نستعرض محللين، في هذا النص «التحية» لذكرى المفكر الراحل محمد عابد الجابري، الرؤيةَ التي حكمت تناوله لقضية اضطهاد المثقفين في التراث العربسلامي من قبل الحاكم المستبد أو «المتسلط الأوحد» بمفردات ابن رشد. محاولين الخلوص إلى أن هذه المحن وشبيهاتها في تراثنا العربسلامي وخارجه، إنما تحمل وتؤكد مغزى مهما ضمن مغازٍ عديدة، هو أن التسامح يشكل جوهرا معياريا عضويا ومهما في بنية العقلانية، بل هو مكون أخلاقي مكين في تلك البنية، أو ينبغي أن ينظر إليه كجوهر معياري عضوي ومهم في تلك البنية، في أي تقييم أو تحليل لأي نزعة أو مدرسة أو شخصية مفكرة توصف عادة بالعقلانية. سنحاول هنا استعراض وتحليل نكبة الفقيه والقاضي والفيلسوف العقلاني أبو الوليد محمد بن رشد القرطبي الأندلسي (520ه - 595 ه/ 1126م - 1198م) المعروف اختصارا بالعربية بابن رشد وباللغات اللاتينية ب«أفيروس»، على يد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور في المغرب والأندلس، وسنعتمد مصدرين لهذا الاستعراض هما (المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد/مركز دراسات الوحدة العربية، وسنرمز له عند الاقتباس بكلمة/المثقفون) و(ابن رشد سيرة وفكر/المصْدر السابق، وسنرمز له بكلمة/السيرة). الأب والابن والخلفيات: يصنف الراحلُ الجابري الخليفةَ الموحدي يعقوب المنصور ضمن الخلفاء المثقفين العقلانيين، جامعا إياه بأبيه يوسف بن عبد المؤمن. والواقع أنه لا يمكن لهذا التصنيف أن يكون مكينا ودقيقا، وقد يصح على الخليفة الأب يوسف أو على الجد عبد المؤمن، مؤسس الدولة الموحدية، بالاشتراك مع محمد بن تومرت، تلك الدولة التي أسستها قبيلتان بربريتان أمازيغيتان هما قبيلتا «مصمودة» و«زناتة» في شمال إفريقيا. في عهد الخليفة الموحدي الابن، ظل ابن رشد في منصبيه كقاضٍ وكطبيب خاص للخليفة لفترة لا نعرف عنها الكثير، انتهت بقرار يعقوب المنصور بعزله ونفيه وإحراق كتبه بتهمة الإلحاد إلى بلدة صغيرة في الأندلس اسمها «إليسانة» يسكنها اليهود -لنلحظ دلالة هذا الاختيار- كما نُفي معه عدد آخر من الفضلاء والأعيان. كان ابن رشد قد تجاوز السبعين من العمر حين حلت به تلك النكبة الحكومية، ثم عفا عنه المنصور بعد عدة سنوات وأعاده إلى منصبه، ولكنه ابن رشد - توفي بعد عام واحد قضاه مريضا في مدينة مراكش عن خمسة وسبعين عاما، وتوفي يعقوب المنصور بعده بشهرين، ويعتقد بعض الباحثين أنه مات مبعدا في ما يعني تشكيكا ضمنيا في أمر العفو عنه. يدمج الباحثُ الراحلُ الخليفةَ الابنَ بالأب، ويجعل منهما واحدا من حيث النوع: فكلاهما تنويري ومتفتح وعقلاني يهتم بالفلسفة والعلوم. الخليفة الابن، كان -كما يكتب باحثنا مناقضا ما كتبه في مواضع أخرى كما سنبين- «عالما متمكنا يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وكان يعشق الجدل والمناقشات الفلسفية، ويعقد مجالس خاصة يستمع فيها إلى ابن رشد وشروحه وخصوصا في علاقة الدين بالفلسفة... ولم يكن خاضعا للفقهاء. وكانا هو وأباه قد تأثرا بمذهب الفقيه والفيلسوف ابن حزم، وهو مذهب خصم للمالكي التي كانت سائدة» (المثقفون، ص 122)، إضافة إلى أن المنصور كان يعتمد سياسة ثقافية حكومية منسجمة تماما مع خط تفكير ابن رشد، ولا ننسى أنه حرَّم الاشتغال في ما يسمى «فقه الفروع»، بل أمر بإحراق كتب المذهب المالكي في الفروع، وقصر الاشتغال على الأصول في القرآن والسنة، فكيف نفسر هذا الانقلاب المفاجئ من الخليفة الموحدي ضد ابن رشد؟ يبدو أن السؤال لا يخلو من الاضطراب لأنه مؤسس على مقدمة مشكوك فيها، فالخليفة الابن لم يكن نسخة من أبيه في العقلانية والشغف بالفلسفة والتنوير بل هو لم يمل إلى الفلسفة والعلوم إلا في السنة الأخيرة من حياته، أما قبل ذلك فقد كان مهتما بتشكيل منظمة مسلحة من الطلبة أسماهم «الصالحين المتبتلين» وآثرهم حتى على قبيلته. والجابري يذكر هذه الوقائع التي لا تدعم سؤاله عن الانقلاب المفترض، فهو يقول «وعلى العكس من الثناء العريض الذي خص به صاحب «المعجب» الخليفة أبا يعقوب الأب - فإنه أبدى تحفظا واضحا عندما أخذ يعدد مناقب المنصور»، ويقيمه بالقول: «فقد جرت أموره على قريب من الاستقامة والسداد، حسب ما يقتضيه الزمان والأقاليم). والجابري، رحمه الله، يستنتج مما رواه صاحب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» ما هو أهم من ذلك حين يكتب: «يمكن أن نستخلص نتيجة تفرض نفسها، وهي أن المنصور لم يكن على شيء من الفلسفة وعلومها، وأنه لم يمل إلى تعلمها إلا بعد فوات الأوان، أي في السنة التي توفى فيها» (السيرة، ص60)، ولكن باحثنا لا يمضي إلى الاستنتاج المتسق مع هذه المقدمات فينفي العقلانية والتنويرية عن المنصور. يعقوب يستعيد عبد الله: ومع أن نكبة ابن رشد تظل أخف وطأة، كما أسلفنا، من محنة الشيخ ابن حنبل، ولكن يعقوب المنصور الموحدي سار على نهج عبد الله المأمون العباسي من الناحية التنفيذية، فآلية اشتغال ماكنة القمع الحكومي الاستبدادي متقاربة إلى درجة لافتة حقا. لقد أصدر الخليفة الموحدي -كما سبق أن فعل سلفه العباسي بالضبط- توجيها عاما، أشبه برسالة مفتوحة إلى المسؤولين والعامة يعدد فيها مثالب ابن رشد وزملائه. يتهم المنصور في توجيهه ذاك ضحاياه، بأنهم ألفوا كتبا ما لها من خَلاق، بعيدة عن الشريعة بعد المشرقين، يوهمون بأن العقل ميزانها والحق برهانها، ولكنهم شياطين إنس أخطر على الإسلام والمسلمين من أهل الكتاب وسيوف أهل الصليب دونهم مفلولة. أراد الله فضح عمايتهم فضُبِطَت لهم كتابات مسطورة بالضلال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مُصَرِّح بالإعراض عن الله، لُبِّسَ منها الإيمان بالظلم.. فنبذناهم في الله نبذ النواة وأقصيناهم حيث يقصى السفهاء من الغواة. ثم يحذر يعقوب المنصور العامة والخاصة بقوله: «فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان. ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه... والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم»، (المثقفون، ص 121). من هذا التوجيه، نخرج بالخلاصات التالية التي يوجهها الخليفة إلى ابن رشد ومماثليه، ومنها: - يتظاهر المتهَمُ بالإيمان ويبطن الكفر والإلحاد. - يدعي المتهَمُ القرب من الشريعة الإسلامية وتبني العقلانية، وكل ذلك كذب وادعاء. - خطورة الدور الذي يقوم به المتهَمُ وأمثاله، بل هو أخطر من دور الصليبيين. - العقوبة غير محصورة في المتهم فقط، بل تشمل قراء وحائزي كتبه. أما بخصوص الأسباب المباشرة أو المعلنة لقرار يعقوب المنصور في حق الفيلسوف، فهناك تضارب شديد يصل إلى درجة التناقض والتعاكس الكاملين. فالباحث يعود إلى التراجم والكتب التي أرخت لتلك النكبة فيخرج منها بالخلاصات التالية: - ينقل كتاب «الذيل والتكملة» لابن عبد الله المراكشي، وهو ممن يكنون الاحترام لابن رشد لنظافته الأخلاقية وزهده واستقامته وتواضعه، السبب التالي لنكبته: سعى عدد من وجهاء قرطبة، بدافع من الحسد والمنافسة، إلى التنقيب في مؤلفات ابن رشد، فضبطوا فيها، وبخط يده، ما يفيد ب»الخروج عن سنن الشريعة وإيثاره لحكم الطبيعة»، (المثقفون، ص122). ويفند الجابري هذا الاحتمال والرواية بسهولة على اعتبار أن هذا الرأي يتناقض مع آراء ابن رشد التي كررها في مؤلفاته، والتي خلاصتها أن سنن الطبيعة لا تتناقض مع سنن الله تعالى، بل هي تتكامل معها إن لم تكن هي نفسها. - سبب آخر يسوقه عبد الله المراكشي ويقول فيه: «ويذكر أن من أسباب نكبته هذه، اختصاصه بأبي يحيى والي قرطبة وأخي لخليفة الموحدي»، والمعنى أن ابن رشد كان مختصا -ذا علاقة خاصة قد تعني التحالف- مع والي قرطبة الذي هو أخ للخليفة المنصور، وسنعود إلى هذا السبب فيما بعد. - أما عبد الواحد المراكشي صاحب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» فيقول، بوضوح، إن هناك سببا جليا وآخر خفيا لنكبة ابن رشد.. أما الخفي فهو ما فهم أنه تعريض أبداه ابن رشد لأصل يعقوب الموحدي البربري، حين قال في ذكره لحيوان الزرافة، خلال شرحه لكتاب الحيوان لأرسطوطاليس، إنه شاهد هذا الحيوان عند ملك البربر» (السيرة، ص62)، ويقصد بملك البربر الخليفة يعقوب بن يوسف. أما السبب الجلي فهو أنه حوكم أو حقق معه من قبل الخليفة على كتابة بخطه وجدت في أحد كتبه يقول فيها: «إن الزُهرة هي أحد الآلهة». والجابري يرد ويرفض حكايتي الزرافة والزُهرة لأنهما مما لا يُصدق ويُعقل بحكم ثقافة الخليفة، ومعرفته بأن ما قيل عن الزُهرة هو نقل قام به ابن رشد عن الفلاسفة الإغريق. أما حكاية الزرافة فمردودة أيضا لأن الكتاب الذي ورد فيه وصف هذا الحيوان هو من الكتب القديمة لابن رشد، ومن غير المعقول أن تمر سنون طويلة قبل أن يكتشف الخليفة أو خصوم ابن رشد وجودها. أما ابن أبي أصيبعة فيورد سببا آخر يحاول من خلاله تأكيد تحامل الخليفة على ابن رشد، ومفاده أن هذا الأخير لم يكن يوقر ويحترم الخليفة كثيرا، وكان يخاطبه غالبا بقوله: «إسمع يا أخي! (السيرة، ص61). يتبع...