إن الجهوية تشكل مرجعية شبه دائمة في الخطب الملكية، إلا أن خطاب 6 نونبر 2008 هو الذي حدد تصورا مفصلا لما أصبح يسمى بالجهوية المتقدمة أو الموسعة. ويؤكد الملك في هذا الخطاب ما يلي: «لذلك قررنا، بعون الله، فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية»... وقبل الدخول في صلب الموضوع، من الضروري إبراز بعض الملاحظات الجوهرية. - تتعلق الملاحظة الجوهرية الأولى بالإشارة المتكررة في الخطب الملكية إلى فكرة الوحدة كدعامة من دعامات الجهوية. فحسب الخطاب الملقى بتاريخ 6 نونبر 2008، فالوحدة «تشمل وحدة الدولة والوطن والتراب التي لا يمكن لأي جهوية أن تتم إلا في نطاقها». كما يضم الخطاب عبارات أخرى عامة تشير إلى فكرة الوحدة: «الإجماع الراسخ حول الثوابت الوطنية»، «منهج متجدد... قوامه الحكامة المحلية الجيدة لأقاليمنا الجنوبية والمشاركة الواسعة في قضية تدبير قضيتنا الوطنية، وجوهره إضفاء عمق تنموي وتضامني على روحها الوحدوية»، «مواصلة التعبئة الشاملة ووحدة الجبهة الداخلية»، «التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية ضمن مغرب موحد»، «صرح الدولة المغربية التي نحن على سيادتها ووحدتها مؤتمنون». ومن بين مرتكزات الجهوية، أشار خطاب 5 يناير 2010، المتعلق بتنصيب اللجنة الاستشارية، إلى »التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب». وتندرج هذه الملاحظة الأولى في ما يمكن أن نسميه بالتنظيف اللغوي أو المفاهيمي (le lavage conceptuel)، إن صح التعبير. فهناك من يعتبر أن من شأن الجهوية أن تمس بوحدة الدولة، وهذا غير صحيح، وهناك من يعتبر، كبعض أعضاء المجتمع المدني في شمال المغرب، أن الجهوية المتقدمة يجب أن تنطوي على نوع من التباعد بين الدولة والجهات. وفي الواقع، ليس هناك تناف أو تعارض بين الجهوية المتقدمة ووحدة الدولة، بل إن الوحدة تشكل عاملا أساسيا لتقوية الجهوية والاندماج الاقتصادي والاجتماعي لمكونات الجهة. وتؤكد هذا التكاملَ بين المركز والجهات دساتيرُ الدول التي قطعت أشواطا كبيرة في هذا الميدان، حيث تنص على ضرورة احترام وحدة الدولة وصيانتها. وهذا حال دساتير إسبانيا وإيطاليا وحتى الدول الفيدرالية، مثل ألمانيا والولايات المتحدةالأمريكية... ولقد أكد المخطط الوطني لإعداد التراب في نفس الاتجاه أن «تاريخ المغرب يتنافى مع النظام الفيدرالي، سواء كان من النوع الألماني أو الإسباني... فالمغرب يشكل نموذجا في ميدان وحدة الدولة والتراب». - أما الملاحظة الثانية فتتعلق بأصالة المنهجية المعتمدة لإعداد الإصلاح الجهوي الجديد. فمن المثير للانتباه أن الملك لم يطلب من وزارة الداخلية أن تهيئ مشروع الجهوية المتقدمة، بل أعلن عن إنشاء بنية للتأمل والتشاور. من البديهي أن الأمر يهم كذلك الحكومة، لكن أعمال هذه اللجنة ستكون حاسمة بالنسبة إلى جميع الأطراف المعنية. وهكذا يوضح الملك أنه «على غرار نهجنا في تدبير القضايا الكبرى للأمة، ارتأينا اعتماد مقاربتنا الديمقراطية والتشاركية». ولهذا الغرض، تم الإعلان عن «إقامة لجنة استشارية متعددة الاختصاصات، مشهود لها بالكفاءة والخبرة الواسعة وبعد النظر». وهذه اللجنة مدعوة إلى »اقتراح تصور عام للجهوية« بعد رفع الأمر إلى النظر السامي للملك. وتتميز هذه المنهجية بمزايا كبيرة. فهي، أولا، تذكرنا بالمنهجية المطبقة لإعداد مشروع الحكم الذاتي الموسع للصحراء. كما أنه، حسب نفس الخطاب، سيتمخض «التصور العام لهذا المشروع الكبير عن نقاش وطني واسع وبناء، تشارك فيه كل المؤسسات والسلطات المختصة والفعاليات التمثيلية والحزبية والأكاديمية والجمعوية المؤهلة». وبالارتكاز على هذه المنهجية، فالعاهل المغربي يدعو الجميع إلى التدبر والتأمل حول الجهوية لاقتراح المعالم والأشكال الملائمة للمغرب مع الأخذ بعين الاعتبار للخصوصيات الوطنية والمحلية. يتعلق الأمر، إذن، بطلب عام للتعبير عن الآراء والأفكار، مما يعني أن المطلوب لا يتجلى فقط في إبراز الإيجابيات، بل كذلك في التركيز على المعيقات التي تحول دون تطبيق هذا الإصلاح الهيكلي والعميق والشروط الواجب توفرها ليصبح هذا المشروع قابلا للتنفيذ. وسيتم انتهاج نفس المنهجية التشاركية بعد تحديد التصور العام للجهوية. وهكذا، فمن بين الشروط التي وضعها خطاب 20 غشت 2010 لإنجاح الإصلاح الجهوي «إنضاجه بالتعريف به من خلال نقاش وطني واسع وبناء، وبالتعبئة الهادفة إلى تبنيه الجماعي والانخراط القوي لإنجاحه». ويعد هذا الشرط امتدادا منطقيا للمنهجية السابقة وتقنية واقعية بالنظر إلى الصبغة البنيوية التي تميز كل إصلاح يهم الديمقراطية المحلية وإلى تعدد أبعاده وصعوبة استيعابه من لدن الكثيرين. - ومن الواضح أن خطاب 6 نونبر 2008 يشكل المرجعية الأولية لأعمال اللجنة الاستشارية متعددة الاختصاصات، حيث يضم مجموعة من التوجيهات الواجب أخذها بعين الاعتبار. وهكذا يشير الخطاب الملكي إلى مفاهيم وعبارات يمكن الاستناد إليها لتحديد المعالم الكبرى للجهوية المرتقبة: «الجهوية المتقدمة والمتدرجة»، «التدبير الديمقراطي للشؤون المحلية«، «جهوية موسعة وملائمة»، «إصلاح هيكلي عميق»، «استحضار دور المؤسسات الدستورية»، «تقسيم ناجع»، «نظام فعال لإدارة لاممركزة يشكل قطيعة مع المركزية المتحجرة»، «إصلاح مؤسسي عميق»، «ورش هيكلي كبير»، «نموذج مغربي لجهوية متميزة»... ويتحدث هذا الخطاب أيضا عن مبادئ توجيهية أساسية: «مبادئ الوحدة والتوازن والتضامن» التي تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف: «ترسيخ الحكامة المحلية الجيدة وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة». وجاء خطاب تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية بتاريخ 5 يناير 2010 ليدقق شيئا ما في التوجيهات، حيث اعتبر أن بلورة الجهوية يتعين أن تقوم على مرتكزات أربعة: أولا: التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها، المتمثلة في وحدة الدولة والوطن والتراب... فالجهوية الموسعة يجب أن تكون تأكيدا ديمقراطيا للتميز المغربي الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة... ثانيا: الالتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات... ثالثا: اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات... رابعا: «انتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن يتم تستقيم الجهوية بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجحة قائمة على التناسق والتفاعل». - فدور اللجنة الاستشارية يكمن في تحديد مكونات هذه المفاهيم والنظريات والعبارات المركبة التي تبقى، على أية حال، عامة في مبدئها. والواقع أن جزء كبيرا من الإعداد المطلوب قد تمت بلورته في إطار مشروع الحكم الذاتي الذي وصفته الديمقراطيات الكبرى بكونه جديا وذا مصداقية... - لكن العمل الذي ينتظر اللجنة المعنية ليس بالهين عكس ما يظنه البعض. والأمر يتعلق بإشكالية معقدة. فهذا الجهاز الاستشاري مدعو إلى تحديد تصور عام للجهوية يسمح للمغرب بالانتقال من تنظيم إداري مبني على مركزية مفرطة، أو «مركزية متحجرة» حسب الخطاب الملكي، إلى نظام يتأسس على «الحكامة الجيدة المحلية» و«المقاربة الترابية»، أي نظام إداري جديد يشبه، إلى حد كبير، الأنظمة المطبقة في الدول الجهوية كإسبانيا وإيطاليا... والخطاب الملكي المتعلق بتنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية يشير، بطريقة صريحة، إلى الإشكالية التي تواجه عمل هذا الجهاز: «إننا نتوخى من هذا الورش المؤسس بلوغ أهداف جوهرية، وفي مقدمتها إيجاد جهات قائمة الذات وقابلة للاستمرار من خلال بلورة معايير عقلانية وواقعية لمنظومة جهوية جديدة». ويؤكد الخطاب في فقرة أخرى ما يلي: «نحث اللجنة على الانكباب الجاد على الإشكالات الحقيقية المطروحة في تضافر للجهود والاجتهاد الخلاق... فجهات مغرب الحكامة الترابية الجيدة لا نريدها جهازا صوريا أو بيروقراطيا، وإنما مجالس تمثيلية للنخب المؤهلة لحسن تدبير شؤون مناطقها». يتبع... محمد اليعكوبي - أستاذ بكلية الحقوق بسلا