الحلقة 39 : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
لنعد إلى الخطأ الذي ارتكبته «الجمهور»، حسب قولك، ضد واحد من المساهمين في رأسمال هذه الصحيفة، وأقصد هنا المحامي عبد اللطيف وهبي؟ - سأروي لك الواقعة بالتفصيل. لكن دعني أكمل حديثي حول طاقم تلك الصحيفة، التي لم تصمد طويلا واندثرت في صيف عام 2002. اندثرت لأنها صدرت في لحظة اختلط فيها، للأسف، الخيال بالواقع، وهو خلط جعل الواقع خيالا والخيال واقعا، حتى لا أقول شيئا آخر. أول محرر أجريت معه معاينة وتم توظيفه هو إدريس عدار. كان عدار قد أكمل دراسته الجامعية، بيد أنه لم يجد عملا مناسبا، وعاش بطالة مقنعة. لم تكن له معرفة سابقة بالعمل على الكومبيوتر، فطلبت منه أن يتدرب على ذلك، وكان أن أتقن العمل على الجهاز خلال فترة قياسية. كان متحمسا للعمل الصحافي. عدار شاب هادئ جدا، يعمل في صمت، وهو مثقف، وله دراية كبيرة بالتيارات الإسلامية، وقد ارتأيت أن يعمل في القسم الثقافي، حيث أبلى فيه بلاء حسنا. ربما لو استمرت «الجمهور» لكان قطعا من نجومها. جاءت معي أيضا خديجة العامودي بعد تجربة قصيرة مع «الصباح» ، وهي صحافية جيدة. تفهم بسرعة قياسية المطلوب، وتكتب بأسلوب جيد، على الرغم من أنها درست في الأصل الفرنسية. بعد تجربة «الجمهور» توزعت إلى حد ما مشاغلها، خاضت معي تجربتين الاولى في «إيلاف» وتجربة أخرى عندما عدت إلى «الشرق الأوسط» للمرة الثالثة. كان ضمن الطاقم أربعة من طلابي: سعيد بلفقير، وهو موهوب منذ كان طالبا، مطلع، له حس صحافي عال، منضبط، مهذب، ومن طراز المحررين الذين يمكن أن يعملوا في جميع المجالات. كما أنه أنيق مظهرا وسلوكا. واشتغل معي أيضا إسماعيل روحي، وهو شاب يذكرني ببداياتي في المهنة. يقرأ كثيرا، وهي ميزة مهمة. يستوعب المطلوب بسرعة فائقة، ويمكن أن ينجز الكثير إذا عرف من يعمل تحت إمرتهم كيف يفجرون طاقاته، متفوق في مجال الإبحار في الانترنيت، ومكانه الطبيعي محرر رئيسي في المطبخ. حسن بامو له اهتمامات رياضية، لذلك عمل في القسم الرياضي. يتسم بقدر وفير من الاستقامة، ولديه جَلَد ملحوظ على العمل. ثم هناك حنان بكور، وهذه صحافية تصلح للعمل الميداني، خاصة في مجال التحقيقات والاستطلاعات. لديها استعداد جيد للوصول إلى المعلومات. كان يمكن أن تصلح كثيرا في مجال الحوارات لو وجدت التوجيه السليم. كانت هناك أيضا ثلة من الشبان الجدد الذين بدؤوا مشوارهم المهني مع «الجمهور»، ولمست فيهم حماسا منقطع النظير، ومنهم يونس البضيوي وسميرة هدي وبديعة البوعبيدي وإبراهيم الشليح وسعاد حمامي. وعمل معنا في التصوير محمد كركش. كانت هناك أيضا مجموعة شابة من الإداريين، حيث انتقلت معي من «الصباح» مليكة الحبشة، التي أنيطت بها هذه المرة مهمة إدارية. كانت الصحيفة تحتاج الى إدارة لها دراية بأمور التسيير الإداري والمالي، واستعان عبد الكريم بن عتيق بشقيقه رشيد في هذا الجانب. طيب، هل كان الخطأ الذي ارتكبته الصحيفة ضد وهبي له طابع إداري؟ - سأروي لك ما وقع. كان الأخ عبد اللطيف وهبي قد رفع دعوى ضد «العصبة المغربية لمحاربة أمراض القلب والشرايين»، التي يترأسها البروفيسور بنعمر، على أساس أن لها مسؤولية مباشرة في ظروف وفاة القاضي أحمد المجدوبي، رحمه الله، الذي كان يزور أحد المرضى في مستشفى ابن سيناء، وداهمته أزمة قلبية، لكن عندما نقل إلى الجناح الذي تشرف عليه العصبة، يبدو أنهم اشترطوا أن يسدد رسوم العلاج حتى تقدم له الإسعافات، وكان أن تفاقمت الأزمة القلبية وتسبب ذلك في وفاته. كان ملف الدعوى معروضا أمام المحكمة في الرباط، وكان الأستاذ وهبي يترافع نيابة عن أسرة القاضي الراحل. وفي اليوم المخصص لإحدى الجلسات، نشرت رسالة في «الجمهور» في صفحة البريد تنوه بعمل «العصبة المغربية لأمراض القلب والشرايين». كتبت تلك الرسالة السيدة الزاهي دادي الصقلي، وكانت وقتها من النساء القياديات في حزب «التجمع الوطني للأحرار» وشغلت أيضاً منصب مديرة ديوان محمد أوجار وزير حقوق الانسان في حكومة التناوب، كان يشرف على الصفحة عمر جاري. والواقع أن تلك الرسالة اشتملت على تنويه وإشادة حارة بعمل العصبة، وما تقدمه من خدمات متميزة للمرضى في جناحها بالمستشفى. ووردت فيها إشارات بأنها تقدم العلاج للجميع أو شيء من هذا القبيل، وأنها تعنى بجميع المرضى. وفي اليوم الذي نشرت فيه الرسالة، كما أسلفت، كانت هناك جلسة في المحكمة. ويبدو أن دفاع العصبة استشهد بتلك الرسالة في صحيفة مديرها المسؤول هو عبد اللطيف وهبي، على أساس أن الصحيفة التي يتولى إدارتها تقول كلاما مناقضا لما يقوله هو في المحكمة، كان هذا الأمر حجة قوية ومستمسكا ودليلا قاطعا، كما يقول القانونيون. وعلى الرغم من أني لم أكن أراجع مواد صفحة البريد، فإن ذلك لا يعفيني من المسؤولية. وفعلا، قررت أن أتحمل مسؤوليتي بالكامل. وما الذي وقع بعد نشر هذه الرسالة ضد وهبي في صحيفة هو مسؤول فيها؟ - اتصل بي الأخ وهبي، وهو في غاية الاستياء، وأبلغني بالواقعة وطلب مني تزويده باسم المحرر الذي أشرف على تلك الصفحة، وبالتالي تقع عليه مسؤولية النشر، لكني رفضت ذلك، وقلت له إن «مسؤوليتي الأخلاقية كرئيس للتحرير تمنع علي الوشاية بالمحررين». ووعدته باستفسار المحرر المسؤول عن الموضوع ومحاسبته إذا تطلب الأمر ذلك، لأن القضية كانت معروفة، ولا يمكن تبرير الخطأ. لكن ذلك لم يكن كافيا من وجهة نظر وهبي، مشيرا إلى أن من حقه معرفة المحرر ومحاسبته لأنه المدير المسؤول. كان كلام وهبي صائبا، لكنني فضلت أن أتحمل أنا المسؤولية. قلت له: «في هذه الحالة من يجب محاسبته هو رئيس التحرير، وأنا مستعد لذلك». وكيف سارت الأمور بعد ذلك؟ - لم يتخذ ضدي الشركاء أي إجراء، لكن تلك الواقعة جعلت الأجواء داخل الصحيفة مشحونة. وماذا كان موقف عبد الكريم بن عتيق بصفته مدير النشر؟ - لم يتطرق أبدا إلى هذا الأمر. وكيف كانت علاقتك به في تلك الفترة؟ - كانت ممتازة. وأتذكر أننا التقينا قبل تلك الواقعة بأيام، وروي لي أنه تحدث مع حميدو العنيكري، المدير العام للأمن الوطني أيامئذ، وتحدثا معا حول «الجمهور». وقال لي بن عتيق «إن العنيكري لديه انطباع سلبي عني». وماذا كان رد بنعتيق وهو يسمع مثل هذا الكلام في حقك؟ - قال لي إنه حاول تصحيح هذا الانطباع الموجود لدى العنيكري عني. وقال بن عتيق للعنيكري أيضا «إذا كنتم لا تثقون في طلحة جبريل، فهذا يعني أنكم لا تثقون فيّ شخصيا». ذلك ما نقله لي حرفيا بن عتيق. وأذكر أني شكرته على ذلك الموقف، لكن قلت له: «أنت وزير، وأنا مجرد صحافي تعودت أن أسمع كلاما حادا من بعض المسؤولين، لذلك من الأفضل ألا تقحم نفسك في هذه الأمور، ودعني أتحمل مسؤوليتي. وإذا كنت لست جديرا بثقة أجهزة الدولة، فأنا مستعد للمحاسبة». هل أفهم من كلامك أن يد لعنيكري «حاضرة» في إقالتك من «الجمهور»؟ - أقول لك جازماً أن ليس لدي معلومة في هذا السياق، بل وأستبعد هذه الفرضية، لكن ما أؤكده لك أنه من غير المستبعد أن بعض الجهات لم تكن راضية عن وجودي في صحيفة «الجمهور». ومتى تعرفت أنت على لعنيكري؟ - بكل صراحة لم أسمع باسمه قط قبل أن يتولى مهامه الأمنية، ولم يحدث أن تحدثت معه أو التقيت به حتى يوم الناس هذا. شاهدت فقط صوره في الصحف. كما شاهدها كل الناس. دعني أسألك عن تعيين بنعتيق وزيرا في حكومة التناوب. راج أنك لعبت دورا بطريقة غير مباشرة في ترشيحه للاستوزار؟ - الموضوعية تقتضي أن أقول أمرين: أولا، هو الذي اجتهد حتى عين وزيرا، خاصة أنه برز كقيادي شاب داخل قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. الأمر الثاني، أنني لم أترك مناسبة إلا عبرت عن رأيي في أنه يستحق المنصب. كان يفترض أن يعين في حكومة التناوب عام 1998، وكان مرشحا، لكن كما سمعت، فإن نوبير الأموي اعترض على استوزاره لأنه يحتاجه في النقابة. وقبل أن تنتصف ولاية حكومة التناوب، ارتأى أحمد الحليمي، وكان هو الرجل القوي، كما نعلم جميعا في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، إدخال مجموعة من الشباب إلى الوزارة، وكان أبرز المرشحين، كما سمعت من الحليمي نفسه، عبد الكريم بنعتيق ونبيل بنعبد الله. وإذا كان هناك فضل ينسب إلى شخص كان وراء دخول بنعتيق إلى الحكومة، فإن ذلك الفضل ينسب إلى الحليمي. والأمانة تقتضي القول إنه كان مقتنعا به، وقد تحدثت كثيرا مع الحليمي في الأمر، وهو صديق أنا شديد الاعتزاز بصداقته. كما تحدثت في أمر استوزاره مع أندري أزولاي وكذلك مع عبد الهادي بوطالب. وفعلا اقترحه الحليمي ليصبح كاتبا للدولة في الاقتصاد الاجتماعي والصناعة التقليدية، لكن حدثت خلافات بينهما، أعتقد أن الحليمي هو الأقدر على شرحها. المهم أن بنعتيق انتقل بعد ذلك كما نعرف إلى كتابة الدولة في التجارة الخارجية. ولا شك أنني كنت سعيدا على المستوى الشخصي بدخوله الوزارة. نعود إلى «الجمهور». هل كانت تلك «الأجواء المشحونة»، كما قلت، هي التي قادت إلى إقالتك من رئاسة التحرير؟ - كانت هناك بعض الإشارات الأخرى، من ذلك صدور صحيفة رياضية أسبوعية باسم «الجمهور الرياضي». كما أُبلغت أن هناك صحيفة نسائية شهرية أيضا ستصدر من الشركة. وأبلغني بذلك رشيد بن عتيق، شقيق عبد الكريم، وكان تعليقي «الله يوفقكم». لم أكن أعرف حتى من هم محررو الصحيفة الرياضية. لكن لماذا لم تتصل بالشركاء لاستفسارهم في هذه القضية؟ - اتصلت، لكن لاحظت أن اتصالاتي أضحت غير مرغوب فيها. لذلك التزمت الصمت وأيقنت أن الرياح الهوجاء ستبدأ هبوبها مرة أخرى. وماذا كان موقف عبد الكريم بنعتيق في تلك الفترة؟ - في الواقع، لم أعرف حتى اليوم لماذا انقلبت الأمور بتلك الطريقة. دعني أقول لك شيئا في هذا الجانب. عندما أشعر أن شخصا، لأي سبب من الأسباب، لا يرغب في الحديث معي، وهي للأسف ظاهرة متفشية في مجتمعاتنا، ألتزم الصمت. وفي هذا الصدد، وكما هو مسجل في أوراقي، أجريت آخر مكالمة هاتفية مع عبد الكريم بنعتيق مساء يوم الخميس 30 مايو 2002، لكنه لم يرد علي، ثم اتصل بي صباح السبت أول يونيو فلم أرد على المكالمة لأنني كنت نائما. وكان يفترض أن نلتقي مساء الأربعاء 12 يونيو، لكني تلقيت اتصالا يفيد أنه مشغول مع وفد عراقي زائر. في ذلك اليوم، وفي حدود السابعة والنصف مساء، أخبرت بأنه تقرر الاستغناء عني، مع وعد أن أستلم في اليوم التالي خطابا رسميا يوضح أسباب القرار. وما الذي فعلته بعد أن أخبرت بقرار الاستغناء عنك؟ - ذهبت، في اليوم الموالي، في الوقت المعتاد إلى مكاتب الصحيفة، أي في التاسعة صباحا، وتلقيت رسالة عبر الطرق الإدارية، تقول حرفيا «يشرفني أن أوجه عنايتكم إلى أنه صدر قرار بالاستغناء عن خدماتكم كرئيس للتحرير بجريدة الجمهور من يومه 13 /6/ 2002. وتفضلوا بقبول تحياتنا». والتوقيع «جمهور ميديا». استلمت مع هذه الرسالة شيكا بمبلغ 18456 درهما، أي ما يعادل راتب 12 يوما. وماذا حدث بعد ذلك؟ - لاحظت أن أشخاصا غرباء عن الصحيفة جاؤوا إلى المقر، ربما تحسبا لأي طارئ، وفي ظنهم أنه ربما يتوقف العمل أو أي شيء من هذا القبيل. حددوا لي مهلة ساعة زمن أجمع فيها أوراقي وأجتمع بالمحررين لتوديعهم. وبالفعل، اجتمعت معهم وأبلغتهم بأنه تقرر الاستغناء عني، وطلبت منهم مواصلة عملهم كالمعتاد، وقلت لهم «إنني تعرضت لعملية غدر»، ولم أزد كلمة على ذلك. كنت أشعر في دواخلي بأنني تعرضت للإهانة. وماذا كان رد فعل المحررين عندما أخبرتهم بقرار الاستغناء عنك؟ كان جوا كئيبا وحزينا. أصيب المحررون بحالة وجوم وذهول شديدين، لأن الأمر كان مباغتا ولم تسبقه إرهاصات، وعلى أية حال جميعهم يمارسون المهنة ويمكنهم أن يؤكدوا لك اننى أنقل الوقائع كما حدثت. كنت خلال الفترة التي بقيت فيها أجمع أوراقي ودخول القاعة التي تعودنا أن نعقد فيها اجتماعات التحرير قد استعدت رباطة جأشي، وعاد إلي الهدوء الذي عادة ما أشعر به في مثل هذه المواقف. تحدث بعض المحررين حديثا عاطفياً حارا، وأتذكر أن خديجة العامودي عجزت عن التحكم في دموعها وراحت تبكي بحرقة شديدة، وتأثر آخرون بذلك وقفزت دموع الى مآقيهم، بيد أني طلبت من الجميع استعادة هدوئهم وأن يواصلوا عملهم، وألا يتخذوا أي خطوة غير مسؤولة، خاصة أن بعضهم اقترح استقالة جماعية. قلت لهم إن التحدي الحقيقي هو أن تواصلوا عملكم، ثم غادرت المبنى. وماذا فعلت بعد ذلك؟ - مشيت راجلا من مقر الصحيفة في حي حسان بالرباط حتى زنقة الإسكندرية حيث يوجد مكتب المحامي الصديق الأستاذ أحمد بن جلون. ولحسن الحظ أني وجدته هناك. شرحت له ما حدث فتأسف كثيرا، وطلبت منه أن يكتب رسالة تنازل قانونية لباقي الشركاء عن نسبة 10 في المائة، التي كانت باسمي في شركة «جمهور ميديا»، على أساس أن أبيع تلك النسبة بدرهم رمزي. أتذكر أنه سألني إذا ما كنت سأرفع دعوى قضائية، فكان جوابي «يا سي أحمد، لا أريد أن أقف في يوم من الأيام أمام أي محكمة، سواء كنت ظالما أو مظلوما. هذه مسالة مبدأ»، فوعدني بتكملة إجراءات التنازل. ذهبت إلى البنك وسحبت الشيك الذي سلم إلي. رحت أتمشى في شارع محمد الخامس، وطرأت لي فكرة هذا الكتاب، أي كتابا يشرح بالتفاصيل مسيرتي الصحافية. في البداية قررت أن يكون عنوان الكتاب «من يجرؤ على الكلام»، وهو عنوان مقتبس من كتاب أمريكي، لكني ارتأيت من بعد أن يكون الاسم «صحافة تأكل أبناءها». بعد ذلك ذهبت إلى أبنائي في حي «بلاس بتري»، وأبلغتهم بالخبر. نزل عليهم الأمر كالصاعقة، فعانقوني جميعا في لحظة عاطفية جياشة. قلت لهم: «أعدكم بشيء. سأبحث فورا عن عمل وسأقاتل حتى لو كان ظهري على الحائط حتى تكملوا دراستكم جميعا». وأبلغتهم أن لدي دعوة لحضور مهرجان «كناوة» في الصويرة، وسأذهب إلى هناك للترويح عن نفسي، وتركت لهم 15000 درهم من المبلغ الذي سحبته، وسافرت بالفعل في ذلك اليوم إلى الصويرة مع حاتم البطيوي الذي كان يقضي عطلة في المغرب. كم بقيت في الصويرة؟ - ثلاثة أيام، انتشر خلالها الخبر، ونشرته عدة صحف، من بينها «الشرق الأوسط». لذلك اتصل بي الصديق عثمان ميرغني، وكان وقتها مدير تحرير الصحيفة، وسبق له أن طرح علي فكرة العودة إلى «الشرق الأوسط» في يناير 2002 عندما غادرت «الصباح»، بيد أني أبلغته وقتها بمشروع «الجمهور»، لذلك طويت الفكرة. اتصل بي ميرغني هاتفيا، وشرحت له ما حدث. كان متعاطفا معي إلى أقصى حدود التعاطف، واقترح أن أكتب رسالة إلى عبد الرحمن الراشد، الذي ظل متحمسا لعودتي إلى الصحيفة، أخبره فيها أني جاهز للعمل مراسلا متجولا. في البداية أعمل من المغرب، على أن تكون علاقتي مباشرة مع لندن، وأن أرسل المواد إلى هناك، وأن يرسل لي راتبي من لندن وليس من ميزانية مكتب المغرب. وافقت على الفكرة، وكتبت الرسالة وسلمتها إلى حاتم البطيوي وكان معي في الصويرة، الذي لعب دورا إيجابيا في دفع الأمور. معنى هذا أن حاتم كان له الفضل في عودتك إلى «الشرق الأوسط؟ - حتى أكون دقيقا، حاتم دفع بالأمور إلى الأمام، لكن الأمر كان قد تم التداول بشأنه بين عثمان ميرغني وعبدالرحمن الراشد قبل ذلك، لكن ميرغني طلب مني أن يبقى الأمر طي الكتمان، أقول هذا للحقيقة والتاريخ. المهم أني عدت إلى الرباط. وبعد بضعة أيام فقط بدأت العمل مع «الشرق الأوسط». عدت إلى العمل من جديد مع صحيفة تعرفني وأعرفها، وفي وضعية مريحة هذه المرة، لا أتقيد بدوام، وأكتب في أي موضوع أريد; وأسافر إلى أي جهة دون استئذان أحد، وفعلا سافرت خلال تلك الفترة إلى ليبيا ومصر وجبل طارق، وكنت أخطط للعودة إلى تغطية المناطق الساخنة وبؤر التوتر في القارة الإفريقية. ألم تلتق بالشركاء في «الجمهور» فيما بعد؟ - بالنسبة للأخ وهبي، التقينا بعد أيام من عودتي في «فندق أومليل» بأكدال، ولم نتطرق مطلقا إلى ما حدث، وبقيت علاقتنا مستمرة عادية، علاقة صداقة متينة حتى يومنا هذا. حاولت الاتصال هاتفيا بناصر السنتيسي لأشكره على الفترة التي عملنا فيها سويا، لكنه كان لا يرد على مكالماتي، ولم نلتق بعد تلك الفترة إلا بعد سنوات، وكان ذلك في أبريل الماضي حين لبينا دعوة عشاء في منزل عبد اللطيف وهبي، وكنا ضمن مدعوين آخرين. وما هو آخر لقاء بينك وبين عبد الكريم بنعتيق؟ لم ألتق به حتى اليوم، وآخر مكالمة بيننا، كما أسلفت، كانت في 29 ماي 2002، أي قبل ما يزيد عن ثمانd سنوات، لكن بعد عودتي من واشنطن إلى مكتب «الشرق الأوسط» في المغرب، طلبت من زملائي في المكتب أن يتصلوا عندما يكون هناك ما يستدعي الاتصال به، بصفته مسؤولا حزبيا. وهذا ما حدث. ألم يتصل هو بك؟ - لا. ومن جانبي لم أحاول. كانت الصفحة قد طويت، لكن لم أذكره بسوء قط. كانت بيننا صداقة عميقة، ولست من هؤلاء الذين ينقلون العلاقات الإنسانية من خانة «الود» إلى خانة «العداء». أقول إن الصداقة مثل آنية الخزف تبدو جميلة جدا حين توضع في أي مكان. لكن عندما تسقط وتتكسر وتتبعثر إلى شظايا، يستحيل إعادتها إلى حالها السابق، وهكذا لا يبقى من حل سوى جمع الشظايا ورميها في سلة النسيان. كيف سارت الأمور مع «الشرق الأوسط» بعد عودتك؟ - ممتازة جدا. وكان حاتم البطيوي يعتني بالمواد التي أرسلها. وربما أثار له ذلك حساسيات مع الزملاء في مكتب المغرب. من كان المسؤول عن المكتب آنذاك؟ - كان مسؤول التحرير هو الأخ علي أنوزلا، في حين تولت الإدارة كاتبة كنت عينتها قبل خروجي من الصحيفة عام 1996 لتنظيم وتنظيف الأرشيف، ثم أصبحت ترقن مواد المحررين في وقت لاحق. بصراحة كنت أتفهم تلك الحساسية. واعتبرتها أمرا عاديا. نحن الصحافيين نضن كثيرا بصلاحياتنا. في تلك الفترة أنجزت مواد مهمة، على حد تقديري، منها على سبيل المثال استطلاعات من مناطق الرشيدية وأرفود وأكادير، وحوارات مع بعض الوزراء والقادة السياسيين، وتغطية تفجيرات الدارالبيضاء الإرهابية في 16 ماي 2003. لماذا إذن تركت «الشرق الأوسط» من جديد عام 2003؟ - في تلك السنة، بدأ عبد الرحمن الراشد يستعد لترك موقعه في «الشرق الأوسط»، حيث سيصبح بعد ذلك مديرا لقناة العربية، وبالتالي كان هناك أشبه ما يمكن أن نطلق عليه فترة بياض أو لنقل فترة انتقالية على وجه الدقة. وبما أن قرار عودتي إلى الصحيفة اتخذه الراشد شخصيا، فقد وجدت أن اقتراح «المراسل المتجول» لن يرى النور. كما أن تحويل راتبي من لندن عرف بعض التعثر. لذلك شرحت الأمر لكل من عبد الرحمن الراشد وعثمان ميرغني. قلت لهما إنني قررت الانسحاب بهدوء، خاصة أن عملي من المغرب أصبح يثير حساسية متزايدة من طرف الزملاء في مكتب المغرب، وشكرتهم على مبادرتهما، وكتبت رسالة استقالة بهذا المعنى، وعدت إلى البطالة من جديد.