كثيرة هي النعوت التي يوسم بها البرلمان المغربي: مجرد غرفة للتسجيل، ليس مقرا للسلطة، يشكل امتدادا لجسم آخر، يجسد التمثيلية بالمعنى المسرحي للكلمة (المسرح الرديء) حسب تعبير «ألان كليس»، يكرس تمثيلية رمزية والتعبير عن وهم الحراك والتغيير الاجتماعي، غرفة استشارية وثانوية، يعمل خارج الزمن الاجتماعي المغربي، ليس سيد نفسه، وإلى ما هنالك من أوصاف لا يسع المجال لسردها، إلا أن الحاضر منها دال ومعبر على أن برلماننا ليس موضع الرهان للإجابة والاستجابة لمتطلبات الطموح المجتمعي/الشعبي. وإذا كان الدخول البرلماني في النظم الديمقراطية المقارنة يؤشر على رهانات مختلفة ويشكل في بداية بناءاته على تجاوز كل الاختلالات السالفة على مستوى تدبير العمل البرلماني، سعيا وراء الفعالية في الأداء وتطوير آليات العمل وتعزيز التنافسية بين البرلمانيين للبذل والعطاء والاشتغال وفق منطق الاحترافية، فإن البرلمان المغربي يحمل في انطلاقاته عناصر الأزمة، والتي تتفاعل وتتصاعد بفعل تراكميتها وتواتريتها لإنتاج ما يصطلح عليه ب»العدمية البرلمانية» وينحصر فعله في رسم صورة مشوهة عن أصول البرلمانية الحقة، حيث يظل مجرد «مكلمة لتصريف اللغط البرلماني» ويزداد الأمر سوريالية عندما يخرج النقاش البرلماني عن سياقه الطبيعي وتنتفي فيه آداب السلوك والاحترام، ويتحول إلى التلاسن بالكلمات والعبارات الفظة والمبتذلة بين كائناته وتبادل وابل من الشتم والسب واستعمال ألفاظ غير لبقة لا تليق بمستوى «ممثلي الأمة» ومهمتهم النبيلة. وإذا كان إحقاق رهانات الدخول البرلماني يقع على عاتق موارده البشرية، فإن البرلمان المغربي تستوطنه «مخلوقات برلمانية» يعوزها الرصيد المعرفي والأخلاقي واجتهدت على مر التاريخ البرلماني في صناعة العبث، وساهمت في تداعي القيمة الوجودية والوظيفية للبرلمان في حد ذاته، وجعلته مؤسسة دون روح ولا جسد، فهي استحلت الكراسي، ليس بدلالتها المادية على أنها موضع للعمل والكد والاجتهاد وإنما بمضمونها الرمزي، وأصبح البرلماني رهين فروض هذا الكرسي الذي يعد منفذا أكيدا نحو الوجاهة الاجتماعية وقناة لنسج علاقات تعود على صاحبها بالجاه والمال، ضاربا عرض الحائط بكل وعوده لممثليه.. إنها قمة الاستهتار والمتاجرة بأحلام الناس. مؤسسة صماء وبكماء، أدارت ظهرها لكل القضايا الوطنية وتعاملت معها بنوع من السطحية الغارقة في الديماغوجية وأثثت لنفسها فضاء منغلقا وصمّت آذانها حتى لمن يصرخ ويحتج على جدرانها (حاملي الشواهد العليا). وتزداد خيبات الأمل ضراوة، ومع طول انتظار قدوم فجر برلماني جديد ترسم في الأفق تشوهات تلو تشوهات، وعوض أن يكون البرلمان صانعا للحدث يصبح موضع الحدث والحديث بين كل جنبات المجتمع بفعل كثرة زلاته وتنوع آهاته. فكيف السبيل إلى الخلاص في ظل تسيد هذا الجسم البرلماني العليل الذي تبعث منه مقاليد «البرلماني الرحالة» الذي ينتقل من مرعى إلى مرعى بحثا عن الكلأ والماء السياسيين، مما أفقد المشهد البرلماني مصداقيته ونتجت عنه تشوهات تكتلية حزبية رهنت الفعل البرلماني للمعارضة والأغلبية على حد سواء، جسم استوطنه أيضا «برلمانيون أشباح» لا تجد ضالة أنسنتهم إلا بعد حلول موعد الدخول، فيتمادون في أفعالهم دون موجب حق، وينشغلون عن تمثيليتهم في قضاء مآربهم. ويزداد الدخول البرلماني المغربي انحصارية وانكفائية وتضعف إمكانات التعويل عليه في إحداث التغيير والانخراط في البناء الديمقراطي بفعل عوز الفعالية، أي فقدان «القدرة capacity»، أي امتلاك الحقوق والموارد القانونية، سواء كانت مالية أو بشرية أو تنظيمية، للقيام بمهامه والاضطلاع بواجباته ومسؤولياته الوطنية و«القدرة المؤثرة» relational، ويعنى بها امتلاك السلطة والاستقلال الكافيين لمراقبة أعمال الحكومة. وبالإضافة إلى هذه المعطيات، هناك صعوبات قائمة لتبلور ما يسمى ب«المأسسة البرلمانية»، فحسب تعبير «فليب نورتون»: البرلمانات التي تتسم بدرجة عالية من المؤسسية هي الأقدر على تقييد الحكومات والبرلمانات الأقل شأنا في هذا الإطار هي غير القادرة على ممارسة ضغوط على الحكومة. وأشار «نورتون» إلى أن شروط مؤسسية البرلمان هي التنظيمات المفصلة داخل البرلمان والتي تترابط في ما بينها تحت مظلة البرلمان، ثم استقلال البرلمان أي كونه كيانا مستقلا ومميزا عن المؤسسات الأخرى، ثم تكيف البرلمان أي التكيف تجاه البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمثل فيها. ويمكن استحضار أهمية مسار مأسسة العمل البرلماني ودوره في تقوية دور المؤسسة التشريعية في مجال إعداد وتتبع وتقييم السياسات العمومية، وبالتالي يتكرس المشهد المعتاد: حكومة مهيمنة على المخرجات التشريعية وتملك من الأدوات الدستورية والوقائع الممارساتية ما يشفع لها في الانفلات من المراقبة والعقاب، مقابل برلمان مثقل بهوانه وعدم استقلاليته واستسهاله لقيمته وركونه إلى حالتي التبعية والاستتباع والمكوث في الدرجة السفلى. إن البرلمان المغربي بحاجة إلى إحداث قطيعة مع الممارسات الاعتلالية والتأسيس لتيمات عمل برلماني متسق مع تطلعات المواطنين، عمل يستند في محوريته إلى الاحترافية في ظل تعاظم التحديات على المستوى الوطني أو على النطاق الدولي، خصوصا ما تفرضه مقدرات العولمة من إكراهات وتنافسية وبروز ما يصطلح عليه ب«عولمة التشريع»، فهو في أمس الحاجة إلى مصالحة مع الذات ومع المواطن الذي يعد أسّ العمل البرلماني، برلمان مفتوح على الجمهور والرأي العام والهيئات المدنية في سياق بنية تواصلية/تفاعلية إيجابية ومتجددة، برلمان شفاف في أداء أعماله من خلال إتاحة المعلومات الضرورية للمواطنين، وخضوع البرلمانيين للمساءلة القانونية وعدم تكريس معطى الإفلات من العقاب بموجب المساومات السياسية الضيقة التي تضيع معها مصالح المواطنين وتكرس مقابل ذلك ثقافة المسؤولية الأخلاقية والسياسية. ولكي يتحقق الدخول البرلماني سيرا مع مقاسات البرلمانية المقارنة ويصنع لنفسه موقعا متقدما في النسق السياسي المغربي، لا بد من انتشاله من براثن العبثية والعدمية ومنحه معنى الرهانات في التعبير عن مطالب المواطنين وإحقاقها وتلقف الانتظارات وتقعيدها وأجرأتها بما يكفل أن تكون المؤسسة البرلمانية في موقع الصدارة للبناء الديمقراطي. عثمان الزياني - أستاذ باحث بالكلية متعددة التخصصات-الراشيدية