الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للبنان في الأسبوع الماضي كسرت حالة الشلل الداخلي السياسي الذي تعيشه لبنان منذ فترة، فلم يفعل أردوغان كما يفعل المسؤولون الدوليون حينما يزورن لبنان، حيث تُجرى اللقاءات داخل الغرف المغلقة وتنتهي بمؤتمر صحفي أو تسريبات، لكن أردوغان شارك مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في لقاء جماهيري حاشد في عكار، رفع خلاله اللبنانيون صور أردوغان، الزعيم التركي، الذي ملأ الفراغ الذي تركته معظم الزعامات العربية لأهم القضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين، حيث وجه عدة رسائل قوية وهامة إلى إسرائيل من على حدودها الشمإلية، كان من أهمها تحذيره إياها من خوض أي مغامرة عسكرية ضد لبنان التي تعهد بأن تركيا لن تقف عاجزة أمام أي حرب تقوم بها إسرائيل ضدها أو ضد غزة، كما أنه اعتبر أن «الخاسر في حال نشوب الحرب لن يكون أهل المنطقة بل مواطني إسرائيل أيضا»، ودعا أردوغان حكومة إسرائيل إلى أن «تتراجع عن أخطائها وتعتذر إلى أبناء المنطقة وتعمل من أجل السلام»، وهذا يعني أن إسرائيل التي تنتشر تقارير مضمونها أنها تعد لحرب، إما ضد لبنان أو غزة، سوف تعيد النظر في حساباتها لأن تركيا، التي كانت من أهم داعمي إسرائيل وسياستها في المنطقة، تحولت ليس إلى التخلي عن دعم إسرائيل وإنما إلى تهديدها، وهذا ما لم تقم به أية دولة عربية منذ أكثر من ثلاثة عقود. كما دعا أردوغان اللبنانيين إلى أن يبقوا موحدين أقوياء. ورغم أن الزعيم التركي حرص على ألا يحمل مشروعات سياسية محددة بخصوص الوضع الداخلي في لبنان حرصا على العلاقات القوية التي تربط لبنان بصانعي القرار الرئيسي في السعودية وسوريا، فإن تلك العلاقات القوية يمكن أن تساعده (أردوغان) على حلحلة الوضع الداخلي المتأزم في لبنان بعدما أصبحت كثير من القرارات والمبادرات العربية ترتبط إلى، حد كبير، بمزاجية الزعماء العرب وصحتهم وليس بخطط استراتيجية تقوم على أبعاد قومية وسياسية، وأصبحت الشعوب تترقب النشرات الطبية والحالة المزاجية لهذا الزعيم أو ذاك في الوقت الذي تخطو فيه دولة مثل تركيا خطوات واثقة تجاه مصالحها ومصالح جيرانها تقوم على صناعة محور في المنطقة يقف في وجه التهديدات التي تتعرض لها بعيدا عن الضغوط التي تمارس من الشرق والغرب. فوزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو -الذي توجه إلى الولاياتالمتحدة يوم السبت الماضي للقاء عدد من المسؤولين الأمريكيين، ثم يكرم كواحد من أهم مائة مفكر في العالم، والذي يعتبر المخطط الرئيسي لسياسة تركيا الخارجية- وضع عدة خطط نجحت تركيا خلال سنوات معدودة في تنفيذ كثير منها، ولاسيما ما يتعلق بعلاقتها بجيرانها، حيث تخطى الأمر حل المشكلات بين كل من تركيا وسوريا على سبيل المثال إلى عقد عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية وغيرها، من بينها فتح الحدود بين تركيا وتلك البلاد، وقد انضمت لبنان ودول أخرى إلى تلك الاتفاقية التي دعيت إليها الحكومة المصرية إلا أنها تتلكأ كالعادة لعدم وجود أية رؤى استراتيجية لدى صناع القرار بها واعتمادهم في القرارات على المزاجية ورد الفعل وتأخرهم عن حماية الأمن القومي للبلاد حتى تصل الأمور إلى الأسوأ كما يحدث مع غزة التي تشارك الحكومة المصرية، للأسف، في حصارها في الوقت الذي تسعى فيه دول مثل تركيا وقطر إلى رفع هذا الحصار الظالم، والأسوأ هو ما حدث للسودان حيث تجري الاستعدادات لعلمية التقسيم منذ عقود واتخذت طريقها الفعلي قبل خمس سنوات، وهذا من أخطر التحديات التي تواجه الأمن القومي المصري، لكن وزير الخارجية المصري خرج علينا بعبقرية النظام الفيدرالي في وقت لم ينصت له فيه أحد، بل استهزأ كثيرون بتلك الفكرة المبتكرة التي جاءت قبل أيام، ومضمونها تنفيذ مخطط يجري الإعداد له منذ سنين، وتعجب كثيرون كيف كانت غائبة عن الدنيا كلها حتى ظهرت في تصريحات الوزير المصري. ولنا أن نقارن بين وزير الخارجية التركي وأدائه ورؤيته وتكريمه كواحد من أهم مائة مفكر في العالم وبين أداء وزير الخارجية المصري. هذا لا يعني أن مصر خالية ممن هم ربما أفضل تفكيرا وأداء من وزير الخارجية التركي، ولكن الأمر يتعلق بالاختيارات والرؤى لمن يحكم، رؤيته للعالم الذي حوله ورؤيته للرجال الذين يختارهم من حوله لإدارة شؤون البلاد والعباد. إن عبقرية أردوغان وسياسته في ملء الفراغ ليست كامنة في قدراته وحده وإنما أيضا في اختياره لمن حوله من الرجال الذين يرتقون بالوضع الداخلي والصورة الخارجية لتركيا في خطوات واثقة ورؤى واضحة تجلب الاحترام العربي والدولي وتصنع هيبة ومكانة للأمة التي يقودها، فيما يتوارى الآخرون ويتخذون النقد والتخويف سياسة ليداروا بها عجزهم وضعفهم، وأنهم لم يصلوا إلى السلطة بخيار الشعب كما وصل أردوغان وإنما اغتصبوها أو زوروا نتائجها، وهذا يجعلهم يحيطون أنفسهم بالمزورين أمثالهم. إن الأمم تنهض بقادتها وزعمائها الذين يبثون العزة والكرامة في نفوس الشعوب ويرتقون بأممهم في كافة المجالات ويملؤون الفراغ الذي يتركه المتهافتون على صناعة الأمجاد الشخصية ونهب خيرات الشعوب. وهذا هو الفارق بين من يصنعون التاريخ ومن يصنعون الأوهام، ومن يملؤون الفراغ ومن يكون وجودهم فراغا في فراغ.