امتلأت قبة البرلمان، على غير العادة، بالنواب والمستشارين وكساها اللون الأبيض وكأنها ترغب في التطهر والتعافي من أمراضها. والمناسبة هي افتتاح الدورة الخريفية للسنة الرابعة من الولاية التشريعية الثامنة، وهي دورة يترأسها، وفق الفصل 40 من الدستور، الملك ويلقي خلالها خطابا لا يكون موضوع نقاش، كما ينص على ذلك الفصل 28 من الدستور، يحدد فيه التوجهات العامة للمرحلة القادمة. ولأن المناسبة شرط، كما يقول الفقهاء، نرى لزاما أن نتطرق إلى عمل هذه المؤسسة التي يفترض أن تتولى تمثيل المواطنين والتشريع نيابة عنهم ومراقبة السلطة التنفيذية وتنشيط العمل الدبلوماسي الموازي، خاصة وأن هذه الدورة تفتتح على إيقاع مطالبات بإصلاحها. إن البرلمان لا يقوم بوظيفته التمثيلية لأنه يفتقر إلى الشرعية بوصفه برلمان أقلية لا تتوفر فيه مقومات التمثيلية، ويمكن اعتباره، في أحسن الأحوال، مؤسسة وساطة. وهو برلمان لا يقوم بوظيفته التشريعية بسبب نظام العقلنة البرلمانية الذي يسحب منه المبادرة التشريعية ويمنحها للحكومة، مما يجعله غرفة تسجيل أو رجع صدى للحكومة، وخير مثال هو الفرق الشاسع بين مشاريع ومقترحات القوانين، سواء من حيث العدد أو النوعية، دون أن ننسى نوعية أعضائه الذين ما زال أغلبهم يخلط بين مهام البرلماني كمشرع ونائب عن الأمة وبين المستشار الجماعي الذي يتولى وظيفة خدماتية في منطقة محدودة، وهو الخلط الذي لم ينج منه حتى كاتب الدولة الأسبق في الداخلية حين برر ترشحه للبرلمان برغبته في خدمة منطقة الرحامنة! وليقوم البرلمان بمهامه يلزمه أن يتشكل من برلمانيين بمواصفات، منها المستوى المعرفي والفهم والأمانة والقدرة على المواكبة. وهذه مواصفات مفقودة لأن قبة البرلمان أصبحت، للأسف، مأوى للأعيان والباحثين عن واجهة لتلميع صورتهم وتأمين مصالحهم وقضاء حوائجهم، ومظلة للراغبين في التغطية على نشاطاتهم أو تبييض صورتهم باستغلال بشع للحصانة في غير ما وضعت له، مما أفرز أمراضا مزمنة، مثل ضعف الالتزام السياسي، أو ما يصطلح عليه بالترحال، وتدني مستوى النقاش السياسي وكثرة الغياب. وهو برلمان لا يقوم بوظيفته الرقابية لأنه يحصر مراقبته في وسيلة وحيدة هي الأسئلة الشفوية مع ما يلاحظ عليها من تكرار ورتابة ومزايدة وطغيان البوليميك والطابع الخدماتي وغياب التنسيق بين الغرفتين واستهتار الحكومة بها من خلال غياب الوزراء وكثرة الإنابات. وبالمقابل، هناك غياب شبه تام لباقي وسائل المراقبة الأخرى، حيث لم يقدم ملتمس الرقابة إلا مرتين، ولم تشكل إلا ست لجان لتقصي الحقائق منذ 1963. والسبب راجع إلى النصاب القانوني المطلوب لتشكيل هذه اللجان ولتقديم ملتمس الرقابة، وإلى ضعف أداء المعارضات المتعاقبة والتزامها الضمني بسقف موضوع سلفا. وكل ما سبق لا يعفي الأحزاب من المسؤولية، فقد فقدت تدريجيا بريقها وأصبحت، في أغلبها، مجرد دكاكين انتخابية ومحلات لبيع التزكية واستراحة لأصحاب المصالح والكائنات الانتخابية التي لا تنتعش إلا في المواسم الانتخابية، وابتعدت أغلب هذه الأحزاب عن وظيفتها التأطيرية ولم تعد قادرة على التحكم في نوابها، مما أفرز أمراضا عجز الكل، حكومة وبرلمانا وأحزابا، عن معالجتها رغم أن متابعة البرلماني مهمة حزبه أولا وأخيرا، كما هو الشأن في الديمقراطيات العريقة، مثل بريطانيا التي يتولى فيها رؤساء الفرق وحدهم منح ترخيص الغياب للبرلماني. ومن مساوئ كثرة الترحال صناعة الخلط لدى الرأي العام وتشويه سمعة المؤسسات والانتقاص من قيمة البرلمانيين ونشر ثقافة اليأس وسلوك العزوف، ولذلك تلزم إعادة النظر في مواصفات النخب الراغبة في الترشح والقطع مع منطق الهواية والاستعانة بالكائنات الانتخابية ومراجعة شروط منح التزكية الحزبية والانفتاح على نخب ملتزمة ومسيسة وتدرجت في العمل السياسي من مختلف درجاته ومراحله. لقد راكم المغرب تجربة برلمانية طويلة استغرقت 47 سنة جرب خلالها العمل بنظام الغرفتين من سنة 1963 إلى 1965، وسرعان ما أغلق البرلمان أبوابه فاتحا المجال لحالة استثناء عمرت خمس سنوات، ثم جرب بعدها نظام الغرفة الواحدة إلى حدود 1996، وهو النظام الذي كان موضع انتقاد شديد من قبل المعارضة بسبب نظام الاقتراع المختلط الذي كان فيه الثلث الناجي يُختار بالاقتراع غير المباشر ويؤثر على الخريطة السياسية كما أفرزتها صناديق الاقتراع «المزورة بطبيعة الحال».. ونتذكر خطاب العرش لسنة 1996 الذي أعلن فيه الحسن الثاني العودة إلى نظام الغرفتين بهدف توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وضمان تمثيلية عادلة لفاعلين آخرين وتحقيق نوع من الانسجام بين البرلمان ومؤسسة الجهة وتفعيل المراقبة البرلمانية على الحكومة. وقد كانت هذه هي الأهداف الظاهرة التي لم يتحقق منها شيء إلى يومنا هذا، ولكن تحققت، بالمقابل، أهداف خفية لم تعد اليوم سرا. لكل ما سبق، تلزمنا إعادة النظر في تجربتنا البرلمانية باستحضار أن شكل البرلمان ومستواه ومردوديته لا تنفصل عن طبيعة النظام السياسي، ولذلك يجب إعادة النظر في نظام فصل السلط في اتجاه توازنها وتنظيم العلاقة بينها حتى لا تطغى الواحدة على الأخرى، وبوابة ذلك نقاش صريح ومسؤول تشارك فيه كل قوى المجتمع. وتلزمنا إعادة النظر في النظام الانتخابي ليفرز أغلبيات موحدة ومنسجمة وقوية ويقطع مع البلقنة والأغلبيات الهجينة. وتلزمنا إعادة النظر في طريقة التعامل مع الفاعلين السياسيين للوصول إلى تعددية سياسية مسؤولة تعكس حقيقة التمثيل في المجتمع. وتلزمنا مراجعة قانون الأحزاب في اتجاه تقويتها وإسباغ طابع الشفافية والديمقراطية على عملها وتحصينها من الاختراقات السلطوية ومن ذوي النفوذ. وتلزمنا إعادة النظر في آليات ووسائل اشتغال البرلمان ليصبح مؤسسة منتجة وفاعلة بشكل دائم، وأول خطوة لذلك هي إلغاء نظام الدورات التشريعية كما أفرزته التجربة الفرنسية وتعويضها بنظام السنة التشريعية. إن أقدمنا على هذه الخطوات يمكن استساغة الحديث عن ضعف الإمكانيات والرفع من التعويضات ومد الفرق البرلمانية بالخبراء وتوفير المزيد من ظروف الراحة للبرلمانيين، وإلا فإننا نضيف إلى التبذير الحالي تبذيرا آخر. ولا خير في من لا غيرة له على مال عمومي يقتطع من عرق مواطنين معوزين ليستفيد منه منتفعون مترفون. أين العدالة إذن؟ وأين المواطنة؟ بل أين الرحمة؟