مضى على قيادة أمريكا للعالم قرابة 20 سنة، منذ تشقق حائط برلين في مطلع التسعينات وتبعه انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الشرقي وواشنطن تقود العالم.. تهيمن على الأممالمتحدة ومجلس الأمن.. تسيطر على أكبر قوة عسكرية في العالم.. تراقب الأرض من فوق السماء بأقمارها الاصطناعية.. تضع رجلها في كل المحيطات والبحار والخلجان عبر قواعدها العسكرية العائمة. في 18 سنة الماضية، دخلت أمريكا في حروب عدة في العراق ثلاث مرات (1991 و1996 و2003)، وفي أفغانستان سنة 2002، وفي الصومال سنة 1993، وفي يوغوسلافيا سنة 2001... الإمبراطورية الأمريكية تبسط نفوذها على العالم سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا... وهذا النفوذ أصبح له ثمن باهظ، خاصة بعد تورط أمريكا في حرب عالمية على الإرهاب. حرب ليس لها جغرافيا ولا حدود، ولا عدو مرئي، ولا خطط معدة سلفا. أسامة بن لادن جر أكبر قوة عسكرية في تاريخ البشرية إلى حرب لم تستعد لها من قبل، وبجنود يسعون إلى الموت مثلما يسعى أعداؤهم إلى الحياة (في أمريكا وحدها 400 مطار كلفت الإجراءات الأمنية الصارمة فيها مليارات الدولارات سنويا)... ارتفعت فاتورة الإمبراطورية، فماذا كانت النتيجة؟ أعلى مبنى في العالم لا يوجد اليوم في أمريكا بل في تايبي، وقريبا سيصبح في دبي. أكبر شركة مطروحة أسهمها للتداول في سوق الأسهم موجودة في بيكين، ومصفاة البترول الأكبر قيد البناء في الهند، وطائرة الركاب الأكبر تصنع في أوربا، والصندوق الاستثماري الأكبر في العالم يوجد في أبوظبي، وأكبر عدد من الأفلام يخرج من «بوليود» وليس من هوليود، اثنان من العشرة الأكثر ثراء في العالم يوجد بينهم أمريكيان فقط. الهواية المفضلة لدى الأمريكيين، وهي التسوق، لم يعد مكانها الأول «مول أوف أمريكا» في مينوسوتا، بل أصبحت مراكز أخرى في آسيا وأوربا هي الأكبر. عام 2004 تخرج 950 ألف مهندس من الصين والهند مقابل تخرج 70 ألفا فقط من الولاياتالمتحدةالأمريكية... الأخبار والوكالات لم تعد مقتصرة على «CNN» ونيويورك تايمز والأسوشييد بريس، بل هناك أيضا الجزيرة و«إن دي تي في» في الهند، و«تيليسور» في أمريكا اللاتينية، وأكثر من هذا صار «يوتوب» أكبر تلفزيون ديمقراطي وتعددي في العالم لأنه مفتوح أمام صاحب أي رسالة، علاوة على ملايين «البلوغات» ومواقع الدردشة والتفاعل الحي بين الأفراد والمجموعات، لم تعد المعلومة حكرا على جهة كما في السابق... في الاقتصاد والعلوم والإعلام والثقافة والفن والرموز... العالم خرج من الواحدية إلى التعدد، ولم تعد أمريكا هي «النموذج المثال»، بل صارت تستقطب من الأعداء أكثر مما تجلب من الأصدقاء يوميا لأسباب عدة، في مقدمتها سعيها إلى الحرب والهيمنة وقلة معرفتها بالعالم من حولها... نعم أمريكا مازالت القوة العسكرية الأولى بلا منازع، وميزانيتها في الدفاع هي الأكبر في العالم، وجامعاتها الأفضل على الكرة الأرضية، وأرضها هي الأكثر استقطابا للمهاجرين، ف40 % من مجمل الحاصلين على شهادة الدكتوراه سنة 2006 مهاجرون يدرسون في أمريكا... لم تعد أمريكا متقدمة بأشواط كبيرة على بقية العالم، والأكثر من هذا لم تتعود هذه البلاد على خطب ود أحد، ولا على حث الناس على السير معها. كانت الطرق كلها عبر العالم تنتهي عند أبواب أمريكا، أما اليوم فقد اختلف الوضع.. هناك قوى صاعدة في أوربا وآسيا، هناك بلدان متذمرة من قيادة أمريكا في العالم العربي والإسلامي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية... النزول، مثل الصعود، يحتاج إلى وقت.. إلى تراكم.. إلى طموحات قوى صاعدة، لكن العداد انطلق، ليس «لانهيار أمريكا» كما يظن بعض أصحاب التفكير «الطوباوي» المؤدلج، بل لتصير أمريكا قوة عظمى من بين قوى كبرى أخرى، وليس إمبراطورية تفرض منطقها على العالم... هذه هي الحكاية.