من يراه في شكله وهيئته وهندامه ويستمع للكنته، يستبعد أن الرجل رومانسي إلى حد النخاع، ورومانسيته مستشفة من جبال الأطلس بخرافاتها وأساطيرها، من يدري فقد يكون لديه اعتقاد عميق بأن الكهوف التي تسكن جبال الأطلس لا تزال تختزن صدى صرخته الأولى التي أعلنت عن ميلاده في قبيلة الزبا بوالماس سنة 1921، فتارة يرمي بنفسه في عمق الحلم دونما حاجة إلى طوق نجاة، وتارة أخرى يعيش ذكرياته المختزنة في دواخله، فقد رفض أن يكبر أو يشيخ، فاهتدى للرحيل إلى حيث لا يدركه الليل ولا تلحقه الشيخوخة، حيث طاف إلى جانب العديد من رموز الفن المغربي أمثال فريد بلكاهية، الراحل محمد القاسمي، الراحلة الشعيبية، بنيسف المليحي، وآخرون، في تجربة عبر كثير من العوالم والمدارس الفنية ليستفرد بأسلوب خاص في مداعبة الريشة ومزج الألوان، فقد عرض صاحب الجذور الأمازيغية الذي فقد شعره في سن مبكرة، في معظم عواصم العالم، ليكتشف في آخر المطاف أنه فنان عصامي، احترف السياسة والفن. فرغم أنه يحرص في مناسبات عدة على لباس الجلباب التقليدي الذي لا يتعدى الساقين، إلا أن طفولته تحرض شغبها لمعاركة كهولته، لذا فكثيرا ما تساءل المتتبعون عن مدى قدرة عميد السياسيين بالمغرب على الاستمرار في قيادة حزبه. انخرط المحجوبي أحرضان خلال أولى نشاطاته في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ليصبح في وقت وجيز عضوا في المجلس الوطني للمقاومة، ثم مسؤولا في جيش التحرير، أغلب الصور المعتقلة في ألبوماته والتي يخضعها للحراسة الشديدة لحساسيتها، تبرزه إلى جانب الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، مرة يمشي بأنفة إلى جانبهما، ومرات أخرى تقتنصه عدسات الكاميرات في وضع الخادم الأمين خلف الحسن الثاني، غير أن صورته التي تبرزه بمسدسه على طريقة "المافيا" الإيطالية رفقة عبد الكريم الخطيب الذي يتأبط بندقيته خلف الراحل الحسن الثاني، بزيه العسكري، ترسم لوحة انطباعية على أن الرجل (أحرضان) كان مقربا من دائرة الحكم. رفقة عبد الكريم الخطيب، استطاع المحجوبي أحرضان أن يؤسس لتجربة حزبية جديدة بالمغرب، في إطار سياسي لا يخلو بالدرجة الأولى من السعي إلى منافسة حزب الاستقلال الذي استطاع الهيمنة على النخبة والشارع بالمغرب آنذاك، ليتمكنا في الأخير (أحرضان الخطيب) من تأسيس حزب "الحركة الشعبية" الذي حصل على الاعتراف القانوني في فبراير 1959. إلا أن الخلاف حول الزعامة بينهما تفجر سنة 1966 لتنقسم الحركة إلى حركتين، كل منهما يدير قطب رحاها كيفما يشاء، استفرد أحرضان بقيادة الحركة الشعبية، فيما أخوه في السياسة شكل حركة أخرى (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية) سنة 1967. قيل إن أحرضان أو الشخصية السياسية المثيرة للجدل كان ضابط صف في الجيش الفرنسي، غير أن أحمد البخاري وصفه بمحدود التعليم، فهو حسب قوله لم يحصل في حياته إلا على "دبلوم" واحد، هو عبارة عن شهادة الدروس الابتدائية في سن الثامنة عشرة، إلا أن تجربته وخبرته قادتاه إلى تحمل مسؤوليات جسام في سن مبكرة، فقد عينه الراحل محمد الخامس سنة 1956، عاملا على مدينة الرباط، كما شغل منصب قائد منطقة أولماس، غير أن سنة 1961 شهدت ذروة مسار أحرضان الذي سطع نجمه بتعيينه وزير الدفاع الوطني، بعد ذلك بسنتين سينشئ قيدوم السياسيين بالمغرب جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، ثم عرّج إلى اتجاه آخر حين عينه الراحل الحسن الثاني وزيرا للفلاحة. هكذا حين تغوص في سيرة الرجل، تخاله مثقلا متثاقلا، بالكاد يحسب خطواته، أوقد ترتسم لديك صورة عنه وهو يحمل حقائب مختلفة الأحجام والأوزان، حيث تكلف بحقيبة الدفاع والفلاحة والتعاون، لكنه ارتبط كثيرا بحقيبة البريد، أما خلال قيادته الحزبية، فقد اختار للتميز شعار الدفاع عن الهوية والثقافة الأمازيغيتين، لكنه حسب العديد من الملاحظين، ظل هذا الخيار مجرد شعار فقط، ذلك أن النشطاء الأمازيغيين يؤاخذون على المحجوبي أحرضان تسييسه للقضية الأمازيغية لجني مكاسب انتخابية ليس إلا. ولا ينفي أحد أن أحرضان أمازيغي المنبت والهوية والثقافة، وتجلى ذلك من خلال عناوين لوحاته التي رفعته إلى مستوى العالمية، فقد سمى بعضها ب "تافسوت" "تافوس"، "تاغزوت"، "أكراو نفسا" "فلوحة أكلمان"، " أمناري نورجس"، "أفري تهيرا"، " أفراو نتوكا"، تايورت"، وأخريات جعلت النقاد العالميين يصنفون أعماله ضمن مدارس واتجاهات مختلفة، لقد كانت له سلطة واسعة في التحكم في اللون والضوء والزوايا داخل إطار لوحاته ذات الاتجاه الفطري، وهي السلطة التي امتدت لتحتكر الحزب (الحركة الشعبية)، فقد صعد إلى هرمه وتربع في برجه العاجي وأصبح يراقب الأشياء عن بعد، فهو الذي يترأس المؤتمرات والمجالس الوطنية وأمين المال، والمتحدث والمفاوض باسم الحزب وممثله لدى السلطات، غير أن هذا الاحتكار ولّد صراعات داخل دائرة حزبه ليتعرض لوابل من الانتقادات من الذين اعتبرهم دائما أبناءه البررة، لينعتهم ب "المسخوطين"، فأبعد الكثير من رواد "الحركة" إلى أن بلغ سيل أحرضان الزبا حسب تعبير بعضهم، ليتم في الأخير إبعاده سنة 1986 من "الحركة الشعبية"، ليقود سفينتها بعده امحند العنصر ومن معه، إذن أجبر المحجوبي أحرضان على مغادرة الحزب، منهم من قال إن السبب يرجع إلى هيمنته الأخطبوطية على قرارات الحركة، ومنهم من قال إن السبب راجع لالتقائه في منتصف الثمانينيات بدانييل زوجة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، التي صرحت في أكثر من مناسبة بدعمها لجبهة البوليساريو، إذ كانت الصدمة قوية في نفسية أحرضان، جعلته يطلق العمل السياسي ليختفي عن الأنظار، لكن الراحل الحسن الثاني سمح له بالعودة لممارسة هوايته (السياسية)، حيث أسس حزبا جديدا سنة 1991 (الحركة الوطنية الشعبية) بمدينة مراكش، إلا أنه بحنكته وتجربته الطويلتين استطاع أن يجلب إليه إضافة إلى الموالين، مجموعة من العناصر التي خاب ظنها في أسلوب "العنصر" خلال إدارته لشؤون حزبه (الحركة الشعبية). قيل إن أحرضان لما تم إبعاده سنة 1986، هدد باللجوء إلى القضاء لاسترجاع كرسيه "المسروق"، إلا أنه سرعان ما تنازل عن دعوته، خصوصا لما استقبل الراحل الحسن الثاني القيادة الجديدة للحركة الشعبية تحت زعامة الشاب امحند العنصر، مما أضفى نوعا من الشرعية عليها. أحرضان الذي يبحر الآن في عقده الثامن، لعب الزمن بملامحه وفرائصه فصار نحيل الجسم، غائر العينين، فلم يعد يقوى على التحكم في حركات يديه، ويبدو أنه فقد ما تبقى من شعره ثم كلما تحدث إلا ومالت شفته السفلى ناحية الشمال، فرغم أنه تغير كليا على أحرضان "زمان"، إلا أن ابتسامته لا زالت تختزن " سره"، وإن كان قصير القامة، لا يفارق جلبابه وعمامته، مما يضفي عليه طابع الأمازيغي القح، أو "أمغار الأطلس" كما يحلو للبعض أن يلقبه، لكنه حين يرتدي بذلته الرسمية يبدو إنسانا آخر يفيض شبابا وحيوية، فكما أنه يتحكم في أشياء عديدة، إلا أن اللغة العربية تخونه، فيجد نفسه منطلقا بلغته الأم (أمازيغية الأطلس المتوسط)، لكن السؤال الذي يطرحه البعض، هل يجيد أحرضان الكتابة بحروف "التيفناغ" الضاربة في عمق الزمن، وهو بالمقابل يجيد اللغة الفرنسية، وله تعابير ومصطلحات شهيرة تروج في الأوساط السياسية. محبوه وأتباعه يرون في الرجل الذي تجاوز الثمانينات، السياسي المحنك الذي جايل كبار الشخصيات السياسية بالمغرب، والفنان الذي رسم لنفسه صورة أخرى غير التي تتداولها وسائل الإعلام، والموحد الذي جمع شمل الحركات (الحركة الشعبية، الحركة الوطنية الشعبية، الاتحاد الوطني) في شكل اتحاد للحركات الشعبية، صارم حين يجد نفسه في وضعية الهجوم، ومراوغ حين يضطر للدفاع عن توجهاته الفكرية والسياسية. أما خصومه ومنتقدوه فيرون فيه صورة رجل عرف من أين تؤكل الكتف، والأمازيغي الذي امتطى صهوة "الأمازيغية؟ في مشهد "فنتاستيكي" لتسييسها ونيل مكاسبها، ومنهم من يرى في المحجوبي الذي أضفى على رسوماته "ألوان "أحرضانية" أن يتفرغ لها (لوحاته) تاركا السياسة للسياسيين والزعامة للزعماء. ومنهم من خاب ظنهم فيه اعتبارا لرمزيته حين تم التفويت له ب 300 هكتار من أراضي صوديا بوالماس، أو "الأوداية بالرباط" القريبة من "فيلته،" أما البعض منهم فيستبعد كليا أن يقود شيخ السياسيين الحكومة المنبثقة من استحقاقات 2007. ومع كل هذا وذاك فإن المحجوبي أحرضان، أو أمغار الأطلس، الذي يجعل حصان الفن يصهل في لوحاته، يبقى إحدى الواجهات اللامعة في المشهد الفني بالمغرب، غير أن عالم الفن يختلف عن عالم السياسة، فمن المفترض، بل من الأكيد أن يعتزل العمل السياسي ويتفرغ لمذكراته التي مما لا شك أنها ستؤرخ لمرحلة هامة في تاريخ المغرب، إلا أن المخاض الذي تعيشه الحركتان داخل "الحركة" يضع أحرضان في الواجهة، داخل دائرة الضوء، وإن كان هناك من يسعى لإزاحته منها، خصوصا بعدما فقد كثيرا من شعبيته المعهودة وعدد أصواته، لا سيما نظرة الشبيبة الحركية له، التي ترى فيه"امتداد المخزن القديم"، وبالتالي لم يعد يستطيع أن يقود سفينة حزب سياسي له توجهات والتزامات مرحلية في بحر "عهد جديد". أسبوعية المشعل المغربية [email protected]