وفي هذا القسم كثرة، من السنة والشيعة معا. نماذج من الشيعة سرد حسين فضل الله بعض أسباب رفض هؤلاء الشيعة لموضوع التقارب، فكتب أن هذا الاتجاه «يرى أن مشروع الوحدة يعمل على تذويب الشيعة في المحيط الإسلامي العام، ويؤدي إلى فقدان الركائز الأساسية لفكرة التشيع.. وهي الإمامة وما يتبعها من قضايا فكرية وفرعية.. فيتحول الشيعة، بفعل ذلك إلى سنة.. وبذلك لن تكون عملية الوحدة إلا أسلوبا من أساليب احتواء فئة من المسلمين لفئة أخرى، وليست عملية جمع للمسلمين على أساس الحق. ويضيف هؤلاء: إننا قد نوافق على عملية التذويب والاندماج لو كانت القضية قضية هامشية طارئة، يمكن للإنسان أن يتجاوزها كما يتجاوز الكثير من القضايا الحياتية الطارئة.. للمحافظة على المصلحة العامة، ولكن القضية تمثل، في وعينا الفكري، قضية التزامنا الإسلامي بخط الحق في العقيدة والتشريع.. لأن مسألة الإمامة ليست مسألة شخص أو أشخاص، أو موقف سياسي معين.. بل هي مسألة القاعدة الشرعية التي انطلقت القناعة فيها من الدليل والبرهان، فلا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها، انطلاقا من تسوية خاضعة لأوضاع معينة. وهكذا كانت نظرة هذا الاتجاه إلى مسألة الوحدة، نظرة سلبية تحمل الكثير من الحذر والخوف والشك والارتياب». نماذج من السنة ومن ناحية السنة، يمكن أن أمثل للموقف بالشيخ محب الدين الخطيب، فمما كتبه في رسالته الشهيرة: «لوحظ أنه أنشئت لدعوة التقريب بينهما دار في مصر ينفق عليها من الميزانية الرسمية لدولة شيعية. وهذه الدولة الشيعية الكريمة آثرتنا بهذه المكرمة فاختصتنا بهذا السخاء الرسمي، وضنت بمثله على نفسها وعلى أبناء مذهبها، فلم تسخ مثل هذا السخاء لإنشاء دار تقريب في طهران أو قم أو النجف أو جبل عامل أو غيرها من مراكز الدعاية والنشر للمذهب الشيعي. وإن مراكز النشر هذه للدعاية الشيعية صدر عنها، في السنين الأخيرة، من الكتب التي تهدم فكرة التفاهم والتقريب ما تقشعر منه الأبدان. فهم أحوج إلى دعوة التقريب من حاجتنا نحن أهل السنة إلى مثل ذلك.. الإنصاف يقتضي أن يبدؤوا هم بتخفيف إحنتهم وضغينتهم عن أئمة الإسلام الأولين...»، ويقول أيضا: «ومما لا ريب فيه أن الشيعة الإمامية هي التي لا ترضى بالتقريب، ولذلك ضحت وبذلت لتنشر دعوة التقريب في ديارنا، وأبت وامتنعت أن يرتفع له صوت أو تخطو في سبيله أية خطوة في البلاد الشيعية، أو أن نرى أثرا له في معاهدها العلمية. ولذلك بقيت الدعوة إليه من طرف واحد.. ولذلك فإن كل عمل في هذا السبيل سيبقى عبثا كعبث الأطفال، ولا طائل تحته، إلا إذا تركت الشيعة لعن أبي بكر وعمر، والبراءةَ من كل من ليس شيعيا منذ وفاة النبي (ص) إلى يوم القيامة، وإلا إذا تبرأت الشيعة من عقيدة رفع أئمة آل البيت الصالحين عن مرتبة البشر الصالحين إلى مرتبة الآلهة اليونانيين، لأن هذا كله بغي على الإسلام، وتحويل له عن طريقه الذي وجهه إليه صاحب الشريعة الإسلامية (ص) وأصحابه الكرام، ومنهم علي بن أبي طالب وبنوه، فإن لم تترك الشيعة هذا البغي على الإسلام وعقيدته وتاريخه، فستبقى منفردة وحدها بأصولها المخالفة لجميع أصول المسلمين، ومنبوذة من جميع المسلمين». هكذا انتهى الخطيب إلى «استحالة التقريب بين طوائف المسلمين وبين فرق الشيعة.. بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الأصول.» أما العالم الباكستاني ظهير -والذي قتل، رحمه الله، في حوادث الحرب الطائفية- فقد أراد أن ينبه من سماهم ب«مغفلي أهل السنة» إلى خطر دعوة التقريب، فقال: «ألفت قبل السنوات التسع كتابا حول عقائد الشيعة ردا على من أراد التمويه والتزوير لأهل السنة في بلادهم ومدنهم باسم التقريب، أي تقريب السنة إلى الشيعة.. مستعملا فيه التقية اللازمة لمذهبهم، والأكاذيب التي هي أكبر وسيلة للقوم». أما الأستاذ ناصر القفاري، فقد تصور التقريب بهذا الشكل في خاتمة كتابه «مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة»: «تبين لنا من خلال البحث مدى ما عند الروافض من كفر وضلال، ومدى الأخطار والأضرار الكبيرة التي احتوتها كتبهم التي يسمونها كتب الحديث وعلوم آل محمد، وأنها تصيب المسلمين في صميم دينهم، وفي أصول اعتقادهم، وأن كثيرا من نصوصها.. باب من أبواب الإلحاد والصد عن دين الله.. وكل دعوة تقريب تستلزم ضمنا الاعتراف بهذه الكتب.. فكانت دعوة التقريب هي «البدعة الكبرى» التي أرادت أن تعطي الكفر والإلحاد صفة الشرعية، وباسم الإسلام.. وإنني أوجه نصيحة مخلصة إلى كل دعاة التقريب من أهل السنة أن يرجعوا إلى قراءة كتب الحديث عن الروافض «الثمانية» ليعلموا إلى أين يذهبون بأمتهم ودينهم باسم التقريب.. فمع من نتحد، معشر أهل السنة؟ مع من يطعن في قرآننا، ويفسره على غير تأويله.. ويكفر الصديق والفاروق.. ويرى الشرك توحيدا، والإمامة نبوة، والأئمة رسلا وآلهة، ويخادع المسلمين باسم التقية. إن المنهج السليم للتقريب هو أن يقوم علماء السنة بجهد كبير لنشر اعتقادهم وبيان صحته وتميزه عن مذاهب أهل البدع، وكشف مؤامرات الروافض وأكاذيبهم.. أي أن المنهج الأصيل للتقريب هو بيان الحق وكشف الباطل، هو تقريب الشيعة إلى الحق والوقوف في وجه المد التبشيري الرافضي الذي ينشط اليوم بشكل غريب في العالم الإسلامي».. حسابات الربح والخسارة في الموقف من دعوة التقريب لا يمكن أن نفهم مواقف الأطراف جميعا، سواء من المرحبين بفكرة التقارب أو الرافضين لها، دون أن نعلم بأن أكثر هؤلاء يستحضرون في أذهانهم حساب الربح والخسارة من وراء دعوة الوحدة بين الفرق. ولا شك أن بعضهم ينظر إلى الموضوع نظرة مبدئية، فالقرآن والسنة أمرا بالتوحد وألحا على إصلاح ذات البين.. لكن مع ذلك يوجد تفكير -لا يُصرح به في الأكثر- يقيس الموضوع بما تحققه الدعوة إلى التقريب للمذهب من أرباح وما تجره عليه من خسائر. وقد بيّن هذا في الجانب الشيعي بعضَ البيان الشيخ فضل الله، قال شارحا وجهة نظر المدافعين الشيعة عن التقريب: «إن النتائج الإيجابية التي يحصل عليها المسلمون الشيعة في مسألة الوحدة لا تقاس بالنتائج السلبية التي يعيشونها في مسألة الفرقة والخلاف الفكري والعملي الذي يتحرك من موقع العقدة الذاتية لا من موقع المصلحة العامة. ويرون أن حركة أي صاحب فكر في المحيط العام، الذي ينظر إليه بروحية منفتحة إيجابية، قد تستطيع أن تحقق لفكرها الكثير الكثير من المواقع المتقدمة من خلال ما تملكه من حرية الجو، ومن طبيعة الانفتاح.. مما لا تستطيع أن تحققه في إطار الحدود الفاصلة التي تفصل بين هذا الفريق أو ذاك، لتوحي لكل منهما بالحاجة إلى الاستعداد المسبق لتحصيل المناعة ضد إمكانات التأثر بالفريق الآخر.. وبالتالي لإيجاد حاجز نفسي ضد أي شيء يثيره الفريق الآخر، من أفكار وطروحات وحلول.. مما يجعل من الحالة النفسية لكل منهما، هي كيف يمكن أن يسجل نقطة ضد الأفكار التي يثيرها، لا كيف يناقشها وينظر في طبيعتها الفكرية من حيث الخطأ والصواب. وينتهي أصحاب هذا الاتجاه إلى الفكرة التي تقول: إننا، كشيعة، يمكننا إقناع المسلمين الآخرين بصحة أطروحتنا الفكرية في فهم الإسلام، في ما نعتقد أنه الحق، من خلال ما نملكه من أدلة وبراهين.. وذلك في نطاق الوحدة، أكثر مما نستطيع ذلك في ظل الوضع الطائفي الحاقد المألوف». إن دعوة التقريب تسهّل للشيعة التواصل مع أهل السنة والنفوذ إلى مجتمعاتهم -وعقولهم وقلوبهم أيضا- دون عراقيل، وهذا ما يقصده النصيراوي، وإن لم يصرح به، حين قال: «يساعد التقريب على فك حصار العزلة التي يعاني منها البعض، مما يسهل عملية الدخول إلى الساحة الإسلامية بمقبولية دون تشنج». ويرى الخطيب أن التقريب يقتضي أن نوافق الشيعة على البراءة من سلفنا، وعلى التساهل في كثير من عقائدنا. يقول: «إن الثمن الذي يطالبنا به الشيعة للتقرب منهم ثمن باهظ، نخسر معه كل شيء ولا نأخذ به شيئا. والأحمق من يتعامل مع من يريد منه أن يرجع عنه بصفقة المغبون. إن الولاية والبراءة التي قام على أساسها الدين الشيعي، على ما قرره النصير الطوسي، وأيده نعمة الله الموسوي والخونساري، لا معنى لها إلا تغيير دين الإسلام، والعداوة لمن قام على أكتافهم بنيان الإسلام». ويقول القفاري في السياق نفسه: «سببت دعوة التقريب خسارة كبرى لأهل السنة، وضررا كبيرا لا يتصوره إلا من وقف على عدد القبائل التي ترفَّضت بجملتها، فضلا عن الأفراد، حتى تحولت العراق، مثلا، بسبب هذه الدعوة، من أكثرية سنية إلى أكثرية شيعية. وشيوخ الرفض يخططون لنشر الرفض بكل وسيلة تحت شعار التقريب.. وبسبب دعوة التقريب سكت أهل السنة أو جلّهم عن بيان باطل الروافض وإيضاح الحق. وباسم هذه الدعوة، وجدت كتب الرافضة ونشراتهم ورسائلهم مكانا لها في بلاد السنة. وأصبح رجال الرفض يتحركون وسط بلاد السنة بيسر وسهولة، وينشرون كتبهم، ويقيمون ندواتهم، ويفتحون مراكز لهم. وتبين من خلال آراء دعاة التقريب من الروافض أنهم لم يغيروا شيئا من عقائدهم الشاذة، وأنهم إما مجاهرون بها أو مستخفون يخدعون ويتقون.. ولهذا لم تثمر دعوة التقريب سوى خسارة لأهل السنة كبيرة، ونصر لأهل الرفض».. والقفاري يشير هنا إلى مشكلة التبشير بالتشيع، وسأتكلم عنها ببعض التفصيل في معوقات التقريب. وأنا أعتقد أن هذه المشكلة بالذات هي من أكبر الأخطار التي تهدد جميع ما تحقق إلى الآن من تأليف بين الفريقين، لذا أتوقع -في حالة انهيار فكرة التقريب كلية.. وهو احتمال وارد جدا- أن يحدث ذلك لأحد سببين: إما لهذا الذي يذكره القفاري: نشر التشيع وسط أهل السنة، أو لانهيار الحد الأدنى من التعايش بين الفريقين في الدول التي تجمعهما معا، كالعراق أو لبنان... لكنني أقول: قد ثبتت لنا ضرورة مبدأ التقريب، واتضحت فائدته.. فما يعتريه من مشكلات هو عوائق نحرص على كشفها والتنبيه إليها والمطالبة برفعها، ولا بأس هنا من تحديد المسؤوليات بدقة.. لكننا لا نلغي الفكرة أو المبدأ بسببها. وهذا لا يمنع أن نبذل جهدنا في مواجهة ظاهرة التشيع بالعلم والأدب. يتبع...