دولة الغلبة والمتسلط الأوحد: إن الجابري لا يميل إلى التفسير الأخير أيضا، بل يرجح شيئا آخر أقوى وأشد دلالة ولكنه يجري في السياق ذاته، ومفاده أن ابن رشد قد تباعد وانصرف فعلا عن الخليفة الموحدي بعد قتله لعمه أبي الربيع، والي تادلة، وأخيه أبي حفص، والي المريسة، بعد هزيمته في تونس على يد واليها ابن غانية ثم قتله لأخيه الثاني أبي يحيى صديق ابن رشد، وبعد اتخاذه لحرس خاص من المتعصبين دينيا يسميهم المراكشي «الصالحين المتبتلين». يطور الجابري ملاحظته الأخيرة، ويبني عليها تحليلا تتخلله شبكة استنتاجات لا تنقصها الحصافة والأدلة القوية أحيانا، مع أن إحداها مقلوبة على رأسها قلبا كما تقدم بنا في ذكر تلك المطابقة الفكرية والثقافية بين الخليفتين الأب والابن. ومع ذلك، فالباحث يذهب في تحليله إلى أن ابن رشد اشتغل، فعلا، بعد الجفاء الذي حدث بينه وبين يعقوب الموحدي على كتاب مهم وشديد الأهمية والخطورة، هو اختصار لكتاب «جمهورية أفلاطون» أطلق عليه اسم «الضروري من السياسة». وهو كتاب معاد للاستبداد والطغيان على طول الخط ويهاجم المستبد حاكما وحكما. ولكي نأخذ فكرة عن خطورة وأهمية هذا الكتاب والنقد الضاري الذي يسلطه ابن رشد على الاستبداد والتسلط، ندرج أدناه الشذرات التالية منه ضمن ما يسميه الجابري تبيئة «السياسة» عند العرب مع «السياسية» عند اليونان: - تتحول المدينة الفاضلة إلى مدينة «كرامية» يطلب زعماؤها المجد والشرف لذاتهم، أي حكم البطولة الفردية والزعيم الأوحد، بمفرداتنا اليوم، ضاربا مثالا على ذلك في كيفية تحول دولة الخلافة الراشدية «الجماعية» في زمن معاوية إلى مدينة كرامية ودولة غلبة، مضيفا وهذا أخطر ما كتبه ابن رشد - أن الأمر يشابه ما كان يحصل في عهده في بلده الأندلس. - ويحلل ابن رشد ذلك التحول كالتالي: في الدولة الكرامية يكون البيت «الأسرة الحاكمة» هو الأهم والمدينة «الدولة» إنما تكون من أجله (من أجل البيت / الأسرة الحاكمة، وليس من أجل العامة. فغرض «مصلحة» البيت هو المقصد الأول، ولذلك كانت المدينة أسروية يلعب فيها الحسب والنسب الدور الأهم على عكس المدينة الفاضلة. - تتحول المدينة الجماعية «الدولة الديمقراطية» إلى دولة المتسلط الأوحد في مدينة الغلبة وفق آليات معينة ناقشها ضمن موضوع تداول الخيرات والأموال والسلاح والجهة الحائزة لها والمهيمنة عليها لغرضها هدفها هي، وليس لأغراض البيوتات عامة. - يعرف «يترجم؟» ابن رشد «الطاغية» من اليونانية إلى «وحداني التسلط» في العربية، ويكتب عنه بالحرف (ولهذا يَعْظُم هذا الفعل منه على الجماعة، فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا أن يحميهم من ذوي اليسار، ويقربهم من ذوي الفضائل والخير من أمثالهم»... ولذلك تسعى الجماعة الغاضبة عندها إلى إخراجه من مدينتها، فيضطر هو إلى استعبادها والاستيلاء على عتادها وآلة أسلحتها، فيصير حال الجماعة كالمستجير من الرمضاء بالنار، وذلك أنها إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا بها تقع في استعباد أشد قسوة. وهذه الأعمال هي جميعا من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بيِّنٌ في أهل زماننا هذا، ليس بالقول فحسب ولكن أيضا بالحس والمشاهدة (السيرة، ص 255). والبين أيضا أن ابن رشد يتكلم هنا عن حاكم أنيطت به السلطة طوعا من الجمهور، أو ضمن ما يمكن تشبيهه ببيعة من خاصة القوم، فانقلب عليهم وحكَّم فيهم سيف الاستبداد وليس عن حاكم اغتصب السلطة بالعنف والسلاح والغدر عبر ما نسميه في عصرنا الانقلابات وغيرها، ومع ذلك يظل كلام ابن رشد جذريا و«ديمقراطيا ثوريا» معاديا للاستبداد والمستبدين بإطلاق القول، كما أنه لا يخلو من الإشارات الاستفزازية البينة للخليفة الموحدي يعقوب المنصور ذاته. كان ابن رشد قد ألف هذا الكتاب «الضروري من السياسة» في حياة صديقه الأمير أبي يحيى، ربما ليس بتكليف مباشر منه، وإنما من شخصية حكومية أخرى. غير أن الجابري يكاد يجزم بأن وفد خصوم ابن رشد القرطبيين لم يحملوا معهم إلى الخليفة في مراكش غير أوراق من هذا الكتاب حين سعوا به إليه، وخصوصا تلك التي تحمل نصوصا يدين فيها الاستبداد والطغاة في بلده وزمنه. ويعتبر الجابري، ونحن معه مع بعض التحفظات، أن السبب الحقيقي وراء نكبة ابن رشد هو هذا الكتاب وما ورد فيه، وليس هو ما تعلق بالزرافة أو الزهرة! لماذا الانقلاب: ما نريد الخروج به بعد هذا الاستعراض للأسباب والأحداث هو أن باحثنا الراحل، وتواصلا مع قناعته الأساسية الرافضة للقمع والاضطهاد الاستبدادي المسلط على المثقفين والمنتجين الفكريين، وبغض النظر عن طبيعة الحكام المستبدين الفكرية والسياسية، سواء كانوا محافظين ظلاميين أو تقدميين متنورين، كشف لنا عن السبب الذي يعتقد أنه الحقيقي لنكبة الفيلسوف ابن رشد. وكشف لنا -في الآن ذاته- عن طبيعة العلاقات وطرق التفكير التي كانت سائدة عهدذاك. صحيح أنه لم يمض حتى النهاية في تحليله، ولكنه فعل ما هو ضروري ومنسجم مع الخطوط العريضة لتفكيره. فالواقع أن تفسير الانقلاب الذي حدث في مواقف الخليفة الموحدي، وتحديدا في علاقته مع ابن رشد، لا يمكن أن يفسر فحسب بالتفسيرات التآمرية الجزئية مهما كانت قوتها، ونحن ممن يعتقدون بأنها، خصوصا تلك المتعلقة بكتاب «الضروري من السياسة»، أدلة قوية ومكينة، وإنما وهذه لُبَّةُ تحفظاتنا سالفة الذكر- ينبغي البحث في طبيعة علاقة الحاكمين بعالم الأفكار أولا، وعلاقتهم بالدين كممارسة يومية ثانيا، والتساؤل بعمق وجدية عن طبيعة «العقلانية» و«التنويرية» التي نلقيها كصفة وواقع على أولئك الحكام المستبدين، وهل يمكن لحاكم كالمأمون العباسي أو المنصور الموحدي أن يحتسب على المساق التنويري والعقلانية وهو يرتكب تلك المظالم والاضطهاد في حق العلماء والفلاسفة والفقهاء، سواء كانوا متفقين معه في القناعات «كابن رشد» أو مختلفين ومخالفين له كابن حنبل؟ كيف يمكن أن نتفحص، وندرس، طبيعة العلاقة بين عقلانية معبر عنها في منظومات فكرية شبة مستقلة الوجود أنطولوجيا، وبين شبكة عادات وتقاليد وممارسات يومية راسخة، ولها قوة تضاهي القوانين تناقض تلك المنظومات الفكرية؟ وإلى أي مدى أفلت منتجو الأفكار العقلانيون من شباك الواقع المحافظ المحيط بالحاكمين الذين ارتبطوا بهم وراحوا ضحية اضطهادهم؟ هذه التساؤلات تقترب، إلى حد بعيد، من جوهر الخلاصات التي ينتهي إليها الجابري في ختام بحثه الخاص بنكبة ابن رشد، فهو يرفض القول بأن ابن رشد قد نال في عهد يعقوب الموحدي الحظوة ذاتها التي نالها في عهد والده وجده، مع أنه الجابري - حاول التوحيد بين مواصفات الأب والابن والجد، لذلك يختم الجابري بحثه بالقول لقد «انعزل ابن رشد فعلا في زمن المنصور وانصرف إلى العمل على مشروعه العلمي الذي كان قد تبلور في ذهنه من خلال الممارسة العلمية كرسالة تصحيح في كافة المجالات، مجال العقيدة ومجال الفلسفة والعلوم، ثم شاء القدر أن يمتد به التصحيح والإصلاح إلى السياسية... (السيرة، ص 70). هجرة الميت والحي: ويبدو أن هذه الكلمات، التي نقتبسها خاتمين بها استعراضنا التحليلي، تنطوي على معنى أعمق من مجرد انعزال الفيلسوف التنويري والعقلاني ابن رشد آنذاك عن الحياة العامة، ليعكف على مشروعه العلمي، بل صار في واقعه التاريخي انعزالا له، ولفكره ولفلسفته العقلانية التنويرية الحرة، وانعزاله حتى عن تاريخنا العربي المعاصر فيما أينع وأثمر مشروعه العلمي في أوربا التي أخذت مراوح النهضة والنور فيها في الدوران، فيما كانت مراوح الدروشة العثمانية والمملوكية تدور عندنا في الاتجاه المعاكس للتاريخ. ولعل نقل جثمانه إلى قرطبة في ما يبدو أنه تطبيق لوصيته - بعد أن كان قد دفن في جبانة تاغزوت بمراكش، يكتسي ظلالا حزينة ومعبرة عن قطيعة لا عن وداع. يروي ابن عربي في «الفتوحات المكية» أنه كان حاضرا عند وداع جثمان ابن رشد فيقول: فلما وضع التابوت الذي فيه جسده على الدابة من جانب، جُعلت تآليفه كتبه ومؤلفاته تعادله من الجانب المقابل... وهكذا اتجه جثمان ابن رشد الميت ومؤلفاته الحية شمالا! انتهى