تخشى إسرائيل «حزب الله» ليس فقط لأنه قوة عسكرية جبارة منظمة بإحكام، وإنما لأنه يملك مؤسسات مدنية وتقنية متطورة للغاية تديرها عقول جبارة تعمل من خلف ستار، وتملك أحدث ما أنتجته التكنولوجيا في ميادين الاتصال والتجسس وجمع المعلومات، وهذه ميزات غير موجودة لدى معظم الدول العربية التي تنفق المليارات لشراء أسلحة وطائرات ونظم المراقبة والاتصالات. ولم يكن مفاجئا أن تعترف القيادة العسكرية الإسرائيلية بنجاح أجهزة الحزب في اختراق أرشيف الصور الإستخباراتية التي التقطتها الطائرات العسكرية الإسرائيلية أثناء اختراقها للأجواء اللبنانية قبيل تنفيذ جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري، وهي الصور التي عرضها السيد حسن نصر الله أثناء أحد خطاباته التي ألقاها أخيرا لتفنيد اتهامات «القرار الظني» لحزب الله بالوقوف خلف الجريمة، ولتأكيد دور إسرائيل وعملائها في عملية الاغتيال هذه. بالأمس (يقصد الأربعاء) حقق الحزب إنجازا لا يقل أهمية عن إنجازاته السابقة عندما كشف النقاب عن محطات تجسس إسرائيلية مزروعة في المرتفعات المطلة على بيروت «جبل صنين»، وأخرى في منطقة صيدا، قام الجيش اللبناني بتدمير الأولى، وأقدمت الطائرات الإسرائيلية على تدمير الثانية في غارات جوية شاهدها الجميع في المنطقة بالعين المجردة. الجيش اللبناني أعلن أمس (يقصد الأربعاء) أنه اكتشف منظومتي تجسس إسرائيليتين متطورتين فوق جبال صنين يمكن أن تكونا ساعدتا القوات الإسرائيلية في رصد واستهداف مواقع عسكرية للمقاومة، وقال الجيش إن اكتشاف هاتين المنظومتين جاء «نتيجة معلومات حصلت عليها مديرية المخابرات من مصادر المقاومة». مثل هذه الإنجازات، ومن قبلها الانتصار الكبير الذي حققته المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان أثناء حرب يوليوز عام 2006، هي التي دفعت الجنرال جيورا إيلاند، المستشار السابق للأمن القومي الإسرائيلي، إلى الاعتراف بأن إسرائيل لا تستطيع هزيمة «حزب الله» في مواجهة مباشرة، وأن الحزب سيلحق ضررا بالغا بالجبهة الداخلية الإسرائيلية في حال اندلاع الحرب. الجنرال الإسرائيلي، الذي خدم أثناء حكم رئيسي الوزراء السابقين أرييل شارون وإيهود باراك، كان يتحدث إلى الإذاعة الإسرائيلية، أي أنه ربما أراد توجيه رسالة تحذير إلى رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو بعدم الإقدام على حماقة غزو لبنان مرة أخرى، لأنه سيحرق أصابعه، وسيخرج مهزوما في نهاية المطاف مثلما حدث لخلفه إيهود أولمرت ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني. الردع العسكري الذي حققه «حزب الله» وفشلت في تحقيقه دول عربية عديدة، يعود بالدرجة الأولى إلى وجود قيادة يلتف حولها أنصاره، ومستعدون للتضحية بأرواحهم من أجل قضايا الأمة والعقيدة المصيرية، وهو إيمان وولاء وانتماء لا يحظى به أي زعيم عربي آخر في مشرق الأمة ومغربها. ما يجعل الإسرائيليين يترددون في التحرش عسكريا بالمقاومة في لبنان هو معرفتهم الدقيقة بأن زعيم «حزب الله» يملك الشجاعة على إصدار الأوامر بتوجيه آلاف الصواريخ لقصف العمق الإسرائيلي وتدمير منشآت حيوية دون أن يرف له جفن، على عكس معظم الزعماء العرب الآخرين الذين يؤمنون بخيار السلام ويستجدون المسؤولين الإسرائيليين عبر القنوات الأمريكية، للتجاوب مع خيارهم السلمي هذا. في خطابه الذي ألقاه بالأمس (يقصد الأربعاء) في ذكرى عاشوراء تحدث السيد نصر الله كعادته بلغة ومفردات وجمل نسيها أو تناساها معظم الزعماء العرب إذا لم يكن كلهم عندما استذكر شهداء الأمة والعقيدة جميعا. وأكد أن فلسطين يجب أن تتحرر من البحر إلى النهر، وشدد على أن الذين يتحدثون عن التنازلات غير مفوضين ولم ينصبهم أحد للحديث باسم الأمة ومقدساتها، وخاطب المجتمعين العرب في القاهرة للبحث في البدائل التي جربها «حزب الله» وأثبتت فعاليتها في حرب لبنان الأخيرة. الجنرال الإسرائيلي المذكور لم يفته الإقرار بالتفوق العسكري الإسرائيلي في مواجهة «حزب الله»، ولكنه ينبه في الوقت نفسه إلى الخسائر الباهظة التي ستلحق بإسرائيل، على الصعيدين البشري والمادي، في حال انطلاق عشرات الآلاف من صواريخ المقاومة على حيفا وتل أبيب وصفد وحتى ديمونا في أقصى الجنوب. مفهوم الانتصار بالنسبة إلى الإسرائيليين هو غيره عند العرب والمسلمين، والمقاومة اللبنانية على وجه التحديد. فالإسرائيليون يريدون انتصارا «نظيفا»، أي بأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية، والمقاومة تراه عكس ذلك تماما، أي إلحاق أكبر قدر ممكن من هذه الخسائر، مضافا إليها تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وزرع الرعب في نفوس الإسرائيليين. الإسرائيليون حاولوا تطبيق هذا المفهوم أثناء حربهم على قطاع غزة، ونجحوا في ذلك عسكريا، ولكن لحقت بهم هزيمة فادحة سياسيا وإعلاميا، فقد جاءت النتائج كارثية، حيث خرجوا من هذه الحرب رغم انتصارهم العسكري في حرب غير متكافئة على الإطلاق، متهمين بارتكاب جرائم حرب، ومنبوذين من الأغلبية الساحقة من الرأي العام الغربي حليفهم الأساسي، وفوق هذا وذاك خسروا تركيا حليفهم الوحيد في المنطقة. الأسلحة المتقدمة والتفوق في عدد الطائرات والدبابات لا يحسم الحروب لصالح من يستخدمونها إلا في ظل غياب الإرادة والقيادة الوطنية، وإلا لمَ هربت الولاياتالمتحدة مهزومة من العراق، وفي طريقها إلى الاعتراف بهزيمة أخرى في أفغانستان. والتجربة الإسرائيلية في لبنان قبل أربع سنوات أثبتت أن الإرادة البشرية إذا ما جرى دعمها بقيادة شجاعة قادرة على اتخاذ قرار المواجهة، وترسانة من الصواريخ يمكن أن تقلب كل معادلات القوة لصالح الطرف الأضعف. ترسخ هذه القناعة لدى حزب الله وقيادته هو العامل الحاسم في رفض القرار الظني قبل صدوره، واتخاذ قرار علني بعدم التجاوب مع أي طلب من المحكمة بتسليم أي شخص مهما جاءت النتائج، ومهما تعاظمت التهديدات الأمريكية والإسرائيلية. من المؤلم أن الطرف الوحيد الذي أعلن أنه لن يسكت على أي حرب إسرائيلية على لبنان هو السيد رجب طيب أردوغان رئيس تركيا السنّية، أثناء زيارته الأخيرة للبنان، وهذا ما يفسر خروج مئات الآلاف في الشوارع لاستقباله، بينما يزور معظم الزعماء العرب لبنان «متسللين» تماما مثل نظرائهم الأمريكان والبريطانيين عندما يزورون العراق وأفغانستان. القرار الظني سيصدر حتما، ومن المرجح أنه سيدين «حزب الله»، ولكنه سيكون نقطة تحول تاريخية، من حيث كونه علامة فارقة، فلبنان وربما المنطقة كلها، ستكون مختلفة تماما بعد صدوره، حيث سيبدأ تاريخ جديد منذ اللحظة الأولى التي سينطلق فيها أول صاروخ لضرب تل أبيب ومطاراتها كرد على أي عدوان إسرائيلي جديد.