بيني وبين الحياة وعد صامت بالوفاء لكل شيء، للقيم والانتماء والأصدقاء والأحبة، للمبادئ والأحلام والظنون والأسئلة.. لكل الأضداد التي أحملها، والأحاسيس المتطرفة التي تعصف بي دون استشارة، لكل الهزائم والكبوات الصغيرة والكبرى.. فقد رسبت بامتياز في امتحانات الحب المعقدة، وسقط رفاقي صرعى في حلبة الصداقات الزائفة، وبقيت وحدي أستعيد قدرتي على التحكم في حواسي وأفراحي المؤجلة دوما.. أبدا.. الصداقة تصنعها بنفسك فلا تغضب إن تكسرت وآذتك.. والحب صفقة سرية، فلا تحزن إن خرجت خاسرا، مخذولا تلملم شظايا ذكريات تجرح أناملك وتقطع شرايينك.. حينما يخونك صديق، تشعر كم أنت وحيد وضائع ومغترب، تصيبك الدهشة والغثيان.. تتوه بحثا عن جواب لذهولك، تحاول أن تخفي استياءك فتبتسم بمشقة وتشرب ماء بطعم مر يزيد ظمأك ويشعل النيران في جوفك، تحاول تجميل وجهك فيزداد قبحه، فتتحاشى النظر إليه في المرآة كي لا يرعبك، تنظر إليه ولا تراه لأنك مشغول عنه بسواه.. بتلك الأسماء التي تجرحك حين تذكر تلك الوجوه التي راهنت على أنها توأم روحك فخسرت الرهان، ظننتها سترافقك دائما تفرح لأفراحك وتحزن لجراحك، تسند ظهرك وتقويك وتؤازرك.. تبادلك المحبة دون شروط ولا مقابل. الأصدقاء الخونة كالجلادين، يسجنوك دون تهمة، ويعذبوك دون محاكمة ويتركونك خائر القوى، تصرخ دون صدى لصوتك المنكسر على عتبات الذكرى، تصارع ندوبك إلى أن تشفى.. فتستيقظ ذات صباح وتقرر فجأة أن تنسى، يبدو لك كل شيء بألوان أشد نصاعة وأقل توهجا، كالمستفيق من غيبوبة أو المعافى بعد حمى طويلة وهذيان. الهذيان أسئلة موجعة مسترسلة تلهب الجسد والجفون والذاكرة.. الهذيان سقوط أفقي كي تنهض من جديد وتقف كنخلة شامخة.. الهذيان حمم النفس الملتهبة، وصراع لطرد الأشباح والأكاذيب والأقنعة المرعبة.. الهذيان طقس سري تمارسه المشاعر بصوت عال.. الهذيان نص تبدأ كتابته ذات مساء، ولا تذكر كيف ولا متى أنهيته ولملمت أوراقك المبعثرة وحاسوبك المجهد من السهر، ومسحت رموشك المبتلة، وأطفأت النور واستقبلت الأرق في انتظار الهدوء الذي يعقب الأعاصير والعواصف، يرحل الغمام ويظهر قوس قزح ويخرج الصغار ليبحثوا عن دماهم ودببتهم فيعلو صراخهم وضحكاتهم لتنسينا هذيان الطبيعة.