يختزن المتن التراثي العربي عددا من الأنماط العلائقية بين الحاكم والمثقف/ العالم. أحدها تختزله الحكاية الشهيرة التي وقعت بين أبي جعفر المنصور وعمرو بن عبيد المعتزلي، الذي شارك في الثورة العباسية. إذ حينما تولى أبو جعفر المنصور الحكم استدعى إليه عمرو بن عبيد. فلما أتاه قال له: «أنا أريدك أن تعينني على هذا الأمر وإقامة العدل». فرد عليه ابن عبيد المعزلي «يا أبا جعفر أغلق بابك في وجه الانتهازيين يكون العدل في البلاد قائما بنفسه فلا تحتاجني». فلما خرج عمرو بن عبيد انطلق مسرعا وأبو جعفر المنصور ينظر إليه ويقول: «كلهم يمشي رويدا، كلهم يبغي صيدا غير ابن عبيد». هذه الحكاية التراثية تنمذج لعلاقة خاصة بين المثقف والسلطة. علاقة يكون فيها المثقف مستعصيا، مضادا، خارجا عن فلك السلطة، ومجاهرا بصوته...، فيما تكون السلطة عاجزة عن احتوائه وتدجينه. في هذا المستوى، تنحو آلة الدولة إلى العنف في مواجهة سلطة المثقف. والنموذج الصارخ في هذه الحالة هو محنة ابن حنبل، التي تشبه في بعض جوانبها نكبة ابن رشد. ويرى عابد الجابري في كتابه «المثقفون في الحضارة العربية» أنهما معا محنتان سياسيتان. كتاب الجابري هذا يشكل مساهمة مهمة في خريطة الفكر العربي المعاصر. وأهميته لا تكمن في تناوله علاقة السلطة السياسة بالسلطة الثقافية أو في تجاوزه النظرة التبشيرية للمثفف، بل في بحثه عن مرجعية عربية لمفهوم المثقف تنهض على «التأصيل الثقافي» و«تبيئة المفاهيم». تبيئة مفهوم المثقف في مقدمة كتابه، الذي صدر سنة 6991، يكتب الجابري «حينما بدأت أفكر في الكتابة في موضوع «المثقفون في الحضارة العربية» انتابني شعور بالفراغ... وعندما بدأت أحلل هذا الشعور بالفراغ، وأخذت في تحديد أسبابه، تبين لي أنه راجع إلى كون عبارة «المثقفون في الحضارة العربية» لم تجد في ذهني مرجعية ترتبط بها، بل بقيت مهزوزة لا سند لها، لا ترتبط بشيء معين في الثقافة العربية التي لم تبادر بسرعة إلى إسعافي بجواب». هذا الشعور بالفراغ، دفع عابد الجابري إلى البحث عن «تبيئة» مفهومية للمثقف المعاصر عبر البحث عن «معادل موضوعي» له في الثقافة العربية الإسلامية». محنة ابن حنبل يوضح محمد عابد الجابري أن الخلاف، الذي ظهر في بداية القرن الثالث الهجري حول مسألة خلق القرآن كان بداية التمهيد لظهور طائفة من المثقفين في الحضارة العربية، وكان أحمد بن حنبل نموذجا واضحا لهذه الطائفة، وهو يمثل بالنسبة إلى الجابري الجماعة المثقفة الناقدة، مشيرا إلى أن محنة بن حنبل كانت في طبيعتها محنة سياسية، كما حدث لعدد من العلماء، الذين تعرضوا هم الآخرين للتعذيب على أيدي الحكام. يقول الجابري: «إذا نحن رجعنا إلى تاريخ محن العلماء في الإسلام، فإننا سنجدها ذات أسباب سياسية، وفي الأغلب الأعم منها، فليس هناك في الإسلام من العلماء من تعرض للاضطهاد والمحنة من طرف الحكام من دون أن يكون لذلك سبب سياسي». والسبب السياسي في محنة أحمد بن حنبل يكمن، في رأي الجابري، في تلك العلاقة الصدامية، التي كانت قائمة بين الحاكم والمعارضة، واستغلال الدين فيها (تحريم القول بأن القرآن كلام الله). ملابسات هذا الصراع يحددها الجابري في اصطفاف القضاة والمحدثين في خندق محمد الأمين، الذي كان يصارع أخاه المأمون على الحكم. وحين انتهى الصراع لصالح المأمون، لم يغفر لأهل بغداد وقوفهم ضده، فأغرق المدينة في الفوضى واللاأمن طيلة سنوات. لكن جماعة من المحدثين والفقهاء، في مقدمتهم أحمد بن حنبل، تطوعوا لمواجهة الفوضى والقضاء على بؤر الفساد بالمدينة. موقف استشعر خطورته المأمون، بعدما أصبحت هذه الجماعة تتحكم في العامة، فقام بمواجهتها عبر توظيف سلاح الدين. نكبة ابن رشد في الفصل الأخير من كتابه «المثقفون في الحضارة العربية، ينتقل محمد عابد الجابري للحديث عن نكبة ابن رشد، التي تشبه في مواضع معينة محنة ابن حنبل، وإن كان هناك اختلاف في ظروفهما التاريخية بسبب الحظوة التي كان يتمتع بها ابن رشد في بلاط الخليفة أبي يعقوب الموحدي ومن بعده ابنه المنصور، الذي كان هو الآخر يحتفي به، لكن بعد ثلاث عشرة سنة، سينقلب الخليفة على ابن رشد لتكون ذلك بداية نكبة ابن رشد التي عمرت مدة من الزمن عانى فيها النفي وإحراق كتبه. انقلاب الخليفة الموحدي على ابن رشد يظل لغزا محيرا، بالنسبة إلى الجابري، غياب دوافع سياسية لذلك، وهو ما جعله لا يطمئن لعدد من التفسيرات، التي أوردتها كتب القدماء، فقام بردها ليخلص إلى القول بأن ثمة أسباب سياسية كانت وراء نكبة ابن رشد. السبب الأول، يرجح الجابري أن له علاقة بكتاب «جوامع سياسة أفلاطون»، الذي تحدث فيه ابن رشد عن مزايا الحكم الجماعي وفضله على الحكم الفردي الاستبدادي، إضافة إلى تطرقه إلى تصرفات الحاكم المستبد وسخط العامة عليه. كما أن ابن رشد لم يهد كتابه هذا إلى الخليفة الموحدي، ولم يشر إليه أو يُشِد به، وإنما أهدى كتابه إلى شخص لم يحدده بالاسم. أما السبب الثاني، فيعتقد الجابري أن العلاقة التي كانت قائمة بين ابن رشد وبين أخ الخليفة ابن يحيى، الذي كان واليا على قرطبة، والذي كان يرغب في الحكم، قد تكون سببا أيضا في نكبة ابن رشد. ويبدو أن البعد السياسي في طرح محمد عابد الجابري لمحنتي ابن حنبل و ابن رشد، والذي كان مغيبا في كتابات القدماء، يدفع إلى الواجهة طبيعة العلاقة الصدامية، التي كانت و ما تزال بين السلطة و المثقف. علاقة كانت السلطة فيها تلتجئ إلى العنف في مواجهة المثقف.