رغم أن مهمة الصحافة المغربية منذ بداياتها كانت وما تزال هي تسجيل الحدث وتدوينه، من خلال الإخبار به، إلا أن تاريخ هذه الصحافة ظل دون تدوين، ما عدا محاولات قليلة جدا ومحدودة ومتفرقة حصلت قبل أكثر من عقدين من الزمن. في هذه الحلقات نحاول أن نستعيد تاريخ الصحافة المغربية من خلال نماذج من الصحف التي صدرت بالمغرب منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، والأدوار السياسية والاجتماعية التي لعبتها، على اعتبار أن كتابة تاريخ الصحافة المغربية هي إعادة كتابة لتاريخ المغرب، وأن هذه الصحف اليوم تشكل وثائق مهمة تساعدنا على قراءة تاريخنا الحديث. ظهرت جريدة «الطليعة» كلسان إعلامي للاتحاد المغربي للشغل عام 1956، والذي كان آنذاك يضم أزيد من 600 ألف أجير، إلى جانب عدد آخر من الصحف العمالية مثل «العمال» لسان الاتحاد العام للشغالين بالمغرب وبعض الصحف العمالية المحلية مثل «الكهربائي» و«لوبوستير» وبعض الصحف السرية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي المغربي، لكن «الطليعة» هي الوحيدة التي اتسمت بالاستمرارية في الصدور بين هذه الجرائد. كانت افتتاحيات «الطليعة» تعكس الصراع الذي كان قائما بين السلطة والطبقة العاملة بعد خروج الاستعمار الفرنسي، وواكبت طيلة فترة طويلة ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من قلب حزب الاستقلال عام 1959، وحكومة عبد الله إبراهيم التي كانت تعبر عن مساندة مطلقة لها، كما خصصت أعدادا كاملة لقضية واحدة، مثلما فعلت عام 1960 التي كانت سنة الجلاء. أما على الصعيد الدولي فقد كانت الجريدة تواكب باستمرار تطورات حرب التحرير في الجزائر وأحداث الكونغو وكوبا، وما عدا ذلك كانت تخصص حيزا واسعا للعمل النقابي في مختلف الأقاليم وأوضاع العمال فيها، يصل إلى أربع صفحات بين الصفحات الثماني التي كانت الجريدة تصدر بها. وفي سياق دعمها لحكومة عبد الله إبراهيم كان من الطبيعي أن تدخل الجريدة في سجال مع المكونات الحزبية الأخرى المعارضة للحكومة، ففي عدد فاتح يناير 1960،مثلا، مقال تحت عنوان «مناشير تذكرنا بأمثالها» في الصفحتين الثانية والثالثة يهاجم الحزب الشيوعي المغربي، ورد فيه: «قام الحزب الشيوعي المغربي في الأيام الأخيرة بتوزيع منشور «سري» بسخاء، وفي الحق كان «منشورا»سريا إلى درجة أنه غمر كل مكان وفي رابعة النهار مع ما احتوى عليه من سب فادح لرئيس الحكومة وكل المواطنين المحترمين، ومع ما كان يستفز به الناس ويدعوهم إلى الفوضى، ومنشور الحزب الشيوعي هذا كبقية مناشير الرجعية وأذناب السيد الغزاوي إن كانت تذكر بشيء فإنها تذكر بتلك المناشير السرية التي كان يكتبها الكولونيل لوكونت والمسمى «فريفرة» قصد تضليل الشعب والمس بشرف المواطنين وسمعتهم وبالتالي خدمة أغراض المعمرين الدنيئة، وأي شيء وراء هذا المنشور «السري» سوى ما وراء الصحافة الاستعمارية سواء بسواء». وفي عدد 12 يونيو 1959 تهاجم الجريدة الزعيم علال الفاسي، وتكتب في الصفحة الثالثة مقالات تحت عنوان «التاريخ يشهد» تقول فيه:»هل تعرفون أيها المواطنون من يحيط بالزعيم إثر زيارته الأخيرة لقرية خميسات؟ هل تعرفون من هم المتسابقون لإقامة مهرجان فاشل له يضم أقلية من الرجعيين؟ هل تعرفون الخونة المتبرعين لإقامة الاستقبال وجلب الناس بواسطة الكيران والسيارات لتأييد الزعيم وبألف فرنك لكل منهم؟ إنه الحاج عبد العزيز بن كيران الذي أقام حفلة بمنزله إبان الأزمة 54 لأبناء الجزارين المرافقين للاكوسط والخائن السابق القائد سليمان». وقد انتقدت الجريدة طلب المغرب إدراج قضية موريطانيا في جدول أعمال الأممالمتحدة عام 1960، وكتبت في الصفحة الأولى بعنوان «قضية الجلاء وحدة لا تتجزأ» تقول:«ونحن إذ ننوه بمبدأ رفع الخلافات بيننا وبين أعداء البلاد من المستعمرين إلى مستوى هيئة الأمم، فإننا لنتعجب من تسبيق قضية موريطانيا وتسجيلها في جدول أعمال الهيئة الأممية قبل غيرها من القضايا التي توازيها من حيث الأهمية كجلاء قوات الاحتلال». وكانت «الطليعة» تخصص صفحات كاملة للقضية الجزائرية، مثلما فعلت في عدد 12 يونيو 1959 عندما نشرت في الصفحة الأولى مقالين حول نفس الموضوع، الأول بعنوان «دوغول... الرجل المتناقض أو مغامرات فاشيستي ناشئ»، مرفوقا برسم كاريكاتوري للجنرال الفرنسي يرفع رجله في الهواء مصافحا وهو يقول:«أنا مستعد للمصافحة، لكن ما نقدرش نمد يدي لأنها مشغولة بزاف»، وأسفل المقال الرئيس مقال آخر بعنوان«مساعدة الشعب الجزائري تبدأ من هنا»، والمقالان متبوعان بالتتمة في صفحتين كاملتين بالداخل. كما كانت الجريدة تواكب تطورات القضية الكونغولية، ونشرت في عدد 19 غشت 1960 في الصفحة الثانية تصريحا لمحمد بن عبد الكريم الخطابي يقول فيه إن قضية الكونغو امتحان للأمم المتحدة، ويشيد بالرئيس لومومبا الذي «أدرك معنى الاستقلال الذي تريده الشعوب الواعية والذي سعى إليه سابقا بعض الرؤساء فحققوه إذ طالبوا بالجلاء لأول مرة ولم يكتفوا بلفظة الاستقلال».