استفاق سكان قرية «الصيادين» الهادئة على الساحل الأطلسي ذات صباح من عام 1977، ووجدوا أن جدران مدينتهم أصيلة ألصقت عليها منشورات انتخابية مختلفة عما ألفوه من أشكال الحملات الانتخابية. كان ذلك المنشور يحمل صورة شاب أنيق يبتسم، وكتب عليها «محمد بنعيسى إلى البرلمان». لم يكن الملصق غارقا في لغة والوعود، التي تزيد في مثل هذه المناسبات، ولكنه اكتفى بإيحاءات بليغة تشير إلى الثقة في النفس. ذلك أن ابن أصيلة، الذي غادرها باحثا عن أمكنة تحت الشمس في عواصم العالم، عاد إليها يحذوه أمل كبير في أن يجعل قرية «الصيادين» واحدة من المعالم البارزة في كتاب الثقافة المغربية. إبان تلك الفترة، سأل الأمين العام لحزب الاستقلال محمد بوستة، الذي كان قد حل بالمدينة في إطار جولات انتخابية قادته إلى الكثير من المدن، مرشح حزب الاستقلال المهماه عن حظوظه في حشد الدعم للحزب، فرد عليه المهماه بأن المعركة الانتخابية مفتوحة على كل الاحتمالات، ولم يشأ أن يزيد أو ينقص من قيمة منافسيه، الذين كان محمد بنعيسى أحد الوجوه البارزة ضمنهم، خصوصا أنه نقل مفاهيم وأساليب جديدة في إدارة حملته الانتخابية. منذ ذلك الوقت، رسا شراع بنعيسى على العالم الصغير لقرية «الصيادين»، التي حولها إلى علامة ثقافية يفوق إشعاعها مدنا عريقة وقلاعا حصينة. والظاهر أن الرجل، الذي لم يتعب من مواجهة طموحاته بالمزيد من العمل والجهد والإصرار، ربط اسمه بأصيلة، كما ارتبطت البلدة الصغيرة باسمه، كما لم يحدث مع أي اسم آخر. وفيما كان كثير من نواب البرلمان في تجربة ما بعد انتخابات 1977 يلوحون بالوعود والشعارات ويطرقون مكاتب الوزارات بحثا عن مكاسب وامتيازات، كان محمد بنعيسى يحاور مؤسسات اقتصادية في القطاع الخاص، لحضها على الاستثمار في الثقافة، وكان يتردد على الوزارات متأبطا ملفه، الذي يراهن على تحويل أصيلة إلى عاصمة أبدية للثقافة المنفتحة على رياح العالم. حكى أكثر من وزير أول أن محمد بنعيسى كان حين يطلب مقابلة المسؤولين، يحرص على أن يبسط أمامهم أوراقه وخرائطه التي تحمل توقيعا واحدا وهاجسا واحدا: كيف يمكن ربط الثقافة بالتنمية؟ وكيف يمكن تحويل المثقفين إلى فاعلين حقيقيين مؤثرين في المشهد العام؟. وقد زاد من صعوبة تحدياته أن هذا المشهد كان منطبعا بتوصيفات وتصنيفات ذات خلفيات سياسية وإيديولوجية، فقد كانت الثقافة موزعة إلى علامات ودكاكين تصنف بعضها البعض، وتحكم على بعضها البعض، ولم يكن ذلك منعزلا عن سياق صراعات سياسية امتد نفوذها إلى فترة أطول وإلى مساحات أكبر. ليس صحيحا أن ذلك الشاب المولع بالتصوير والرسم والكتابة وجد الطريق سالكا، فلشدة ما ووجه به من حروب كبيرة من عقليات صغيرة، خصوصا من لدن الساهرين على شؤون الإذاعة والتلفزيون، الذين كانوا يحاربونه بلا هوادة، ومنذ أن ظهر في برنامج تلفزيوني كان يعده المخرج الراحل حميد بن الشريف حول تجربته في عالم التصوير ومجاهل الثقافة ومحراب الكتابة، وضع اسمه في قائمة الممنوعين، مع أنه ترأس لجنة الشؤون الثقافية في البرلمان. كان بنعيسى ينتمي إلى التجمع الوطني للأحرار، لكنه لم يكن من بين السياسيين الذين التفوا حول الرئيس أحمد عصمان، بالقدر الذي يتيح لهم ذلك النفاذ إلى المواقع، فقد كان يبتعد عن هذه الحلقات، لكن في إطار علاقات ود واحترام وتقدير جمعته بالرئيس أحمد عصمان، ثم بالوزير مولاي أحمد العلوي، غير أنه كان يجد نفسه أكثر تحررا، وهو يختلي بالمثقفين والإعلاميين، يحاورهم في القناعات والخيارات، بحثا عن دور جديد للثقافة، لا يكون بالضرورة معاديا للسلطة ومصنفا في خانة من سيعتدي عليها، وإنما يكون أقرب إلى الواقعية التي تقيس الأشياء بقدرات التأثير والفعالية. ومنذ أول يوم رأى فيه مهرجان أصيلة الثقافي النور في صيف ساخن في أواخر الثمانينيات، بدعم من مؤسسات القطاع الخاص، حرص بنعيسى على أن يكون بوابة كل المثقفين، دون التقيد بالمواقف والانتماءات السياسية، وساعده في ذلك أنه اختار الانفتاح على الآخر، في سياق رؤية استندت إلى مرجعية الهوية المغربية ذات الامتدادات العربية والإسلامية والإفريقية والأمازيغية. وبسبب هذا الانفتاح، سيتأتى لمهرجان أصيلة أن يخترق الكثير من الحواجز، ويتحول إلى تظاهرة ثقافية ذات إشعاع دولي. ما بين الإعلام والثقافة هناك تداخل لا يفصل بين حدودهما، غير أن مرور محمد بنعيسى من صحافة حزب تجمع الأحرار إلى جانب العامل السابق حسن مطهر لم يكن بنفس القدر من العطاء، وإن كان قد حرص على إقامة علاقات حميمية مع العاملين، واهتم بأن يجعل منهم شركاء في التوجيه والإنجاز. فقد كان تجمع الأحرار قد عرف تصدعا داخليا انعكس على مجمل الأوضاع والترتيبات، فيما كان طموح محمد بنعيسى يبدو أكبر من تدبير شؤون صحيفة حزبية لم تكن إمكانياتها تتناسب وذلك الطموح، سواء على صعيد التجربة أو ظروف النشأة أو مجالات المنافسة، التي كانت صحافة المعارضة تستأثر فيها بدور أكبر. بيد أنه خلال تعيينه وزيرا للثقافة، حرص بنعيسي على فتح حوار واسع النطاق مع كل الفعاليات الثقافية، وفي مقدمتها اتحاد كتاب المغرب، واهتم بإعادة ترتيب القطاعات التي تعنى بالمسرح والتراث والمتاحف. وبالرغم من أنه كان يشكو من ضآلة الميزانية المخصصة لقطاع الثقافة، التي لا تكاد تفي بأي من الطموحات، باستثناء التسيير العادي للمرافق، فقد راهن على دمج الثقافة في الحياة العامة، وتحديدا من خلال إيلاء عناية خاصة لتولي مؤسسات عمومية وشبه عمومية تمويل بعض جوانب الأنشطة الثقافية، فقد كان ضد مفهوم «الفقر» الذي يحيط بعالم الثقافة، وظل يعتقد دائما بتسخير الإمكانيات الذاتية وجلب الموارد الإضافية، ويسجل لحسابه أنه كان أول وزير ثقافة رحل بفرق مسرحية وغنائية وفنانين تشكيليين ومبدعين في التراث الأصيل إلى ردهات أوبرا القاهرة في حضور لافت، كما أقام علاقات مع الكثير من المؤسسات الأجنبية، وكان يرغب في أن تصبح للمسرح المغربي مؤسسة قائمة الذات تليق بمكانته، وأن تصبح للإبداعات التراثية مواقع في إطار صون الموروث الحضاري، ولو أنه لم يكتب له أن يشهد ميلاد متحف كبير أو مسرح أكبر، واكتفى بأنه كان وراء أكثر من مخطط بهذا الصدد. ترى لو أن بنعيسى سخر كل طاقاته إبان مروره بوزارة الثقافة، كما فعل مع مهرجان أصيلة، هل كانت الصورة ستظل وفق ما هي عليه الآن؟ لا ضرورة لاستحضار جواب في الموضوع، فالأهم أن المهرجان أصبح علامة مميزة تكاد تكون في إشعاعها أكبر من حضور وزارة الثقافة، وقد عرف كيف يجلب الدعم والمساندة لتلك التظاهرة، خصوصا في ضوء العلاقات التي تربطه بمراكز النفوذ الثقافي والمالي في الدول الخليجية، وغيرها من المصادر. كانت سمعته تسبقه، إذ كان محاورا مقنعا، مما أهله لأن يحتل مركزا أهم في دائرة القرار الدبلوماسي. وحين عين سفيرا للمغرب في واشنطن، كان أكثر اهتماما بمجاورة مراكز القرار السياسي في مجلس النواب والشيوخ والإدارة الأمريكية، وقد استطاع أن ينقل صورة المغرب من منظور جديد، يبعد عن الدبلوماسية التقليدية، التي لم تكن تتجاوز إقامة الحفلات البروتوكولية. إذ في عهد وجوده في السفارة المغربية في واشنطن، عرفت العلاقات المغربية الأمريكية المزيد من الانفتاح والتحسن، مما جعل الزيارات الرسمية للملك الراحل الحسن الثاني ثم الملك محمد السادس لاحقا تحاط بهالة من التقدير. ثمة أصوات من داخل محيط القصر كانت تدفع في اتجاه الاستفادة من تجربة السفير محمد بنعيسى، وثمة أصوات أخرى كان وجوده يضايقها، غير أنه منذ تعيينه وزيرا للخارجية في أبريل 1999 خلفا للوزير الأسبق عبد اللطيف الفيلالي، تمكن من حيازة دعم كبير لغالبية أعضاء مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيين المساندين للمغرب وخيار الحكم الذاتي، وحضه على معاودة لعب دوره التقليدي في إدارة أزمة الشرق الأوسط. وقد شكلت هذه المواقف تطورا إيجابيا في مواقف الإدارة الأمريكية، وفي الوقت ذاته، حافظت للمغرب على امتداداته العربية والإسلامية والإفريقية، فقد كان ينطلق من منظور الدبلوماسية البناءة. قد يكون أصعب موقف واجهه الوزير بنعيسى يكمن في اندلاع أزمة جزيرة ليلى غير المأهولة، في عهد حكومة رئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه ماريا أزنار، غير أنه استطاع في غضون ذلك أن يحبط المناورات الإسبانية، خصوصا وقد حاولت الإساءة إلى محور العلاقات المغربية الأوربية، وكان لتدخل الوسيط الأمريكي وزير الخارجية كولن باول دور حاسم في إعادة العربدة الإسبانية إلى حجمها الحقيقي، من خلال إعادة وضع الجزيرة غير المأهولة إلى حالته الطبيعية. وحين ردد محمد بنعيسى أن الحرب بين المغرب وإسبانيا لا يمكن أن تقع بسبب خلافات على سمكة سردين، كان يدرك جيدا أن الكثير من الضغوط التي تمارسها إسبانيا تروم تمديد العمل باتفاقية الصيد البحري وفق شروط مجحفة، لكنه استطاع أن ينسج علاقات صداقة مع شخصيات إسبانية متنفذة، حولت قرية «الصيادين» إلى مواعيد ثابتة للبحث في شؤون موزعة بين الثقافة والسياسة والمسائل الاستراتيجية، وساعد الوزير بنعيسى في بناء تلك العلاقات أنه يعتبر واحدا من المهتمين بالثقافة الإسبانية وميولات دول أمريكا اللاتينية والقارة الإفريقية. وشكلت الجوائز السنوية التي تمنحها مؤسسة أصيلة لكبار المبدعين والمفكرين ورجالات السياسة والعلماء في نهاية كل موسم تكريسا مفتوحا للحضارات الإنسانية، التي يشكل فيها المغرب فاعلا مؤثرا. سيمزج محمد بنعيسى لدى تسليمه تلك الجوائز بين الشأن المحلي والاهتمامات الدولية. وكما ستمنح الجائزة لباحث إفريقي كبير، ستكون كذلك من نصيب صانع تقليدي بسيط أو امرأة مناضلة في مدينة أصيلة الساحرة، ففي النهاية، يعود الماء إلى منبعه. وربما أن أجمل اللحظات التي يستريح فيها المحارب، الوزير والمثقف، لا تكون بعيدا عن أصيلة، بين أزقتها الضيقة وبيوتاتها النظيفة وعالمها الذي يختلط فيه السحر بالواقع. ابتعد بنعيسى عن الأضواء ولم يبتعد عن أصيلة، فقد ظل يحن إليها كما هي تسري في عروقه دما وحيوية وإيمانا بالقدرة الدائمة على العطاء، وربما كان مبعث فخره أنه عاد إلى العالم الذي بدأ منه مشواره الحافل بالتحديات. ففي كل صيف يجدد بنعيسى لقاءه مع المدينة التي يدير شؤونها بنجاعة. إنها جزء منه كما أنه جزء منها، والباقي عبور طويل في مساحات الزمن السياسي.