جيمس روبين، الذي كان الناطق بلسان وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في إدارة بيل كلينتون، نشر مؤخرا مقالا في نشرة الأنترنيت لمجلة «نيو ريببلك» الأمريكية تحت عنوان «تغير في هذه الأثناء»: «تسريبات ويكيليكس ضربة قاضية لليسار المتطرف». هذا اليسار، كما قدر روبين، ترقب -بحبس للنفس- كشفا فضائحيا، يثبت شرور الإدارة وخاب أمله بشدة. فالبرقيات الدبلوماسية التي كُشفت، وإن كانت رسمت في عمومها صورة قوة عظمى محرجة ومترددة، فإنها بالتأكيد ليست إمبراطورية شر. «لا توجد مؤامرة ولا يوجد تظاهر»، كتب روبين، «الدبلوماسيون الأمريكيون أبرقوا إلى المسؤولين عنهم في واشنطن بنفور وغضب عن ازدواجية الوجه، الفساد، الطمع، قمع حقوق الإنسان والسخرية الإجرامية لزعماء بارزين، معظمهم في العالم غير الديمقراطي. لم يتصوروا هكذا في اليسار العميق الهزة الأرضية العالمية التي ستحدث بعد الكشف». ليس أقل، بل أكثر بكثير، خاب أمل اليسار المتطرف من القصة الإسرائيلية كما ظهر في البرقيات السرية. عبثا انتظروا هناك مكتشفات حول إسرائيليين يناولون وجبة الفطور لرضّع عرب ويشعلون نار الفزع الكاذب في مسألة النووي الإيراني. لو أكد كاتبو البرقيات، هم أو بعض منهم على الأقل، ما ورد في الدعاية المتطرفة المناهضة لإسرائيل، لكان مؤسس «ويكيليكس» حُمل على أكتاف نشطاء اليسار العميق كبطل سام، ولكن تبين أن صورة إسرائيل لم تتضرر فقط من الكشف، بل تحسنت جدا، وأن سلسلة من رؤساء الدول، بما فيها دول داخل العالم العربي، يشاركون القلق الإسرائيلي من نظام الظلام في طهران ويرون فيه الخطر الأساسي على البشرية بأسرها. وفي لحظة تحول أسانج من ذخر إلى عبء، بدأت تظهر في مواقع اليسار، غريب الأطوار، مقاطع من التحليلات المفعمة بالتشهير ب«ويكيليكس» إلى درجة وصف الموقع بكونه الذراع الطويلة للموساد. وهكذا انقضت هالة المجد. اليسار العقائدي فوجئ وهو غاضب. بالمقابل، فإن قراء الصحف في العالم الحر لم يفاجؤوا، إذ إن هذا هو الاستنتاج الواضح الذي ينشأ عن محيط برقيات «ويكيليكس». الصحافة المنفتحة والليبرالية لا تكذب. ما نشر فيها هو الحقيقة بجسدها، بما في ذلك أخطاء القذافي، فتيات برلسكوني، الحساب البنكي لأردوغان وحرب الإبادة للقيادة الشيوعية الصينية ضد غوغل. بوسائلها الهزيلة نسبيا، نجحت الصحافة المكتوبة الحرة في أن تقدم إلى قرائها صورة للعالم تطابق تقريبا تماما صورة العالم التي تنشأ عن البرقيات السرية للدبلوماسية الأمريكية، ومن المعقول الافتراض لدبلوماسية دول أخرى أيضا. التسريبات لم تغير ولم تقدم ما هو جديد، فقد عرفت الصحافة والصحافيون (ورووا لقرائهم) الأسرار الكتيمة قبل أن يطبع الدبلوماسيون أختامهم «السرية» عليها. قبل نحو أربعة أشهر، عندما نقل «ويكيليكس» تقارير ضباط استخبارات أمريكيين من ميادين القتال في أفغانستان كتبت هنا: «مواقع الأنترنيت، بصفتها منتجات لشبكة عالمية، قادرة على تلقي المعلومات من مصادر مغفلة، ستعمل في المستقبل كمراكز التقاط لوثائق مسربة وشهادات من الميدان. أما الصحف، من جهتها، فسيتعين عليها أن تعيد تعريف نفسها كمن يساعد القراء على فهم فوضى العالم وترتيب فسيفساء لغز الواقع». حيال كوم البرقيات الدبلوماسية السرية، كان بوسعي أن أرتب الأمور على نحو مغاير بعض الشيء: الصحافة المكتوبة لن تساعد قراءها فقط على تنظيم مقاطع المعلومات الخامة المسربة إلى مواقع الأنترنيت في صورة للعالم مفهومة، بل ستسبق المواقع في قدرتها على تركيب الصورة الحقيقية من المواد الموجودة لديها، كما حققتها بقواها الذاتية. الكشف الذي سيأتي من الشبكة سينخرط في الكشف الذي سبقه. في اختبار الدقة من حيث الحقيقة ومصداقية التحليل، تلقت الصحافة المكتوبة الحرة هذا الشهر علامة تقدير فائقة. عن «يديعوت»