت السريري والانطباع الزائد بضعف الرئيس أوباما بعد انتخابات نونبر الماضية واستلام محاربي «حركة الشاي» قيادة مجلس النواب مع مطلع العام الجديد، من المتوقَّع على نطاق واسع أن تأخذ تلك الجهود نبرة أكثر ارتفاعا. لو استثنينا عنصر النفط، فإن ضلوع أمريكا العميق في الشرق الأوسط خلال الأربعين عاما الماضية، كما جاء في كتاب السيد زغبي، يعزى برمته تقريبا إلى نجاح إسرائيل في جر واشنطن إلى محاربة أعدائها في المنطقة. ويبدو أن محاربي أعداء إسرائيل، حتى آخر جندي أمريكي في الشرق الأوسط، مصممون على جر الأمريكيين إلى حرب أخرى ضد إيران، حتى في وقت تشعر فيه أغلبية الأمريكيين بالسأم والإرهاق من الحروب والمواجهات، فضلا على التكاليف. طلع العدد ما قبل الأخير لمجلة «نيوزويك» بموضوع إيران على غلافها متسائلا: «إيران.. الهدف.. اغتيالات. هجمات على الشبكة العنكبوتية.. أعمال تخريب.. هل بدأت الحرب على طهران بالفعل؟». يتحدث «التحقيق» عن عملية اغتيال العالِم النووي الإيراني مجيد شهرياري في أواخر الشهر الماضي وسط طهران، وفي ساعة الذروة الصباحية، حينما انفجرت قنبلة أُلصِقت بسيارته مغناطيسيا وكانت على متنها زوجته وحارسه الشخصي. انفجرت القنبلة وقتلت العالِم الإيرانيَّ واكتفت بإصابة الراكبيْن الآخرين بجراح وخلُص كاتب التحقيق إلى أن «الهدف كان نظيفا». بعد دقائق من ذلك، اقتربت دراجة نارية من سيارة عالِم نووي آخر هو فريدون عباسي دافاني، الذي نجح في القفز من السيارة لإنقاذ زوجته، بعد أن أحس بما سيقع، لكنه لم ينجح في إنقاذ حياته. أعطت المجلة انطباعا بأن الموساد الإسرائيلي يقف وراء العملتين، وإن كان تحميل الرئيس الإيراني أعداء بلاده في إسرائيل والغرب مسؤوليةَ العملتين وعمليات التخريب التي طالت بعض المنشآت النووية. أُوِّلت تصريحات الرئيس الإيراني في وقتها على أنها تفسير مؤامراتي، لكن سلوك أصدقاء إسرائيل هنا يعطي مصداقية أقوى لنظرية مؤامراتية أخرى بشأن توقيت الكشف عن وثائق «ويكليكس». يذهب أصحاب هذه النظرية إلى أن أكبر دليل على أن إسرائيل أو احد المتعاطفين معها كان وراء التسريبات، لأن الدولة اليهودية هي الوحيدة التي لم يُلطّخها «وحل» البرقيات السرية، لكن ما يعزز فكرة المؤامرة هو ما قيل في محتوى تلك الوثائق بشأن اتفاق العرب وإسرائيل بخصوص الموقف تجاه الخطر الإيراني. قبل بضعة أيام فقط، اجتمع ثلة من كبار رموز حكومة جورج بوش السابقة في فندق «ويلارد» الفاخر على بُعد خطوات من البيت الأبيض، في ندوة تحدث فيها كل من وزير الأمن الداخلي ومستشارة البيت الأبيض لمكافحة الإرهاب ووزير العدل في الحكومة السابقة وجون بولتون، المحافظ الجديد القديم وسفير جورج بوش في الأممالمتحدة. اجتمع المشاركون في الندوة على موضوع واحد هو مناشدة، وأحيانا، مطالبة حكومة باراك أوباما برفع منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية من قائمة المنظمات الإرهابية. وأنا استمع إلى مداخلات المشاركين، المشحونة بالعواطف، أثارني أولا تشابه اللغة المستخدَمة مع تلك التي استُخدمت في تبرير الحرب على العراق، من تغيير للنظام إلى أسلحة الدمار الشامل إلى الدفاع عن «حريتنا وقيمنا».. موضوع الاستغراب الثاني هو التوقيت: لماذا الآن وبعد التسريبات الدبلوماسية وبعد الانتخابات ومضاعفاتها على ميزان القوى في واشنطن؟ الأمر الذي عزز التساؤل كذلك هو: لماذا لم تقم هذه المجموعة -التي كانت تمسك بزمام ملف الإرهاب من البيت الأبيض إلى الأمن الداخلي إلى العدل إلى الأممالمتحدة- بتلك الخطوة حينما كانت حكومتها «تملك» العراق بعد الغزو، ما دامت منظمة «مجاهدي خلق» موجودة على القائمة منذ التسعينيات؟!
العراق.. جنود بدون نفوذ تبين أن واشنطن لا تملك نفوذا كبيرا في العراق، رغم تدميرها بلاد الرافدين وإنفاقِها أكثر من تريليون دولار وقتلها أكثر من مليون عراقي وخسارتها أكثر من 5 آلاف جندي. مما جاء في الندوة نفسها أن واشنطن «ناشدت» الحكومة العراقية الرفق ب«مجاهدي خلق»، لكن بغداد قررت الهجوم على المَعاقل التي اتخذتها المنظمة مكانا للإقامة منذ أيام الرئيس العراقي صدام حسين. وحسب فرانسيس تاوساند، مستشارة الرئيس بوش لمكافحة الإرهاب، فإن الحكومة العراقية لم تقم بالهجوم في الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الأمريكي يزور العراق فحسب، بل ردت على المناشدة الأمريكية بأن الأمر شان عراقي داخلي. أكدت معضلة تشكيل الحكومة العراقية التي وُلدت بعض مخاض دام تسعة أشهر كاملة على إجراء الانتخابات -أي نفس المدة التي يستغرقها الجنين الآدمي- أن إيران هي اللاعب الرئيسي، إن لم يكن الوحيدَ في صنع «سادة» بغداد. سقط نوري المالكي قبل حامد كرزاي من قائمة الساسة المفضَّلين لدى واشنطن في الإقليمين التابعين مباشرة للإمبراطورية، لكن حكومة الإمبراطورية كانت تملك في بغداد، على عكس كابل، بديلا في شخص إياد علاوي. أكد موقع «ويكليكس»، مرة أخرى، أن نظرة واشنطن إلى المالكي لم تكن وردية وصوَّرته على أنه طائفي متطرف تتأرجح طائفيته بين طرد غير الشيعة من المناصب الحساسة واستهداف خصومه الطائفيين جسديا. لكن الطائفية، كالتضخم، يمكن قبولها إن بقيت في نسب معقولة، غير أن جريرة المالكي الكبيرة، في نظر واشنطن، هي قربه من إيران، عكس علاوي، الذي ينظر إليه والى كتلته العراقية كسياسي منفتح على مختلف الطوائف، لكن الأهم هو موقفه المناوئ لإيران... نجاح المالكي بعد تسعة أشهر من المفاوضات في البقاء على رأس الحكومة، رغم حصول قائمة علاوي على مقاعد أكثر مما حصلت عليه قائمة المالكي ورغم وجود عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين فوق التراب العراقي، دليل على أن الكلمة الأخيرة في الشؤون العراقية تعود، من الآن فصاعدا، إلى المرشد الروحي للثورة المجاورة. لا تترك الحرب على العراق، التي تراجعت نهائيا في رادارات الرأي العام الأمريكي ويتم التعامل معها وكأنها انتهت بالفعل، خيارات إستراتجية بديلة أمام واشنطن، سوى «تضميد جراحها» والانسحاب في الآجال المحدَّدة وترك العراق لإيران، كأول دولة شيعية في تاريخ العالم العربي... لا تمنع ملامح التراجع الأمريكي في المنطقة، المرشحة للتزايد في العام الجديد، المؤسسة المركزية في واشنطن، ولأسباب متعددة في مقدمتها إسرائيل والرغبة في معاداة خصومها، من الاستئساد على باقي العرب، بل إن بعضهم يشجعها على ذلك، بطريقة شبه مرضية. في العام القادم، من المتوقَّع أن تحقق واشنطن «نجاحا» في تحقيق رغبة قديمة في تقسيم السودان إلى «سودانيين» اثنين وربما أكثر، لأن الدولة الوليدة تنفق 50 في المائة من مداخليها استعدادا للحرب الحتمية مع الشمال أو مع بعض دول الجوار أو حتى داخلها. كان تقسيم السودان هدفا أمريكا منذ مدة ليست بالقصيرة وساعدت حكومات الخرطوم المتعاقبة في تحقيقه وحولته من جماعات ضغط أمريكية إلى قضية شبه داخلية، بعد أن «سوقته» -خطأ- كصراع بين العرب المسلمين في الشمال والأفارقة المسيحيين في الجنوب. في لبنان، قد «تنجح» واشنطن أيضا في مساعيها إلى «إيقاظ» الفتنة، التي لم تنم أصلا، بإصرارها وتمويلها المحكمةَ الدولية التي تم تسييسُها إلى درجة فقدت معها مصداقيتَها القانونية والأخلاقية، حتى قبل أن تنعقد. لكن انعقادها سيفجر حتما الورم الطائفي الخبيث. قد تدفع الضائقة المالية الداخلية واشنطنَ عإلى التفكير في الانسحاب الجزئي من العالم، خاصة من مناطق التواجد الموروثة عن الحرب الباردة، والتي لم يعد لها من مبرر الآن سوى الرغبة في التعلق بدور «شرطي العالم». بدأ «تراجع» دور أمريكا في الشرق الوسط بالفعل، ومن المنتظَر أن يستمر في العام الجديد، لكن نفوذها قد يطول في المنطقة العربية، أكثرَ من أي مكان آخر من العالم، ليس بسب إسرائيل وحدها، ولكن أيضا لأن أمريكا واجهت أقوى مقاومة لمشروعها في الشرق الأوسط، لكنها وجدت أيضا أجنحة وطوائف ومسؤولين يسهُل «الهوان» عليهم!...
سلام الشرق الأوسط.. من الأمل إلى السراب في مقر الخارجية الأمريكية، ووسط حشد إعلامي كبير، أعلن جورج ميتشل، المبعوث الأمريكي للسلام، عن نية حكومته التوصل إلى حل نهائي خلال عام واحد. أذكر أنني سألتُ المبعوث الأمريكي، ساعتها، إذا كان يشعر بأي قلق من رفع سقف التوقعات، في ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة وشك العرب العميق في جديتها، بوضعه جدولا زمنيا محددا لا يبدو عمليا؟ اقتصر رد السيناتور السابق، جورج ميتشل، على ترديد الكلمات التي ألقاها في خطبته الافتتاحية عن اقتناعه الشخصي بإمكانية تحقيق السلام، مقارنا بالشعور نفسه الذي خالجه في مفاوضات إيرلندا ودوره الناجح فيها. كان التشاؤم في سؤالي وأسئلة الزملاء نابعا، ببساطة، من رؤية ما كان باديا للعيان، بعد تراجع البيت الأبيض عن موقفه «الرجولي» وتحذيره من استمرار الاستيطان، قبل التراجع المهين في وجه التحدي الإسرائيلي. سنعرف جميعا في ما بعدُ -شكرا «ويكليكس»- أن المؤتمر الصحافي الحافل الذي نظمته الخارجية الأمريكية للإعلان الكبير كان مسرحيةً سيئةَ الإخراج، لأن حبل الكذب قصير. في الأسبوع الماضي، ترجمت لنا صحيفة «لوموند» الفرنسية إحدى قصاصات واشنطن السرية يفيد محتواها أن الولاياتالمتحدة لم تكن لديها أوهام منذ العام 2009 بشأن عملية السلام. وجاء في برقية مؤرخة قبل عام تقريبا من المؤتمر الصحافي المتفائل أن «الهوة شاسعة بين أقصى ما يمكن أن يقترحه رئيس وزراء إسرائيلي والحد الأدنى الذي يمكن أن يوافق عليه رئيس فلسطيني».. في حين أعربت برقية أخرى عن الشك في «المدى الذي يمكن أن يذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو»... أما أن الإدارة المركزية فلم تكن تقرأ برقيات موظفيها في المنطقة أو أنها كانت تكذب على العالم، خاصة على سكان الإقليم، في محاولة على ما يبدو لإنقاذ ماء الوجه وإعطاء الانطباع بأنها تفعل شيئا ما أو تبذل مجهودا لإدارة الأزمة، خوفا من الانفجار. كان عجز واشنطن في «إرشاء» الحكومة الإسرائيلية بعشرين (20) مليار دولار، مقابل تجميد مؤقت للاستيطان، قمةَ الإهانة التي تلقاها البيت الأبيض، لأن حكام إسرائيل أذكى من نظرائهم العرب وأدركوا، قبلهم، أن شمس الإمبراطورية بدأت تغيب عن المنطقة... أثار انتقال الحكومة الأمريكية من «المطالبة» بوقف الاستيطان، بما في ذلك ما يسمى النمو الطبيعي، إلى موقف الاستجداء والرشوة، (أثار) حتى غضب بعض أصدقاء إسرائيل من «المعتدلين». كتب السفير الأمريكي دانييل كورتزر، الذي عمل سفيرا في كل من تل أبيب والقاهرة، في الشهر الماضي في «واشنطن بوست» مقالا بعنوان «إذا كافأت الولاياتالمتحدة إسرائيل على سلوكها المشين فسنندم جميعا»...
تراجع رقعة الإمبراطورية في آسيا كلفت الحربُ واشنطن، أيضا، ثقة حليفها الباكستاني، الذي تتهمه بالولاء المزدوج، كما أكدت أحاديث الدبلوماسيين الأمريكيين السرية أن أمريكا تخاف من باكستان أكثر من خوفها على الملاذات الآمنة لطالبان، بسبب هشاشة الحكومة في إسلام أباد وامتلاكها أسلحة نووية. وفي تطور أزعج واشنطن وشكل إشارة إلى بداية تقلص دور واشنطن في القارة الأسيوية وفي شبه الجزيرة الهندية، زار مسؤول صيني كبير إسلام أباد، مؤخرا، وأشاد ب«جهودها في مكافحة الإرهاب». تنظر واشنطن، التي «رحبت» بالصين رسميا كقوة اقتصادية منافسة، بعين غير راضية إلى النفوذ الصيني المتزايد، والذي بدأ يرسم مجالا حيويا في محيطها، تماما كما بدأ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو بأمريكا اللاتينية في مطلع القرن التاسع عشر، بعد أن طرد إسبانيا. تريد الصين، التي وصفت مجلة «إيكونوميست» في غلافها مطلع هذا الشهر صعودَها بالخطير، «تقليم أظافر» الهند وواشنطن بضربة واحدة. وبعد قراءة الساسة الباكستانيين وثائق «ويكليكس»، لم يعد لهم من خيار سوى النظر في الاتجاه الآخر. تلقف الروس «الرسالة» بسرعة مثيرة وسارعوا إلى توقيع اتفاقات بملايير الدولارات مع نيودلهي في مجال الطاقة النووية، في «رسالة» لا تقل أهمية، عنوانها واشنطن وبكين في تطورات كان من المستحيل تصورها قبل بضع سنوات فقط. استعرضت الصين «عضلاتها»، أيضا، في الأزمة الكورية، بإثبات قدرتها -لوحدها- على إقناع حكام كوريا الشمالية بعدم إشعال شبه الجزيرة مرة أخرى وبعد أن وجدت واشنطن نفسها بدون عصا أو جزرة للتعامل مع بيونغ يانغ.
أمريكا.. «لبؤة» على العرب «نعجة» أمام إسرائيل في الشرق الأوسط -وإن كانت هذه التسميات صارت متجاوَزة- لم تتغير السياسة الأمريكية، رغم خطب القاهرة وأنقرة وجاكارطا ورغم الآمال العريضة التي استقبل بها سكان المنطقة ساكن البيت الأبيض الجديد، لكن الأوضاع الداخلية في أمريكا والحراك الداخلي في المنطقة قد يفرض ذلك التغيير، ربما بوتيرة أسرعَ مما يتوقعه صانعو القرار هنا. تختلف أدوات القياس الزمني لبداية الإمبراطورية الأمريكية كقوة عظمى، فهناك من يعتقد أنها ولدت في الشرق الأوسط، بعد نهاية الحرب الثانية ومعارضة دوايت إيزنهاور لاعتداء السويس، منهيا بذلك «الحق» الذي أعطته كل من بريطانيا وفرنسا لإمبراطوريتهما، في حين هناك من يعتقد أن بداية النهاية ربما كانت مع غزو العراق عام 2003 في المنطقة نفسها، وإن كانت أسباب الميلاد -كما هي أسباب الاندحار- متعددة ومختلفة ومعقدة. يقول الناشط العربي الأمريكي جيمس زغبي، في كتابه الصادر حديثا «أصوات عربية»: «إن الشرق الأوسط يتمتع بأهمية على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلى المصالح الذاتية الأمريكية وإلى الاستقرار والأمن العالميين. ومنذ انتهاء حرب فيتنام في أوائل السبعينيات، لم تتدخل أو تستثمر في أي منطقة أخرى من العالم كما فعلت في الشرق الأوسط. وخلال الأربعين عاما الماضية، أنفق الأمريكيون أموالا وباعوا أسلحة وخصصوا رأسمال سياسيا ونشروا جنودا وخاضوا حروبا وقُتِل لهم جنود في الشرق الأوسط، كما لم يفعلوا في أي منطقة أخرى في العالم».