لم يعرف سكان حي «باب فتوح» بمدينة فاس العتيقة رجلا أشهر من محمد الغزاوي،. إذ منذ استقلال المغرب كانت الحافلات الوحيدة، تقريبا، التي تنقل المسافرين إلى تاونات وغفساي وعين عيشة، ويمتطيها القرويون للنزوح إلى فاس، هي تلك التي تنعت ب «كيران الغزاوي». فقد اهتم رجل الأعمال المغربي محمد الغزاوي، منذ ذلك الوقت، بإقامة أسطول نقل عرف باسمه، وكانت رخص النقل تكاد تكون حكرا على عائلات وأسماء دون غيرها. بعض تلك الأسر ارتبطت بحركة المقاومة، وكانت تدعمها بالمال، وبعضها الآخر أقام تحالفات وصلات مع الاستعمار الفرنسي، غير أن الغزاوي، الذي يتصاهر مع عائلة بنهيمة، سيكون واحدا من الرجال الذين حافظوا على علاقات وطيدة مع فصائل الحركة الوطنية، وتحديدا حزب الاستقلال، الذي يعتبر واحدا من أبرز قيادييه في تلك الفترة. بينما كانت تلك الحافلات تقطع المسافات التي يفصلها عن بعضها البعض نهر سبو، قبل أن يعجب الملك فهد بن عبد العزيز بجمال طبيعة المنطقة، ويقيم بها قصرا فخما، كان الغزاوي يقطع مسافات أطول على طريق استتباب الأمن في البلاد، فقد صادف تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني فترة مخاض عسير، تخللتها اضطرابات وصراعات حزبية استخدمت فيها كل وسائل البطش بالخصوم الحزبيين، الذين تناحروا سرا وعلنا، من أجل الاستفراد بالسلطة والوجود النافذ. بتزامن مع اعتراف فرنسا باستقلال المغرب، وبدء بسط نفوذ الدولة على القطاعات التي كانت تديرها فرنسا خلال فترة الحماية، بما فيها الأمن والجيش والقضاء والإدارة، سيبادر المغرب في الرابع عشر من ماي 1956 إلى تأسيس القوات المسلحة الملكية، التي ضمت الضباط المتخرجين من المدارس الفرنسية وأعدادا من الأشخاص الذين عملوا إلى جانب الحلفاء، إضافة إلى الأفواج الأولى للمتطوعين المغاربة، الذين اختاروا الجندية. بيد أن المهمة الأصعب، التي سيتولاها محمد الغزاوي بصفته مديرا عاما للأمن الوطني، الذي تأسس في السادس عشر من نفس الشهر، ستكمن في الإكراهات القوية التي رافقت دمج أعضاء من المقاومة وجيش التحرير في قطاع الأمن النظامي، وساعده في ذلك أن الوزير الاستقلالي القوي إدريس المحمدي، الذي عين وزيرا للداخلية في الحكومة الثانية لرئيس الوزراء مبارك البكاي الهبيل كان يدعمه في هذا الاتجاه، ذلك أن الحزب الاستقلالي، الذي كان يضم وقتذاك شخصيات متنفذة أمثال المهدي بن بركة وعلال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وأحمد بلافريج وعمر بن عبد الجليل وعبد الله إبراهيم وغيرهم، لم يكن ينظر بارتياح إلى وجود القائد الحسن اليوسي وزيرا للداخلية في الحكومة الأولى، بينما ارتدى مرور مسعود الشيكر، الذي كان قد تصاهر مع أحمد الدليمي، طابعا انتقاليا عادت بعده أم الوزارات، كما سيطلق عليها لاحقا، إلى الوزير المحمدي. ستتأكد هذه المخاوف لاحقا، على خلفية تورط القائد اليوسفي في تمرد عامل تافيلالت عدي وبيهي، وسيأتي الرد حاسما من خلال إقالته من مسؤولياته الاعتبارية كمستشار للعرش، وسيتزامن مع اعتقال كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان، في وقت كانت فيه حكومة الحاج أحمد بلافريج بصدد طرق الباب المسدود. ومن المفارقات أن أحرضان والخطيب كانا من داعمي محمد الغزاوي في إدارة الأمن، وكانا ينبهانه إلى ضرورة الفصل بين الانتماء الحزبي وتكريس الأمن، في ظرفية تجاذبها المزيد من صراعات القوة والنفوذ. لكن أكثر ما سيعاب على الفترة أن جهات سياسية أصبح لها ميليشياتها، وأحيانا محاكمها للاقتصاص من منافسيها خارج القانون. فالسلاح كان متداولا والقناعات باحتكار النفوذ كانت قوية، ووجدت المجال خصبا لتصريفها عبر أعمال العنف والتصفيات الجسدية. لكن تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كان يفترض أن تؤرخ بدقة لمعطيات هذه المرحلة، مرت على ذلك مرور الكرام، أو أنها، في أفضل تقدير، لم تجد ما يكفي من الدلائل لإثباتها بنفس الحدة التي مورست بها، كما تدل على ذلك وقائع دار بريشة سيئة الذكر. عندما كان القرويون البسطاء يتزاحمون لحجز مقاعد على متن حافلات نقل الغزاوي في مدينة فاس، كان الرجل، الذي عرف بثرائه، يمارس هوايته المفضلة في اقتناء السيارات الفارهة في تلك المرحلة. وقد استطاع عن طريق تجارة السيارات كسب مودة الكثيرين، بل إن إقامته في الرباط كانت لا تخلو من وجود نماذج لسيارات فارهة تسيل لعاب هواة ركوب السيارات النادرة. وفيما كانت أعداد أثرياء المغرب في خمسينيات القرن الماضي تحسب على رؤوس الأصابع، كان محمد الغزاوي قد صنع لنفسه اسما ضمن قوائمها التي تذكر في المنتديات السياسية. غير أنه خلال عمله مديرا عاما للأمن، كان يغدق على العاملين، الذين كانت أعدادهم غير كبيرة، بل ثمة من ذهب إلى أنه تعمد بأن يؤدي بعض الرواتب من ماله الخاص بدل خزينة الدولة، خصوصا في السنوات الأولى للاستقلال، التي كان المغرب قد بدأ فيها تنظيم هياكله الإدارية والمالية. وثمة وزراء أو مدراء قلائل لم يكونوا يقبلون صرف رواتبهم من خزانة الدولة، قبل أن يأتي زمن آخر يردد فيه بعض كبار رجال الأعمال أن مصالحهم التجارية تضررت جراء الانصراف إلى العمل الحكومي. غير أن الغزاوي، الذي أقام قصرا فخما في أهم أحياء الرباط، غير بعيد عن إقامات عادية لرجال القصر، سيخطئ التقدير يوما، فقد فضل تنظيم عرس باذخ، في وقت اشتدت فيه الأزمة، ما حذا بالأصابع أن تشير إليه بسهام غير تلك التي كان يتلقاها بصدر رحب. على عهد محمد الغزاوي في الإدارة العامة للأمن الوطني، لم تكن الأجهزة التابعة لها قد غدت مثار تساؤلات، فقد كان «الكاب واحد»، الذي أرعب المعارضة في وقت لاحق، مجرد قسم تابع للإدارة بنفس المواصفات التي كان يشتغل بها في عهد الحماية الفرنسية، وقد اختار محمد الغزاوي رجل قانون محلفا لتولي مهمة رئاسته، لم يكن سوى النائب البرلماني محمد الجعيدي، الذي كان يغرق في الملفات الإدارية، دون الانشغال بالقضايا السياسية. كان الغزاوي حين يطلب مشورة رجالات السياسة من حزب الاستقلال أو من خارجه يدعوهم إلى الاجتماع في إقامته الفاخرة، التي استضافت لقاءات تقرر فيها مصير كثير من الرجال والأحداث، فقد كان يبدو منفتحا على فصائل المقاومة، لكنه في الوقت ذاته لم يستطع كبح جماح الصراعات الحزبية، التي وصلت حد التناحر والاقتتال، وتشكيل الميليشيات الخارجة عن القانون. منذ ذلك الوقت بدأت معالم معتقلات سرية في الظهور، غير أنه لم يكن يشار إليها بنفس الحدة التي ارتدتها المواجهات مع المعارضة. وقتذاك، كانت الحكومة تعمد إلى إخماد التوترات والاضطرابات والقلاقل المدنية بلغة السلاح، كما حدث في الريف والأطلس المتوسط وغيرهما من الأماكن التي خلدت لتجاوزات خارج القانون. استمر حضور المتعاونين الفرنسيين في إدارة الأمن لفترة أطول من اللازم، وفي الوقت ذاته تناسلت أحداث دفعت شخصيات عسكرية إلى انتقاد وقوع إدارة الأمن تحت هيئة حزب الاستقلال، لكن البديل الذي تقرر على إثر تعيين محمد أوفقير مديرا للأمن بعد ترقية درجته العسكرية، وإصرار هذا الأخير على تعيين عسكري آخر مديرا عاما للإدارة بالنيابة في شخص أحمد الدليمي، سيطلق يد أوفقير في الجهاز، الذي ظل يحلم بالسيطرة عليه. فقد كان يردد، وقتذاك، أن من يملك المعلومات وحده بإمكانه أن يتخذ القرار المناسب. لهذا السبب وغيره سيعمد أوفقير إلى الاهتمام أكثر بجانب الاستعلامات، وسيضع يده على جهاز «الكاب واحد» ليصبح في وضع أكثر استقلالية عن الإدارة العامة للأمن، مع أنه بقي تابعا لنفوذه، وكان يجلب المنتمين إليه من إدارة الأمن بالدرجة الأولى. فقد كان ينظر إلى تطورات الأحداث مع بداية ستينيات القرن الماضي على أنها لا تسير في صالح فرض هيمنته، في ظل الدعم الذي كان يحظى به من السلطة. واستطاع في ظرف وجيز أن يحول إدارة الأمن إلى درع ضاربة. كان يصور ذلك أنه أفضل طريقة لتعزيز وضع النظام، فيما كانت أحلامه تسبح بعيدا قبل أن تنكسر على حافة آخر محاولة انقلابية فاشلة في صيف 1972. في العاشر من يوليوز 1965 صدر مرسوم ملكي يقضي بإعفاء محمد الغزاوي من منصبه كوزير للصناعة العصرية والمناجم والسياحة والصناعة التقليدية، وجرى في الوقت ذاته تعيين ثلاثة وزراء ليشغلوا المهمة التي كانت منوطة به، وهم: الحسن عبابو في السياحة، ويحيى بن سليمان صاحب كتاب «نحن المغاربة» في الصناعة العصرية والمناجم، وعبد الحميد الزموري وزيرا للتجارة والصناعة التقليدية. هذا التوزيع في حد ذاته يؤشر على الأهمية التي كان يرتديها القطاع، الذي كان يشرف عليه، إن على صعيد تجميعه تحت اختصاصات وزير واحد، أو على مستوى جعله رهن اختصاصات ثلاثة وزراء، من بينهم يحيى بن سليمان، الذي كان ينتمي بدوره إلى حزب الاستقلال، وشغل مناصب ديبلوماسية قبل عودته إلى الواجهة الحزبية في نهاية سبعينيات القرن الماضي. لكن اللافت أن فترة ممارسة الغزاوي مسؤولياته الوزارية لم تتجاوز غير سنة وشهر واحد، في إشارة إلى تداعيات حتمت إبعاده عن الحكومة التي كان يترأسها الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، وأسندت فيها مهمة وزير دولة إلى محمد الزغاري، فيما تولى أحمد العسكي وزارة الأشغال العمومية والمواصلات، وأحمد الطيبي بنهيمة صهر محمد الغزاوي وزارة الخارجية. فقد شكل ذلك ضربة لنفوذ الرجل، الذي ارتبط اسمه بالسلطة والثروة، قبل ظهور رجالات آخرين ساروا على نهجه، مع اختلاف في الأسلوب والانتماء. من عالم الأمن والاستعلامات سينتقل محمد الغزاوي إلى إدارة المكتب الشريف للفوسفاط، وسيأخذ معه بعض مساعديه. فقد أهلته مشاريعه التجارية الناجحة في تلك المرحلة لتدبير قطاع حيوي، وإذ يتذكر المغاربة، الذين عاينوا ذلك الزمن، كيف أن أحد زعماء الأحزاب السياسية قال كلمته الشهيرة، التي تفيد بأن كل مواطن مغربي سيحصل على مبلغ عشرة دراهم يوميا من عائدات الفوسفاط، سواء اشتغل أم لم يشتغل، كانت تلك الكلمات قد صدرت في الوقت الذي كان فيه محمد الغزاوي يدير شؤون المكتب، وقد استخدمت تلك الإيحاءات في صراعات انتخابية، إلا أن مسار العاملين في ذلك المكتب سيكون موضع اهتمام، فقد أصبحوا في غالبيتهم وزراء أو وزراء أولين أو متنفذين في قطاع المال والأعمال. فقد انتقل علي بنجلون إلى مناصب حكومية، وكذلك كان مآل محمد كريم العمراني، ثم محمد فتاح وعبد اللطيف الكراوي، ثم انقلبت المعادلة في اتجاه معاكس من الوزارة إلى المكتب الشريف للفوسفاط أو بعض القطاعات شبه العمومية، لكن ذلك لا يعدو أن يكون استنساخا لتجارب سابقة عاشتها البلاد في السنوات الأولى للاستقلال. بيد أن محمد الغزاوي سيتوارى بعيدا، فقد ظهرت تجارات أخرى من غير عالم السيارات والنقل العمومي، لكن إقامته لازالت شاهدة على ما كان يحفها من أسرار، بدليل أنها الوحيدة التي تسيجها أسوار في مثل جدارات الثكنات العسكرية، مع أن الرجل كان مدنيا.