كان دبلوماسيون، في أكثر من مناسبة، «أبطالا» في قضايا شغلت هيئة الاستعلامات. فقد اتهم سفير في إحدى الدول الاسكندينافية في النصف الثامن من ثمانينيات القرن الماضي بإفشاء أسرار الاستعلامات. وقررت المديرية العامة للأمن الخارجي، التي يوجد مقرها الرئيس بالعاصمة باريس، على الفور، اتخاذ التدابير الضرورية لوضع حد لمسيرة هذا الدبلوماسي الثرثار. وبما أن المعلومات المتوفرة عن الدبلوماسي «كثير الكلام» تفيد بأن النساء هي نقطة ضعفه، فقد أرسلت إليه استعلامات بلاده امرأة أفشى لها في ليلة واحدة فقط كثيرا من الأسرار المهنية المحظور إطلاع أي كان عليها من غير المعنيين بها في المقر الرئيس للاستعلامات. ولم تمر إلا أيام قليلة حتى استدعي السفير إلى الإدارة المركزية لوزارة الشؤون الخارجية عقابا له على «ثرثرته». عكس النهاية «المأساوية» لهذا السفير، نجا قنصل سابق في إحدى العواصم الأوربية الإستراتيجية بالنسبة إلى باريس من المصير ذاته بعد تعيينه سفيرا في إحدى الدول الأسيوية سنة 2000. كيف ذلك؟ وقع هذا الدبلوماسي في حب فتاة أسيوية من بلد آخر غير الذي يمثل فيه فرنسا، في أولى حفلات الاستقبال التي حضرها في القارة الأسيوية. وعلى الفور تحركت آلة الاستعلامات محذرة السفير من الفتاة التي تعمل جاسوسة لبلادها، ورغم ورود معطيات جديدة، أكيدة، تفيد بأن هذه الفتاة الجاسوسة تسببت في إنهاء مسار كثير من الدبلوماسيين في عدد من العواصم الأسيوية، فإن السفير أصر على الاستمرار معها، وإن عصف ذلك باستقراره الأسري وأفقده منصبه الدبلوماسي. ظن الجميع بعد صدور قرار استدعاء هذا السفير إلى باريس في مستهل سنة 2003 أن أقدامه لن تطال آسيا مرة ثانية. لكنه كذب كل التوقعات وعين بعد بضعة أشهر فقط سفيرا لفرنسا في البلد الأصلي لعشيقته. لطالما شكل الجواسيس والدبلوماسيون ثنائيا يصعب فك شفراته في السلك الدبلوماسي الفرنسي. فقد ظلت المديرية العامة للأمن الخارجي تحت إدارة دبلوماسيين مرموقين طيلة عشر سنوات، كانت البداية مع جون كلود كوسيران الذي ترأس هذه المديرية من مارس 2000 إلى يوليوز 2002 قبل أن يسلم المشعل إلى دبلوماسي آخر هو بيير بروشوند الذي استمر في هذا المنصب إلى أكتوبر 2008. وسيخلف برنار باجولي، بروشوند، على رأس المديرية العامة للأمن الخارجي بمهمة رئيسية تتمثل أساسا في التنسيق بين مختلف أجهزة الاستعلامات في أفق توحيد جزئي لمصالح الاستعلامات العامة وإدارة مراقبة التراب بإدماجها جميعها بالإدارة المركزية الجديدة للاستعلامات الداخلية، ويصبح بذلك باجولي بعد ذلك منسقا وطنيا للاستعلامات. ويولى باجولي بحكم هذا المنصب إعداد تقارير خاصة تسلم لرئيس الجمهورية عبر الكاتب العام للإليزي، كلود جيان، بصفته الرئيس المباشر لباجولي. وكان هذا الأخير لا يكشف ما يتوفر لديه من معلومات إلا للرئيس ساركوزي أو جيان. ولبلوغ هذه الأهداف، أقر باجولي خارطة طريق قال عنها أمام الجمعية العمومي في يناير 2010: «إننا نسعى إلى خلق هيئة استعلامات حقيقية.. نعقد اجتماعات شهرية يحضرها كبار مسؤولي الاستعلامات، الذين انقسموا منذ أولى الاجتماعات إلى بضع لجن تتولى كل واحدة منها إنجاز مهمة محددة، بهدف توحيد مجهودات مختلف مصالح الاستخبارات وتسهيل تداول المعلومات وتبادلها فيما بينها. هذه أولوياتنا لأننا لن نسامح أحدا، أيا كان، إذا لم نستطع الرد في الوقت المناسب على عمل إرهابي أو أحداث عنف بسبب سوء التنسيق بين مختلف المصالح والأقسام». استطاع باجولي أن يحقق نسبة كبيرة من الأهداف التي سطرها، وظل يقدم على أنه العقل المدبر لكل خطط الاستعلامات الفرنسية، إلى حين تعيينه سفيرا لبلاده لدى الجزائر في 14 يوليوز 2008 بمناسبة العيد الوطني لفرنسا. وقبل أن يتوجه إلى العاصمة الجزائر، ألقى خطابا أبان فيه عن حس نقدي كبير، حيث لم يتردد في القول إن: «العيد الوطني لبلادنا فرصة لنا لطرح سؤال وجيه هو: كيف فقدت فرنسا خلال مائة واثنتين وثلاثين سنة التي احتلت فيها الجزائر جزءا كبيرا من القيم المؤسسة للجمهورية الفرنسية من حرية ومساواة وإخاء التي أشاعتها الثورة الفرنسية طيلة قرنين من الزمن». لا شك أنه تمتع بثقة كبيرة في النفس ليقول كلاما من هذا القبيل في ذكرى يحتفل فيها الفرنسيون بإنجازات ثورتهم. يجمع كل موظفي الخارجية الفرنسية الذين أتيحت لهم فرصة العمل مع باجولي أنه صارم جدا في العمل، لا يتقبل تفريطا ولا تهاونا ويحب أن تنجز كل المهام بدقة متناهية وفي الآجال المحددة لها دونما تأخير، كما أنه امتلك من المؤهلات والكفاءات ما يضمن له النجاح في المهام التي تسند إليه. كان باجولي أيضا معروفا بإتقانه لغات عديدة، وهي ميزة كبيرة في مجال الاستعلامات، حتى إنه كان يتقن اللغتين البوسنية والسلافية. وحدث مرة، أن استقبل وزير الشؤون الخارجية والأوربية وفدا رفيع المستوى من البوسنة، فقدمت لهم على مائدة العشاء أكلة معدة بلحم الخنزير، فكان أن أمر باجولي بسحب هذه الأكلة حاسما في تجنيب «الكي دورساي» الوقوع في موقف حرج بالنظر إلى أن المسلمين لا يأكلون لحم الخنزير. ماضي باجولي على رأس الاستعلامات كان له أثر كبير على أدائه الدبلوماسي على رأس سفارتي باريس في كل من الجزائر والعاصمة البوسنية سراييفو. ففي الوقت الذي كان وفد من طلبة الصحافة في فرنسا يقومون بزيارة إلى البوسنة والهرسك لإنجاز ملفات خاصة عن هذا البلد بعد ست سنوات عن حرب البلقان، ضبطت مصالح الأمن في حقيبة الظهر الخاصة بأحد الطلبة، وكان نسيها في قاعة اجتماعات، وثائق في غاية السرية عن الأوضاع العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البوسنة والهرسك، ومرة أخرى، كان تدخل باجولي، مستعينا بماضيه الاستخباراتي، حاسما في طي هذه الصفحة وإعادة الحقيبة إلى صاحبها دون أن يثير ذلك أي أزمة بين باريس وسراييفو.