المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    المغرب يستعد لإطلاق 5G لتنظيم كان 2025 ومونديال 2030    ينحدر من إقليم الدريوش.. إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس النافذ    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا        ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤسسة الثقافية في المغرب.. أي أفق؟
المؤسسات الثقافية تحتاج إلى إصلاح ذاتها قبل إصلاح الشأن الثقافي
نشر في المساء يوم 27 - 12 - 2010

أضحى وجود المؤسسات الثقافية في أي مجتمع، مع حفاظها على حريتها واستقلاليتها تجاه مؤسسات الدولة، اليوم، مطلبا حيويا في الحياة العامة، ليس فقط في البلدان التي ديدنها التهجية
والحبو في درب التحديث، بل حتى في البلدان التي رسخت تقاليد ثقافية مؤسساتية، إذ هي خير من يعبر عن روح الحياة العامة، فما وراء السلوك السياسي والأخلاقي، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، أشكال تدبير الشأن الديني والروحي وأشكال تفويض الصلاحيات الإدارية.. هناك، دوما، ثقافة ما، فنسبة المؤسسات الثقافية لباقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى، كنسبة العقل للجسد، فهي كمالها وصورتها، وكل أشكال الحياة الاجتماعية هي فقط أعراض منسوبة إلى شيء جوهره الثقافة، لذلك يعد مغالِطا ذلك الذي يحلل السلوكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون أن تشكل الثقافة بالنسبة إليه منطلقا ومنتهى.. ومخطئ أكثر من يحلل سلوكات المنتسبين إلى مؤسسة القضاء أو التشريع أو الإدارة دون أن يُحمِّل المؤسسات الثقافية مسؤولية شيوع هذه السلوكات على شيوعها... وعندنا في المغرب، هذه المعادلة أولى...
لا نريد الحديث عن الحد القديم الذي يحد الإنسان، بكونه كائنا ثقافيا، فهذا مقام يوجب نظرا آخر، تتقاطع عنده الفلسفة بالعلوم الإنسانية، والأدب بالأركيولوجيا، بل الحديث عن مفهوم الثقافة باعتباره مدخلا لتحصيل تحليل مطابق لمختلف السلوكات التي تسترعي انتباه المهتم بالشأن العام لبلده، ومنه ننتقل إلى الحديث عن دور المؤسسات الثقافية في إصلاح البنية المجتمعية في تكاملها الوظيفي وتخصيصه عن حالة المؤسسات الثقافية في المغرب، مع انحياز منهجي نصرح به، وهو اعتماد مقول النسق الثقافي في مقاربة هذا الموضوع، وذلك لأسباب سنأتي على ذكرها في حينها. وننطلق من التساؤلات التالية: هل احتفظت المؤسسة الثقافية في المغرب باستقلالها تجاه سلطة المؤسسة السياسية؟ ومنه، هل تملك هذه المؤسسات، اليوم، بدائلَ حقيقيةً لكل السلبيات التي تعتمل في حياتنا العامة؟ هل تستطيع المؤسسات الثقافية، التي تعتمد على المال العامّ، الحفاظَ على استقلاليتها؟ بماذا نفسر اليوم ذوبان بعض المؤسسات الثقافية في أتون الصراع الإيديولوجي ضد قيم ثقافية أصيلة فينا؟ أم إن طبيعتها، بما هي مؤسسة، تفترض هكذا انحياز؟
الثقافة نسق يشمل مختلف العقائد والمعارف والقيم والفنون والفولكلور الشعبي والعادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان ويمارسها بصفته كائنا اجتماعيا بطبعه، وهي تُعاش من خلال السمات الروحية والمادية والفكرية الخاصة التي تميز مجتمعا بعينه، ولا تبقى تأثيراتها في حدود هذه المظاهر، بل تتعداها لتصبح لها سمات في كل مفاصل الحياة العامة، وبعبارة أخرى، تصبح نسقا.
إن اعتماد مفهوم النسق الثقافي في تحليل الحالة التاريخية للمغرب اليوم، له ما يبرره، منهجيا، فهو يجعل الفاحص يضع مسافة مع تحليلات عامة الناس، الغارقين في انفعالاتهم، فكم من تحليلات يقترفها بعض «الخبراء» في منابرنا الإعلامية، بل وحتى الجامعية لا تختلف في شيء عن تحليلات العامة.. فهي تحليلات تعتبر وجها لمشكلتنا وليست أبدا حلا، كأن نسمع أحدهم يُحمّل البصري مسؤولية حالة التشرذم الحزبي، وآخرون يُحمّلون عبد الرحمان اليوسفي مسؤولية فشل التناوب، تماما كما يحملون عبد الحميد عقار مسؤولية اتحاد كتاب المغرب.. إننا، بهذا، نقع ضحية ل«مكر» التاريخ، بالمعنى الهيغلي للمفهوم، فالنسق الثقافي يفترض، في مختلف الأزمنة التي تحيل إليها هذه الشخصيات الثلاث، هكذا انتكاسات، وهذه الشخصيات، على جزئيتها في مشهدنا الوطني العام، تبقى، وفق هذا المنظور، «أدوات» لشيء يتجاوزهم بكثير، وهو سلطة النسق الثقافي.
لذلك نتساءل: هل كان بإمكان هؤلاء أن يفعلوا غير ما فعلوه؟ وبطريقة أخرى: هل النسق الثقافي المغربي للسبعينيات ولنهاية التسعينيات واليوم يسمح بإمكانات أخرى؟ هل يسمح النسق الثقافي الراهن بأن نستنسخ على المستوى السياسي، مثلا، دستور فرنسا وإسبانيا؟ وعلى المستوى الحقوقي، بأن نقر المساواة وحرية التعبير وغيرها من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مع أن النسق الثقافي لا يسمح بذلك؟ هل يسمح النسق الثقافي باستنساخ «كوليج ذو فرانس» على مستوى البحث الجامعي؟
إن الذي يؤمن بإمكان ذلك هو شخص يتخيل واقعا ثقافيا هلاميا وليس واقعَنا المتجسد، فما يستفاد من تجاربنا المغربية، على محدودية آفاقها، في السياسة والاقتصاد والإدارة وغيرها، هو أن النسق الثقافي الراهن ما يزال غير مهيأ إطلاقا لمساءلة مجموعة من البديهيات الخاطئة، والتي تجعل كل المبادرات الإصلاحية تفشل قبل أن تُكتَب، فقبل ترسيخ الحكامة في الإدارة والشفافية في الاقتصاد والديمقراطية في السياسة والاختلاف في حقوق الإنسان، ينبغي بالأحرى ترسيخ ثقافة حديثة، فثقافة الريع تتنافى مع الشفافية وثقافة القبيلة والعائلة تتنافى مع الديمقراطية وثقافة الانتهازية واحتقار الآخر تتنافى مع حقوق الإنسان...
فأهمية اعتماد مفهوم النسق الثقافي منهجا في التحليل تكمن في أنه يلملم الجزئيات والأعراض وانفعالاتها ولا يجعل الفاحص يتيه في التحليل الشخصي، والذي لا يجنبه على أي حال متاهة الذاتية وأحكام القيمة، ومنه أيضا تجنب تحميل الأشخاص أكبر مما يسمح به النسق الثقافي، فمن يقول اليوم مثلا إن عبد الرحمان اليوسفي كان يتوجب عليه الدفع بإجراءات تقوي مؤسسة الوزير الأول إبان التناوب وإنه أخطأ إذ لم يفعل، قائل مثل هذا الكلام، من وجهة نظر النسق الثقافي، كمن يقول في مجال الإبستمولوجيا والعلم، على أنه كان يتوجب على نيوتن الانتباه إلى نسبية الزمان والمكان، وهو أخطأ إذ لم يفعل!، أو كالقائل إنه كان ينبغي لعباس بن فرناس أن ينتبه إلى الجاذبية، قبل أن يطير.. وقد أخطأ إذ لم يفعل! فالنسق الثقافي، والذي يحكم حدود الإمكان في السياسة والمجتمع، في الثقافة والإدارة، في العلم والقيم، في الممارسة والنظرية لم يكن ليسمح بطفرات كهذه.
إن الفساد الإداري في المغرب قبل أن يكون سلوكا هو أولا ثقافة، وانعدام الديموقراطية الحزبية، قبل أن يكون مشكلة سياسية، هو مشكلة ثقافية، واحتقار المرأة، قبل أن يكون مشكلة أخلاقية، هو مشكلة ثقافية، وهكذا صعودا إلى كل مشكلاتنا، وصولا إلى ما يجري في البرلمان والمدرسة والمحكمة ومخفر الشرطة والأسرة والفرق الرياضية: الثقافة ذاتُها والذهنية ذاتها...
فالذهنية المسؤولة عن إخفاقاتنا الدبلوماسية هي نفسها المسؤولة عن إخفاقاتنا التربوية، وهي نفسها المسؤولة عن تأخرنا الاقتصادي وقس على ذلك، فمن المحال أن تكون دبلوماسيتنا جيدة وتعليمنا سيئا، أو العكس، أو أن تكون رياضتنا رائدة، فيما مجالنا العمراني متخلف أو العكس، فالنسق الثقافي يحدد الإمكان والمحال أيضا.
دور المؤسسات الثقافية في الإصلاح
يحيل مفهوم المؤسسة الثقافية على روح الأزمنة الحديثة، حيث عقلنة المجال العمومي ووضع قواعد متعاقَد عليها لتدبير الاختلاف والتعدد، وأدوار المؤسسة الثقافية في هذا المجال العمومي دور مركزي، لذلك نجد أن كل المفكرين والفلاسفة الذين وضعوا أسس المجتمعات الحديثة والمعاصرة يؤكدون على ضرورة ضمان استقلاليتها عن الدولة وحرصوا على نقد كل محاولات الهيمنة أو التوظيف أو الإدماج التي تتعرض لها هذه المؤسسات من طرف الدولة، بل إننا لا نجد فيلسوفَ سياسة لم يشر إلى الأمر بصراحة، فنجد الأمر عند الفيلسوف الألماني كانط، في كتابه «صراع الكليات»، ونجده عند هيغل في «أصول فلسفة الحق»، ونجدها أيضا عند فلاسفة فرنسا إبان الستينيات والسبعينيات، كميشيل فوكو وجاك ديريدا وفرانسوا شاتلي وحنا أرندت وغيرهم.. فاستقلالية مؤسسات، كالجامعات ومراكز البحث والأندية الثقافية المختلفة والمؤسسات الإعلامية المستقلة والمهيكلة، هي القلعة الأخيرة ضد كل الشموليات، سواء منها الصريحة أو المتخفية.
فما يميز المجتمعات الديمقراطية المتحضرة هو كونها ليست فقط متقدمة بالتقنية والتنظيم، بل متقدمة أيضا في الاحتفاء بالثقافة والمثقفين، وفي المحصلة، احتفاء بالعقل، فعندما كان يتكلم دولوز، البارحة، وآلان تورين واليوم، فإن كل فرنسا تُنصت!...
ليست المجتمعات الحديثة مجردَ تجمعات لكائنات سياسية، بل هي أساسا تجمعات لكائنات تبدع وتنتقد وتتحرر ولا تتوقف عن الأمل والطموح إلى وجود إنساني أفضل، وبالتالي فالإبقاء على استقلالية هذه المؤسسات هو أساسا ضمان لأدوارها في تثقيف وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم السياسي، ومواجهة الأزمات والتحولات السياسية والثقافية والاجتماعية والقيمية التي تؤثر في مستوى حياتهم ومعيشتهم، وهي أيضا مشتل لتلاقح كل الأطروحات التي تقدم مختلف إمكانات السعادة، بمعناها المجتمعي الأشمل.
إذن، في ظل الحاجة الملحة إلى الإصلاح الثقافي في المغرب، باعتباره مدخلا للإصلاح المجتمعي ككل، لم يعد بالإمكان تجاهل الدور المركزي للمؤسسات الثقافية، بشرط -كما سبق القول- أن نضمن، بشكل حثيث، حريتها واستقلاليتها، لأسباب عدة من جملتها أولا، أنه مهما كانت رزنامة الإصلاحات التي تستهدف النهوض بهذا القطاع أو ذاك، تبقى الثقافة مفتاحا رئيسيا لذلك، فالعقل الذي يبدع إصلاحا هو مهيَّأ ثقافيا أيضا لإفشاله، وهذا ما يحدث في حياتنا الحزبية والتربوية والاقتصادية والتشريعية والقضائية... ثانيا، لا ينبغي التعويل كثيرا على السياسي في تحقيق الطفرة الثقافية الكفيلة بتهييء شروط موضوعية لتغيير مسارنا التاريخي، فهو -بتعبير عبد الله العروي- «معذور»، لعدم فعاليته في تحديث المجال العمومي، إنْ لم نقل عدم قدرته على ذلك، نظرا إلى الضغوطات الخارجية، في حين أن المؤسسة الثقافية، والتي يُفترَض أن تكون حرة، هي التي عليها مسؤولية تاريخية للدفع بالإصلاح الثقافي، باعتبار هذا الأخير منطلقا للإصلاح السياسي والاجتماعي، لكنْ حيث إن هذه المؤسسات لا تشكل بديلا للقيم التي يحرص الفاعل السياسي المحافظة عليها، فإن هذا يعتبر مدخلا موضوعيا للحديث عن وجود أزمة مجتمع، فهي عرض فقط لأزمة ماهوية هي أزمة ثقافة، وهذه مشكلة المغرب. ثالثا، وأخيرا، إن الإصلاح الثقافي لا تنجزه الإرادات الطيبة والمبادرات المعزولة لهذا المثقف أو ذاك، إذ إن أغلب المشاريع الثقافية التي عرفتها ساحتنا الوطنية انتهت بموت أصحابها، في حين أن الاستمرارية والتراكم لا يتحققان إلا من داخل المؤسسة الثقافية الحقيقة.
مشاريع ثقافية بدون مؤسسات
«أزمة ثقافة» لا نعني بها مرة أخرى، كون المغاربة لا يقرؤون أو أن المغاربة لا يتذوقون المسرح أو الموسيقى الكلاسيكية، فهذه أعراض للأزمة فقط، لكن جوهرها هو أن تطبع المثقف بقيم محيطه، ثم ضعف المؤسسات الثقافية، فالمغاربة اليوم يتبنون مقولات واعتقادات ثقافية أتقنوا تغليفها وتحصينها بتقاليد ثقافية هجينة، فلا هي بالأصيلة ولا هي بالحديثة، أو لنقلْ إنها مركبة منهما معا، وهذا مما يسهل الوقوف على تجلياته في الشارع والبيت والمدرسة والجامعة والإدارة والمقاولة.. إنها أزمة هوية وأزمة مصير أيضا.. تتجسد، على نحو صارخ، في شخصية المغربي اليوم.
فنحن نجد السياسي المغربي يدافع بقوة على ما تم إنجازه في المغرب بعد الاستقلال ويسم القائلين بغير ذلك ب«السوداوية» وكراهية الوطن، بينما عندما يمرض نجده «يهرول» نحو مستشفيات أوربا للتطبيب.. ونجده يتكلم عن «الأصالة»، بينما يدرس أبناؤه في مدارس البعثات أو يرسلهم للدارسة في مدارس «معاصرة».. ونجد الحزبي أيضا «يُشِيد»، حيث حل وارتحل، بالهامش الديمقراطي الذي يعيشه المغرب اليوم، بينما هو في الوقت ذاته، غير قادر على إتيان «سلوكات ديمقراطية»، بل ويحاربها بمختلف الوسائل...
أما تجليات أزمة الثقافة عند المغربي العادي، فتصل حد الغرائبية، فالمغربي اليوم يلعن السياسة والسياسيين ولكنه يطمع في أموالهم، ينتقد بشدة مظاهر الفساد في الإدارة، لكنه لا يتردد في تقديم الرشوة أو استعمال الوساطات في أمر يمكن قضاؤه دون الحاجة إلى ذلك.. يدعو إلى احترام حق الطفولة ويشغل طفلة قروية في منزله! يدعي احترام حق المرأة ويعامل زوجته كجارية.. بينما الاحترام، كل الاحترام ل»خليلته».. يضع على زجاج سيارته آيات قرآنية ويستعمل سيارته في كل «الرذائل»!...
وعلى مستوى النقد الثقافي، فمثقفونا -على اختلاف مشاربهم- لم ينتسبوا لإلى مؤسسة ثقافية، وحتى إنْ فعلوا، فإنهم تعثروا في إحداث تراكم في أجيال المثقفين يرسخ نوعا من التقاليد الثقافية، كالتي نجدها مثلا في معهد «سرفانتس» الإسباني، أو «غوته» الألماني، أو على مستوى البحث الجامعي في فرنسا «الكوليج دو فرانس»..
ولتحري الدقة والصراحة، فالمرحوم الدكتور عابد الجابري كان لديه مشروع ثقافي حقيقي، ولا يستطيع أحد اليوم أن ينكر فضل الرجل في تنوير عقول أجيال وأجيال من الشباب الجامعي المغربي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وأشرف كجامعي لامع على عشرات الأطروحات التي كان ينتظر من أصحابها حمل المشعل لتحقيق التراكم الكفيل بإحداث النهضة الثقافية المطلوبة، لكنْ هل تحقق له هذا المشروع؟ أي هل ترك مدرسة لها تقاليدها الثقافية؟ طبعا لا، إذ إن عددا كبيرا من تلامذته «ارتدّوا» عن أمره كله، فمنهم من رضي بوظيفته واستسلم ل«اليومي»، ومنهم من يعيد «إنتاج» إنتاجات الجابري نفسه، أما الذين بقوا في المؤسسة الثقافية الجامعية ذاتها، أمثال الدكتورين عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت، فقد انتقل الأول من الفارابي إلى الفلسفة المعاصرة، والثاني من ابن حزم إلى الإبستمولوجيا.. باستثناء الدكتور محمد المصباحي، الذي بقي وفيا للمبحث نفسه، وللأفق نفسه.
الشيء نفسه يمكن أن يقال عن علي أومليل والعروي وطه عبد الرحمان، فهل تركوا تقاليد ثقافية مؤسسية يحملها تلامذتهم، هذا إن وجدوا؟ طبعا لا، بل إنهم هاجروا و»هجروا» كل شيء: أومليل آثر «نعيم» التشريفات الدبلوماسية على «شقاء» الثقافة المضادة، وطه عبد الرحمان آثر وحدة واتصال «عالم الذوق» على تناقض وتعدد «عالم الحس».. أما العروي، فقد «صمت» عن الثقافة وهاجر إلى عالم الرمز والكناية، مع أن المثقف ليس هو الذي يمتلك كمّاً من المَعارف والمعلومات والشهادات العلمية، بل هو الذي يحمل بوعي هموم مجتمعة وأمته ويعيش في قلب الشعب ويناضل من أجل حريته ومن أجل الارتقاء بوعيه... والنتيجة على مستوى راهننا الثقافي، خاصة والاجتماعي عامة، بينة بذاتها، إذ هناك مؤسسات ثقافية ولكنها صورية، يستعملها أصحابها ل»أشياء» لا علاقة لها بالثقافة، وهناك مؤسسات ثقافية لها إمكانات بشرية مهمة، لكنها مغرقة في النخبوية والتجريد، وأخرى لم يستطع أصحابها وضع مسافة مع السلطة السياسية، بل أضحت نسخة عن الدولة، بتناقضاتها واختلالاتها..

المؤسسات الثقافية والتنمية الثقافية المستدامة
المشروع الثقافي استثمار في الإنسان من أجل الإنسان، والمجتمعات التي استطاعت في الآونة الأخيرة تحقيق معدلات محترمة ومتواترة من التنمية، هي مجتمعات قلبت مفاهيم الثروة بأن تبنّت نموذجا من التنمية يستثمر في العقول لا في الأرض أو الريح أو الماء.. مجتمعات استثمرت في الثقافة، من خلال مفهوم شامل للمؤسسة الثقافية.
إن المؤسسة الثقافية تشمل، في الحقيقة، جميع المؤسسات الصحافية ودُورَ النشر وجميع المكتبات والجامعات المتخصصة وجميع بيوت الحكمة والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحوث والدراسات، وكذلك المتاحف والمسارح والقاعات الفنية والفرق المسرحية والموسيقية ودُور الأوبرا ومدارس الموسيقى.. كما يمكن اتباع ذلك بقائمة أخرى تشمل المقاهي الأدبية ومقاهي الأنترنت والنوادي الثقافية والجمعيات الأدبية.. نحن، إذن، أمام عدد غير محدود من المؤسسات الثقافية وأمام كم هائل من الإنتاج الثقافي، تقوم هذه المؤسسات بنشره، بطريقة أو بأخرى، وحسب اختصاص كل منها. فما الذي يمكن أن تقوم به هذه المؤسسات من دور في التنمية الثقافية المستدامة؟
قبل أن نتعرف على ذلك الدور، يجب أن نفرق بين التنمية الثقافية الآنية وبين التنمية الثقافية المستدامة، فالأولى تعني -ضمن ما تعني- أن مؤسسة أو مؤسسات معينة تقوم بطرح برنامج ثقافي معيَّن تعمل من خلاله على تطوير نمط ثقافي، كإصدار سلسلة من الكتب أو إصدار مجلات ثقافية دورية أو إقامة حفلات موسيقية مبرمجة أو معارض فنية متتالية، وفق رؤيا مدرسة أو مدارس فنية متعددة.
أما الثانية، فإنها تعني قيام جميع المؤسسات المذكورة أعلاه، والتي اعتُبرت من المؤسسات الثقافية بعمل إستراتيجي ومبرمج، لرفد الحركة الثقافية، وفق الحاجة والراهن التاريخي والمستقبلي، وتضع الخطط والدراسات لاستمرار ذلك وتطويره، كمّا ونوعا، وإعداد الملكات المتخصصة والمؤهلة للقيام بهذا الدور. التنمية الثقافية المستدامة هي، إذن، تنمية شمولية ذات أبعاد متعددة تصب في مجال واحد من مجالات الحياة ألا وهو الثقافة، باعتبارها مدخلا حقيقيا للتنمية لباقي المستويات المجتمعية الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.