لم يكن أكثر الناس تشاؤما أو إيمانا بالصدف الغريبة يعتقدون أن قطعة الأرض التي كانت في ملكية الأحباس، والتي كانت مخصصة لبناء مسجد، فتحولت إلى مركز تجاري، ستنهار بمجرد الشروع في بناء أساسها، وسيكلف ذلك حياة ثلاثة عمال قضوا اختناقا تحت ركام الرمال والمياه. وقد خلَّف هذا الحادث، الذي وقع في حوالي العاشرة من صباح أول أمس الأحد في طنجة، صدمة كبيرة، بالنظر إلى أنه جرى في وسط المدينة، وبالضبط في شارع يوسف بن تاشفين وعلى بعد أمتار قليلة من الشاطئ البلدي. وكان من الممكن أن يتسبب هذا الحادث في كارثة غير مسبوقة، لو أن الانجراف اتسع قليلا ليشمل أسس العمارات المجاورة، والتي تؤوي مئات السكان. وقد انجرفت كميات كبيرة من الرمال على عشرات العمال الذين كانوا يقومون بأعمال البناء في ورش خاص ببناء مركب تجاري وعمارة من 12 طابقا، مما أدى إلى طمر عاملين تحت الرمال في الحال، بينما ظل عامل ثالث يقاوم الموت لأزيد من نصف ساعة، قبل أن تغمره المياه التي كانت تتسرب من أنبوب مياه، بقوة كبيرة. ووفق نتائج التحقيقات الأولية، فإن السبب الرئيسي للحادث يعود إلى تفجر أنبوب مياه تحت الطريق الرئيسية المحاذية لأعمال بناء المركز التجاري، فتسببت تلك المياه، التي كانت كثيفة وقوية، في الضغط على أطنان من الرمال، مما أدى إلى ميلانها على السور الإسمنتي، الذي لم يكن قويا بما يكفي، فانهار كل شيء على العمال، الذين نجا أغلبهم بأعجوبة. وقال شهود عيان إن السور الإسمنتي المجاور للطريق ظهرت عليه تصدعات قبل حوالي ساعة من انهياره وإن أشخاصا اتصلوا بأصحاب الورش من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة، غير أنه لا أحد تحرك، مما أدى إلى وقوع الكارثة. وكان عابر سبيل قد عاين تسرُّب المياه الكثيف من تحت الرمال، فبادر إلى الاتصال بشركة «أمانديس»، من أجل وقف ضخ المياه، مما أدى إلى التقليل من الخسائر، التي كان من الممكن أن تكون فادحة. وتسبب الانجراف في سحب كمية كبيرة من الرمال من تحت الطريق، ولم يعد يفصل الانجراف عن العمارات المجاورة سوى أمتار قليلة، وهو ما يعني أن الكارثة كادت تكون رهيبة، لو استمر الانجراف وتواصل تسرب المياه لوقت أطول. ومنذ اللحظات الأولى، صارت أصابع الاتهام تتوجه مباشرة إلى شركة «فيوليا -أمانديس»، المفوض لها بتدبير قطاعَي الماء والكهرباء في المدينة، حيث لم يخف مسؤولون في المدينة انزعاجهم من مديرها الجهوي الذي حضر إلى عين المكان. كما قال سكان مجاورون لهذا الورش إنهم كانوا يحتجون باستمرار على أشغال الحفْر والبناء في المنطقة، والتي تفتقر لأدنى إجراءات السلامة. وقال أحد الأشخاص إنه توجه، رفقة السكان، إلى ولاية طنجة عدة مرات من أجل الاحتجاج، كما توجهوا إلى مقر الوكالة الحضرية، للمطالبة بمراقبة أشغال هذا الورش، غير أنْ لا أحد ألقى لهم بالا وكانوا يعامَلون باستخفاف من طرف المسؤولين. وقال أحد السكان المجاورين لورش البناء إن عملية البناء تتم خارج مراقبة المسؤولين، سواء في الجماعة الحضرية أو في مصالح الولاية المختصة. وأضاف أن السكان سبق أن وجهوا شكايات إلى رئيس المجلس الجماعي وإلى الوالي وبعض المصالح الخارجية، يطالبونهم فيها بتفعيل المراقبة داخل هذا المشروع التجاري. ويؤكد نفس المصدر أن السكان كانوا يتوقعون أن تحدث الكارثة في أي وقت، بسبب عدم استجابة هؤلاء المسؤولين لطلباتهم، لأنهم كانوا يعتقدون، أي المسؤولين، أن المشروع تتوفر فيه جميع الشروط التقنية، والمعايير المعتمدة لبناء مثل هذا الورش التجاري. ويسرد عمال وشهود عيان تفاصيل مفجعة عن طريقة موات أحد العمال، الذي، بمجرد أن انهارت الرمال حتى غرق نصفه الأسفل تحت أكوام الإسمنت والحديد وظل رفاقه يحاولون إخراجه دون جدوى، بينما المياه تغمره، شيئا فشيئا... وقد حاول العمال، بكل قواهم، جذب زميلهم، غير أنه كان عالقا بقوة تحت الأنقاض، وصارت المياه تصعد إلى أن وصلت عنقه وهو يصرخ ويبكي، ثم غمرت رأسه بالكامل، حيث توفي بطريقة درامية، مما جعل عشرات من زملائه يصابون بصدمة كبيرة وانزووا في ركن من الورش، وهم يبكون بحرقة. ولم يحضر إلى عين المكان أي أخصائي نفسي أو اجتماعي لكي يواسي العمال، فيما كانت مسؤولة في الورش تقول إن العمال كانوا يتوفرون على أغطية للرأس وعلى ملابس خاصة بالورش، ولم تُشِر بالمرة إلى الحاجز الإسمنتي المترهل الذي لم يستطع الصمود أمام انجراف الرمال. وتساءل مواطنون عن السبب الذي جعل مصالح الوقاية المدينة تتأخر لأزيد من نصف ساعة، مع أن مقرها الرئيسي يوجد على بعد أقل من كيلومترين فقط من مكان الحادث، وكان بالإمكان إنقاذ العامل الذي ظل يصارع الموت لأزيد من نصف ساعة، بحيث كان بإمكان الوقاية المدنية الحضور في أقل من دقيقتين. وكانت هذه القطعة الأرضية التي سيبنى فوقها المشروع السكني والتجاري، والتي تصل مساحتها إلى حوالي 4 آلاف متر مربع، محط جدل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، حيث كانت في ملكية أحباس طنجة، لكنها، وفي ظروف غامضة جدا، تم تفويتها لخواص وتملكتها زوجة العمدة الأسبق، دحمان الدرهم، التي أعادت بيعها لشركة خاصة، مع هامش ربح كبير، وانتهت أخيرا في ملكية أصحابها الحاليين، الذين كانوا ينوون بناء مركب تجاري ضخم فوقها، مع عمارة من 12 طابقا. وعلى الرغم من أن هذا المشروع الضخم لا يبعد عن رمال الشاطئ البلدي إلا بحوالي 30 مترا، فإنه يتوفر على «مباركة» جميع الجهات المسؤولة في المدينة، وعلى رأسها ولاية طنجة والوكالة الحضرية وعمالة طنجة أصيلة. وكان والي طنجة قد حضر إلى مكان الحادث بعد حوالي 3 ساعات من وقوعه، حيث بدا عليه وجوم واضح، فيما كان عمدة المدينة والكاتب العام للولاية من أوائل الحاضرين إلى عين المكان. وفي الوقت الذي تُوجَّه أصابع الاتهام حاليا إلى كل الأطراف المساهمة في هذه الفضيحة العقارية الجديدة، فإن نفوذ المنعشين العقاريين في المدينة صار محط سخط كبير بين السكان، والذين يسمونهم «وحوش العقار»، نظرا إلى الأضرار الفادحة التي ألحقوها بالمدينة وبمناطقها الخضراء، أمام صمت مريب من جانب السلطان، وأيضا من جانب الوكالة الحضرية والجماعات المنتخَبة.