نادرا ما التقطت الكاميرا صورة للوزير عبد الله غرنيط وهو لا يرتدي الجلباب المغربي، فقد كان إلى جانب الحاج محمد اباحنيني ومولاي أحمد العلوي والعلامة محمد الفاسي يحرصون دائما على ارتداء اللباس التقليدي المغربي. وصادف أن الوزير المحجوبي أحرضان كان بدوره يضع جلبابا فوق البذلة العصرية، حين يضطر إلى حضور حفل رسمي أجنبي. مرة سأل الملك الراحل الحسن الثاني وزير الصناعة التقليدية عبد الله غرنيط لماذا يحرص دائما على ارتداء الجلباب، فكان جوابه أنه لا يمكن أن يخاطب الصناع التقليديين ويحضهم على استخدام مهاراتهم في أنواع الإبداع الحرفي وهو يرتدي ربطة عنق، فقد كان يعتبر اللباس مظهرا حضاريا وسياسيا كذلك. ومن وقتها، أعاد الملك الحسن الثاني تزيين دولاب ملابسه بشتى الجلابيب المغربية، ثم أبدع في اختيار ألوانها. فقد فتح عينيه على عالم كان الرجال فيه يرتدون «القفاطين» ذات الألوان الداكنة، فيما ذهب المحجوبي أحرضان إلى استخدام الخنجر كزينة للرجال، وأبدع بدوره في تغيير أنواع الخناجر، رابطا إياها بتقاليد عريقة، يكاد من خلالها يعرف انتساب الرجال إلى القبائل والمناطق. غير أن الملك الحسن الثاني، الذي لم يفته يوما التأكيد أن رفيقه وأستاذه في الرياضيات، المهدي بن بركة، كان يجادله في اختيار ملابسه كي يبدو أكثر أناقة، وزاد على ذلك بأن حول لباسه إلى رموز سياسية تختلف حين يكون بصدد تدشين سد أو رئاسة مجلس وزاري أو استقبال شخصية أجنبية، بل إنه اختار، لدى الإعلان عن انطلاق المسيرة الخضراء، أن يرتدي الجلباب والطربوش، ويتحدث عبر ميكروفون عتيق عن الذاكرة الشعبية بالإيحاءات الوطنية. ثلاثة أو أربعة أشخاص من رفاق الدراسة في المعهد المولوي، سيختارهم الملك الحسن الثاني لاحقا أن يكونوا وزراء، كان عبد الله غرنيط واحدا منهم، فيما وقع الاختيار على عبد الحفيظ القادري وزيرا للشبيبة والرياضة، وكذلك حال مولاي سلامة بن زيدان، بينما تدرج الجنرال عبد الحق القادري بين مسؤوليات أمنية وعسكرية رفيعة المستوى. إلا أن زمالة الدراسة لم تكن وحدها مرجعا، فقد عرف هؤلاء الأشخاص بكفاءات مشهود بها، كل في ميدانه واختصاصه. وحين دقت ساعة الفراق، لم يأبه أحد بمضاعفاتها، فقد احتفظ الرفاق بصداقاتهم التي لم تفسد مودة، وتوزعت بهم السبل، وإن كانت نهاية الوزير عبد الله غرنيط، وهو يرقد الآن في غرفة صغيرة في مراكش، لا تكاد توازي أيا من طموحاته في أن يكون له الاعتبار المعنوي الذي يستحقه. لكنها الأقدار تفرق بين الناس والطرقات والمصائر. في الفترة التي عين فيها عبد الهادي بوطالب وزيرا للأنباء والشبيبة والرياضة في يناير 1963، ضمن حكومة ترأسها الملك الحسن الثاني، وأسندت فيها مهمة الممثل الشخصي للملك إلى الحاج أحمد بلافريج، وقع الاختيار على عبد الله غرنيط مديرا عاما للإذاعة والتلفزيون. كان الاختيار في حد ذاته يشير إلى أهمية المنصب، بالنظر إلى مضاعفات الأوضاع السياسية، وكان التلفزيون يبث بالأبيض والأسود، إلا أن تأثيره كان كبيرا في تلك المرحلة. استطاع غرنيط، الذي كان ينظر إليه كواحد من الكفاءات التي تجمع بين الثقافة العصرية والانفتاح، إلى جانب ميولاته التقليدية المحافظة، أن يضع بصماته على التجربة، وبالرغم من أنه كان رجل ميدان بامتياز، فقد حرص خلال مروره بهذا المنصب على إدارة الملفات الإدارية والسياسية، لكنه لم يفلح في بلورة معالم النظام الأساسي لموظفي الإذاعة والتلفزيون، الذي تطلب سنوات من النقاش. في أبريل 1972، عين عبد الله غرنيط كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلفا بالإنعاش الوطني والتعاون الوطني والصناعة التقليدية، وكانت تلك بداية تمرسه في القطاع الاجتماعي. فقد كانت قد انفجرت أوضاع وجرت محاكمات حول متورطين في استخدام الإنعاش الوطني لأهداف انتخابية، وجاء اختيار غرنيط ليضع حدا لذلك التسيب. إلا أن الرجل بدوره لم يكن بعيدا عن دعم أحزاب معينة وتيارات معينة في لعبة الصراع السياسي، التي اتخذت من المرشحين المستقلين الموالين للإدارة حصان طروادة. في غضون ذلك، جرى تعيين عبد الله الفاسي الفهري كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلفا بالاقتصاد التعاوني، فقد بدأت فكرة إحداث التعاونيات تتبلور، وأسندت رعاية القطاع إلى الوزير الأول، في سياق إضافة التخطيط والتنمية الجهوية إلى اختصاصاته التي انضاف إليها ميدان تكوين الأطر، وتم في هذا السياق تعيين الطيب بن الشيخ كاتب دولة في التخطيط في أبريل 1974. في أكتوبر 1977، رقي عبد الله غرنيط إلى درجة وزير وأسند له قطاع الشؤون الاجتماعية والصناعة التقليدية، وشكل ذلك تحولا في التعاطي مع ملف الصناعة التقليدية. وفيما كان خصوم غرنيط يعيبون عليه أنه كان ينفخ في أرقام صادرات ومداخيل الصناعة التقليدية، إلى درجة أنه كان يعتبر ذلك مبررا بدافع تشجيع الصناع التقليديين، فقد كان ينحو في اتجاه تحويل القطاع إلى واحد من الميادين التي تحظى بالأسبقية، كان يردد في جلساته الخاصة أن الرهان على الفلاحة ينصرف إلى الاهتمام بالعالم القروي، ولابد أن يوازيه اهتمام آخر بالحرفيين، الذين سيشكلون فئات حيوية وهامة في المدن. ستكون له تجارب لافتة في هذا المضمار، أقربها النزوع إلى إحداث مركبات من الصناعة التقليدية في كثير من المدن المغربية. فقد كان يرى أن إخراج الصناعة التقليدية من محيطها في الأحياء التقليدية نحو مجمعات تجارية يساعد على الترويج لها وتسويقها، وارتبطت الفكرة بإحداث معارض دولية لقطاع الصناعة التقليدية في الخارج. فقد كان يدفع في اتجاه المنتوجات الحرفية حاضرة في كل التظاهرات الثقافية التي ينظمها المغرب في الخارج، وكان يستقطب الكفاءات للتبشير بهذه الرؤية، بهدف غزو الأسواق الأجنبية. يوم غنى المطرب عبد الوهاب الدكالي عن الزربية المغربية كاد عبد الله غرنيط أن يطير من شدة الفرح، وردد في جلسة خاصة بأن الزربية أصبحت مرادفة للإبداع الفني، ويجب أن تكون كذلك عنوان حضارة مغربية راسخة. اجتمع رفيقا الدراسة، عبد الله غرنيط وعبد الحفيظ القادري، في حكومتين على الأقل. وفيما كان القادري، القادم من جريدة «لوبينيون»، التي بنت بعض أمجادها على الصفحات الرياضية، يعمل من أجل أن يصبح لذلك القطاع حضورا أكبر في كافة الميادين الرياضية، كان غرنيط القادم بدوره من عالم الإعلام الرسمي في الإذاعة والتلفزة، يريد للصناعة التقليدية أن تعكس الوجه الحضاري للبلاد، دون إغفال الدور المؤثر لفئات الصناع التقليديين في الممارسات السياسية. سيتوارى غرنيط إلى الخلف، منشغلا بعالمه الخاص. فقد اقتضت تطورات سياسية أن يبتعد عن واجهة الأضواء. كان أكثر حماسا في فترة سابقة لجمع شتات المرشحين المستقلين، وكان إلى جانب مولاي أحمد العلوي يتوق للعب دور سياسي، لولا أنه فقد من خلال إبعاده عن وزارة الصناعة التقليدية، التي أسندت إلى الوزير الاستقلالي عباس الفاسي، دعما معنويا. والظاهر أن التطورات السياسية، التي كان يستبقها في كل مرة، فاجأته أخيرا. فلم يجد نفسه لا في صفوف الأحرار الذين أسسوا حزبا استطاع أن يفرض وجوه بفعل التكرار والواقعية، ولا من بين الشخصيات المستقلة، التي كانت تطعم حكومات متعاقبة. في آخر جلسة له ضمته إلى جانب نشطاء من المجتمع المدني في مدينة الرباط، بدا عبد الله غرنيط أكثر تأثرا. فقد اضطر إلى مغادرة العاصمة للإقامة في مراكش، وحين طلب إليه كراء فيلته في طريق زعير، أصر على ألا يفعل ذلك إلا لفائدة أعمال اجتماعية، فرسا عقد الكراء على إحدى تنظيمات المجتمع المدني. في ذلك اللقاء، تحدث غرنيط عن التنمية والعمل الاجتماعي والإنعاش الوطني، وردد كلاما يفيد بأنه قبل أن تصبح هذه المفاهيم سائدة وتفرض نفسها. حاول من خلال قطاع التعاون الوطني أن يقدم نموذجا، ولو أنه كان محتشما عن الدور الذي يمكن أن يضطلع به المجتمع المدني في التنمية، التي تتوخى البحث عن مداخيل لفائدة الفئات المهمشة. هل نجح في ذلك أم لا، يصعب الجزم، طالما أن استقراء الأحداث والمعطيات يجب ربطه دائما بتوقيتها وظروفها. فقد كانت له نظرة متقدمة، ولم تعوزه الوسائل بقدر ما أوعزته تداعيات صراعات سياسية، اختار في غضونها الانحياز إلى ما كان يعتبره صوابا. غير أن مقربين إليه يتذكرون جيدا أنه في ضوء حرصه على التقيد بالإجراءات الإدارية، كان يميل إلى نوع من الفوضى، فلم يكن يمانع في توظيف كل من يعترض طريقه بحثا عن عمل، وكان يصارع في هذا الاتجاه ضد ديناصورات الإدارة المركزية المالية ومناصب التشغيل. تذكر محمد المحجوبي، كاتب الدولة السابق في الإعلام، يوما، إبان اندلاع المواجهات حول الصحراء في كواليس الأممالمتحدة، أن له صديقا اسمه عبد الله غرنيط، وحين كان يعجز عن الوفاء ببعض التعهدات، كان غرنيط يوصي بالتوجه إلى معارض الصناعة التقليدية، فقد حول القطاع إلى وسيلة موازية للدبلوماسية، وكان أول شيء تبادر إلى ذهنه إبان تلك المرحلة هو إقامة معرض خاص بالزربية المغربية، حرص أن يضم نماذج من الصناعة التقليدية في الساقية الحمراء ووادي الذهب. في سياق متصل، واجه أحد المسؤولين الأمريكيين بالقول وهو يدافع عن مغربية الصحراء: «ألا ترى أن الزربية الصحراوية لا تختلف عن الزربية الرباطية في الأشكال والألوان». وفهم ذلك الدبلوماسي الأمريكي أن ما من شيء يمكن تغييره أو استبداله إلا بمعطيات التاريخ، التي تعتبر الصناعة التقليدية واحدة من واجهاتها الحضارية.