الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية في صورتها التي يدعيها نتنياهو ومن سبقه، ليس له سند في التاريخ، وهو مطلب تشبث به شارون إلى أن فقد الوعي، وتوارى أمره إلى أن وجد نتنياهو نفسه وجهاً لوجه أمام مطلب دولي متفق عليه، وهو إفساح المجال لقيام دولة فلسطينية، مع تمكين كل فلسطيني من حقه الشرعي أين ما كان. وعندها أحيى نتنياهو المطلب الذي خفيت خلفياته عن معظم الناس سياسيين وغير سياسيين. فما هي مدلولات هذا المطلب: «الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية»، اللغوية والتاريخية والاجتماعية؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب النظر في ست قضايا، مع الاختصار الشديد، نظراً لطبيعة الصحافة وما يسمح به حيز الصحيفة. وقد فصلنا القول في هذا الأمر في كتيب لنا عنوانه «التوراة والشرعية الفلسطينية»، وكان قد صدر في سلسلة كتاب الجيب (رقم 41)، ونريد هنا، بمناسبة دعوى نتنياهو ومنظريه، أن نقرب معاني العبارة «إسرائيل دولة يهودية» إلى أفهام الناس من غير المختصين: هل يهود اليوم هم الذين كانوا يكونون سكان فلسطين التاريخية الحقيقية؟ وهل نزلت الديانة اليهودية التي دعا إليها سيدنا موسى عليه السلام في أرض فلسطين؟ وماذا يعني مصطلح «إسرائيل»؟ وهل كان مفهوماً سياسياً يمكن أن نؤسس عليه اليوم ما يدعيه نتنياهو؟ وهل كانت هذه الديانة تُعرف أيام سيدنا موسى باسم «اليهودية»؟ وما علاقة هذا الإطلاق بالدولة اليهودية وما حدودها؟ من هم يهود اليوم وما علاقتهم بفلسطين؟ وهل يمكن أن يكون الدين وطناً؟ -1 ولنبدأ بالجواب عن السؤال الأول: سكان فلسطين الأصلاء. لم يكن سكان أرض فلسطين، التي يسميها منظرو الصهيونية «إسرائيل»، منذ خلقها الله، عبرانيين يهوداً، ولا يوجد في التاريخ ما يدل على هذا. فسكانها فلسطينيون أومن نَسَلَ منهم الفلسطينيون، منذ كانت الأرض. وعندما دخلها سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكان عبرياً- لأنه عبر إليها من أرض الفرات، ولم يكن يهودياً لأن اليهودية لم تكن موجودة- وجد بها سكانها الفلسطينيين من بني كنعان. -2 ولم تنزل ديانة سيدنا موسى على الإطلاق في أرض فلسطين، فالتوراة تشهد أن الرب تجلى لسيدنا موسى عليه السلام، أول ما تجلى، وهو في «مَدْيَنَ»، التي كانت تقع غرب الجزيرة السعيدة شمال البحر الأحمر من ديار مصر، في الطرف الشرقي الجنوبي لسيناء. وكان الظهور الثاني، في صحراء سينا، كما جاء في سفر الخروج الإصحاح التاسع عشر. ومات موسى عليه السلام، ولم يدخل أبداً فلسطين، كما هو مثبت في سفر التثنية. والذي دخل فلسطين هو خادمه يشوع، وتزعم حملة إبادة لا نظير لها، فقتل من الطفل إلى الشيخ، وأباد ما على مدن فلسطين من حيوان، وأحرق ما كانت تينع به من شجر ونبات. وقد خلد العهد العتيق هذه الأحداث، وهي موثقة توثيقا كاملا في السفر المسمى باسمه «يشوع». ويمكن للأمم المتحدة وكبار محاكم الدنيا أن يعودوا إليه. فَعَل يشوع هذا بأهل فلسطين الأصلاء، ورغم كل ذلك ظل بفلسطين أهلها بدون وصف، ومنهم من تهود لما رأى في الدين حقاً إذ ذاك، ومنهم من تمسح ومنهم من أسلم فيما بعد، ومنهم أناس لم يكن لهم دين وهم أصلاء. فأي «إسرائيل» أظلت هؤلاء جميعاً عندما سميت إسرائيل؟ -3 أما أصل تسمية «إسرائيل»، فيعود إلى اسم سيدنا يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، الذي سماه الرب به، ومعناه: «الذي أسرى إلى الرب»، كما جاء في التفاسير الإسلامية، لأن تفسيره التوراتي العبري خرافة ما بعدها من خرافة، ولا تعنينا هنا. ثم أُطلق الاسم على العبرانيين من نسل إبراهيم، ولم يطلق اسماً على قطعة من أرض إلا بعد زمن طويل من دخول العبرانيين إلى فلسطين. فقد قُسمت الأرض إقطاعات على القبائل وعددهم اثنتا عشرة قبيلة، بعدد أبناء يعقوب وأحفادهم. وصار جماع هذه الإقطاعات يعرف باسم «إسرائيل» تحت سلطان سليمان الذي أصبح ملكاً على إسرائيل حوالي 970 ق.م. وكيف ما كان الحال، فلم تكن المملكة تمثل كياناً مترامي الحدود، وكل ما وصلنا من كتابات في العهد العتيق وغيره من وثائق العصر، يحصر عظمة ملك سليمان في القدسالفلسطينية العريقة العبوسية (نسبة إلى أهلها العبوسيين)، ولا نملك ما يوثق امتداده السياسي، باستثناء العلاقات التي كان يربطها مع سكان الجوار. ودام حكمه أربعين سنة، وهي الفترة الوحيدة في التاريخ التي عرفت قيام حكم يهودي كامل حتى 1948. إذاً هكذا كانت دولة إسرائيل أيام عزها، محدودة في المسافة ومحدودة في السلطة، وليس عندنا ما يدل على عظمتها خارج «أورشليم». ولما مات سليمان انفرط عقد ملكه (حوالي 930 ق.م.) وصار قسمة بين وريثيه، فانقسمت إسرائيل قسمين، احتفظ شمالها باسمه القديم: «إسرائيل»، وسكنه عشرة أسباط، واستقل الجنوب بنفسه في رقعة صغيرة جداً محدودة جداً، وسميت «يهودا» وسكنها سبطان فقط. ومن هذه جاءت صفة «اليهودية» و«اليهودي» للدين ولمعتقديه. -4 فالديانة «اليهودية» والمعتقد «اليهودي» استعمالان لم يُعرفا أيام سيدنا موسى. ولا وجود لهما بهذا الاستعمال في كل أسفار التوراة الخمسة المتفق عليها عند اليهود. وقد ظهرا بعد الانقسام المذكور، ارتباطاً بهذا القسم من الأرض: مملكة «يهودا»، في استعمال إغريقي-لاتيني، استعمله الرومان في بداية القرن الأول المسيحي. ولما انضمت إليها السامرة والجليل تحت حكم حاكم روماني حوالي 44 م، عَمَّ الاسم هذه المنطقة، ثم راج الاسم بعد أن استعمله بولس الرسول في «رسائله»، ووُصف سكانها منذ ذاك باليهود نسبة إليها، وهم المؤمنون ب«اليهودية» عندما اكتسبت اللفظة صفتها من أرض هذه المملكة الصغيرة. وعليه ف«الدولة اليهودية» متقزمة في الحجم ولا ترجع في أصولها إلى مصادر يهودية، ولم تتعد حدودها هذه الأحياز المشار إليها. ودولة «إسرائيل السليمانية» التاريخية، مجهولة الهوية ومحدودة الامتداد. وإذا أراد نتنياهو أن يقيم دولته على هذه الاعتبارات فلا بأس من أن يخاطب أهل الأرض ليحاوروه على هذه الأسس التاريخية السليمة، وهنا ينسجم مع الواقع التاريخي الحق لا الخيال الأسطوري الذي لا ينبني على أساس. وهنا يفاوضهم في أمر اليهود الذين يرتبطون حقاً بهذا الحيز من الأرض. لكن من هم اليهود اليوم؟ 4- يهود العالم اليوم اليهود اليوم في تقسيم أول، يهود بإطلاق، وفيهم الفرع السامري، ولهؤلاء توراتهم الخاصة وهيكلهم الخاص، ولا يمثلون في »دولة إسرائيل» اليوم إلا قلة. وفي تقسيم ثان، يهود باستثناء السامريين، وهم فرعان: بنو إسرائيل العبرانيون، وهم أحفاد إبراهيم، وأصبحوا يعرفون بالسفرديين، وهي تسمية متأخرة ترتبط بالحضارة الأندلسية. من هؤلاء من خرج من فلسطين حتى قبل تحطيم الهيكل الأول (587 ق.م) والثاني (خرب سنة 70 ب.م)، واختاروا لهم أرضاً أخرى تبعاً لممالك اليونان والرومان، وتبنوا ثقافة هذه الأمم. ومنهم قسم قليل نزح مع الفينيقيين إلى مواطن أخرى في بلاد الشرق والمغارب. وقسم كبير من اليهود السفرديين لا علاقة لهم بأرض فلسطين إطلاقاً، فهم يَمَنِيُّو الأصول وهم من سكان الشام الكبرى وأرض ما بين النهرين والجزيرة العربية ومن أرض المغارب القدامى، عانقوا اليهودية رفضاً للوثنية التي لا تخضع لعقل وكانوا هم عقلاء. ومنهم «الإشكناز»، وهم الذين يكونون الطبقة الحاكمة المستبدة بالأمور اليوم، ولا علاقة لهم بفلسطين التاريخية أصلا. كما يدل عليه التاريخ واسمهم «إشكناز» الذي يعني في أصل اللغة: ألمانيا»، وعمم اللفظ ليطلق على كل يهود أوروبا. وأصول كل هؤلاء ترتبط في البدء بمجموعات من سكان آسيا- أوروبا، وخصوصاً منهم «الخزر» الذين قطنوا القوقاز على امتداد شمال ما بين بحر قزوين والبحر الأسود، (جنوبروسيا حالياً). وفي القرن الثامن الميلادي تهود ملك هؤلاء الخزر فتهود معه شعبه. وهم أصل «الإشكناز» ومن التحق بهم من متهودي أوروبا. وهم يهود ديناً، وأوروبيون-أسيويون مَوَاطِنَ لا مشاحة في الأمر. وظهر فيهم فرع حديث، عُرف أصحابه باسم «ناطوري قارتا» (حراس المدينة)، وهؤلاء لا يعترفون بدولة إسرائيل الحالية، ففضل قسم كبير منهم العيش خارج فلسطين، خصوصاً في أرض أمريكا. -5 سكان فلسطين-إسرائيل اليوم فالبعض من هذا الخليط، مع السكان الأصليين الذين أشرنا إليهم، وفيهم فلسطينيون تهودوا لما بلغتهم دعوة سيدنا موسى، وفيهم يهود تمسحوا مع بعض السابق ذكرهم، لما بلغتهم دعوة سيدنا عيسى، وفيهم من هؤلاء وهؤلاء أناس دخلوا الإسلام لما بلغتهم دعوة سيدنا محمد، وفيهم أناس لا علاقة لهم بدين. يوجدون اليوم في فلسطين-إسرائيل، فمن من هؤلاء في رأي نتنياهو ومنظريه الأحق بأن يرتبط بأرض التاريخ التي لم ترتبط يوماً باليهودية ولا كانت فيها دولة إسرائيلية بالمواصفات التي يتحدث عنها نتنياهو، وليس له في قوله معتمد في أسفار التوراة يستنده. وكيف ما كان الحال، فدعواه هذه تجعل من الدين وطناً وهذا لم يحدث أبداً في التاريخ. فما معنى أن يكون الدين وطناً؟ -6 الدين الوطن إن الناظر في فعل الصهيونية الملحدة أصلا (كبار منظري الصهيونية وقادة البلاد في الأربعينات شيوعيون لا يؤمنون بدين) سيجد أنها تصنع واقعاً جديداً في تاريخ الإنسانية، ذاك أنها حولت الدين ليصبح وطناً، أي أن كل يهودي هو بالطبع «إسرائيلي» نسبة إلى «دولة إسرائيل» القائمة اليوم، بسبب دينه لا بسبب أصوله. و لو كان الدين وطناً لطالبت بقية الخلق بأربعة أماكن في الدنيا لا غير. فيطالب البراهمة بالمواطن التي بين ضفتي نهري «الهندوس» و«الكانج» في الهند. ويطالب أتباع بودا بأدغال النّبَال. ويطالب المسيحيون بمذاهبهم، بفلسطين، وبمدينة الناصرة بالضبط، وهم وحدهم ولا غير، لأن سيدنا عيسى ولد حقا في الناصرة بفلسطين، وتلقى الوحي حقا في فلسطين. ولو كان الدين وطنا لطالب كل المسلمين بجميع مذاهبهم، بالعَوِدِ إلى «المملكة السعيدة»، وإلى مكة بالضبط،، لأن في محيطها تلقى الرسول عليه الصلاة والسلام الوحي. ومن البين أن فكرة «الدين الوطن» عند الساسة الإسرائيليين، تختلف كل الاختلاف عن مفهوم «بلاد الإسلام». فالمراد من مفهوم بلاد الإسلام، أن تكون العقيدة هي الجامعة في أوطان متعددة تختلف أجناساً وشعوباً وحدوداً ومذاهب سياسية ولغات أيضاً. والجامع بينها هو وحدة المعتقد وأخلاق الإسلام في مفهوم الأخلاق الواسع. ومما يؤكد هذا، ما ثبت في الأثر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه بعد فريضة الحج، قال للناس: «يا أهل الشام شامكم، ويا آهل اليمن يمنكم»، يحث الذين أرادوا الاستقرار في مكة من الحجاج، على العود إلى ديارهم حتى لا يكون الدين وطنا، ويضطرب أمر الناموس العام. نظرٌ منه بعيد وهو في صبح الإسلام. في حين أن فكرة الدين الوطن عند الساسة الإسرائيليين- ولا أقول اليهود بإطلاق، لأن فيهم من يرفض هذا الزعم أمثال طائفة »ناطوري قارطا» (حراس المدينة) وغيرهم- في تآويلها الملتبسة للنصوص، تعني أن اليهودي لا يكون يهودياً إلا في أرض واحدة هي الأرض الموعودة المتصورة. ومن يعيش خارجها يجب أن يؤدي قيمة مالية سنوية بها يشتري غيابه، أو بها يعوض ما تعذر تحقيقه إذا ضاقت «الأرض الموعودة» عن أعداد اليهود في زمن ما، وهو أمر لم يتحقق في يوم من الأيام. ومن المعلوم أن هذه وسيلة أخرى لإغناء خزينة إسرائيل . ألم تكن هذه الفضفضة في النسب إلى دين وإلى وطن هي السبب الذي منع إسرائيل من وضع تعريف ل«ليهودي» حتى اليوم ؟ فليس هناك تعريف رسمي ل«ليهودي» في دولة إسرائيل، كما أن إسرائيل لا تملك دستوراً غير التلمود والتوراة، لأنها دولة يهودية لائكية، على غرابة الجمع بين المتناقضين. والغريب أنه غاب عن نتنياهو وساسته، ما يكتبه اليهود اليوم، حول تاريخ الديانة اليهودية، وقد بين هؤلاء المؤرخون اليهود، أن كل ما جاء في العهد العتيق، عن إسرائيل وأصولها وسكانها وتاريخها، هو مجرد نسج خيال. وأن الديانة اليهودية هي أمر داخلي وُلد ضمن الصراع الفرعوني، وأن اليهودية هي دين دعوي ككل الأديان، اعتنقه كثير من البشر في بقاع من الأرض متعددة، ولا يرتبط بأرض، وأن التاريخ اليهودي العام لم يكتب إلا في القرن التاسع عشر، وفيه كثير من الصناعة، وأن ابن گريون، أول رئيس «لدولة إسرائيل»، اعتبر الفلسطينيين في كتاباته الأولى جزءاً من السكان الأصليين يجب إدماجهم في الدولة بصفتهم أهل الأرض. وغَيْرُ هذا كثير، ورد في كتابات عبرية وغير عبرية. وأكتفي لضيق الوقت بالتلميح إلى ثلاثة من هذه الكتب التي شككت في كل تاريخ اليهودية وإسرائيل، مما تناقل عن الأجيال ومما جاء في العهد العتيق. ومؤلفوها يهود وهم أحياء اليوم. والكتب هي: 1- Les Secrets de l'Exode: L'origine égyptienne des Hébreux, Messod et Roger Sabbah, Paris 2000. 2- Au nom de la Torah : Une histoire de l'Opposition juive au Sionisme, Yakov M. Rabkin, Les presses de l'Université Laval, 2004. Comment Le peuple juif fut inventé, Shlomo Sand, Fayard, Paris, 2008. 3- قليل من كثير يبين أن ربط دولة إسرائيل اليهودية بتاريخ قديم هو مجرد خرافة لا يوجد ما يدل عليه حتى في كتاب التوراة. وهذا ما بين بعضاً منه الكتب أعلاه. أما وصف «دولة إسرائيل» بالديمقراطية، فيكفي أن يرجع القارئ إلى الكتاب الثاني والثالث ليعرف هذه «الديمقراطية». ولا يسمح حيز الصحيفة بعرض كل هذه الآراء بتفصيل، وقد نشرنا مضمونها في أبحاث لنا، وبعضها قيد الطبع. أحمد شحلان