ورد في دواوين السنة الشريفة حديث عظيم في وقوع الافتراق في الأمة وتشعبها إلى مذاهب وطوائف، وأنه سيقع ذلك منها كما وقع في الأمم السالفة، خاصة اليهود والنصارى. ولا يمكن لأي حديث عن وحدة الأمة أو السعي إلى التقريب بين فرقها أن يتجاهل هذا الحديث خطير الشأن.. فيُحتاج أولا إلى معرفة درجته، إذ لو كان ضعيفا سقط الاحتجاج به، وإذا صحّ -على منهج الحديث ووفق قواعده- لزمنا أن نفهمه ونفقه تأويله، حتى نعرف هل الحديث يفيد اليأس من جمع كلمة الأمة، وأن العمل لذلك لا طائل من ورائه، أم إن الفُرقة واقعة، ليس لها دافع، لكن يبقى -مع ذلك- مجال للنظر في الحدّ من آثارها السيئة على الأمة، كما يبقى مجال للعمل من أجل التقريب بين طوائفها. تخريج الحديث جاء الحديث بروايات مختلفة، بعضها محفوظ مشهور، وبعضها شاذ. فتوجد رواية فيها ذكر الافتراق فقط. عن أبي هريرة: سمعت رسول الله (ص) يقول: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). وهذا اللفظ أخرجه أبو داود في سننه. وتوجد رواية بزيادة «كلها في النار». عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه قال: (إن بني إسرائيل قد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأنتم تفترقون على مثلها، كلها في النار إلا فرقة). وهذه الرواية أخرجها أحمد. ثم في بعض الأخبار التي نصت على هلاك الفرق الأخرى في النار: زيادة أخرى تبين الفرقة الناجية. وهي أربع روايات: الأولى، الفرقة الناجية: ما كان عليه النبي (ص) وأصحابه.. وهذه الرواية رواها الحاكم وابن ماجه. والثانية، الفرقة الناجية هي الجماعة.. رواها أحمد في المسند. والثالثة، الفرقة الناجية هي الإسلام وجماعتهم.. عند الحاكم والطبراني. والرابعة، الفرقة الناجية هي السواد الأعظم. من رواية ابن أبي شيبة والبيهقي.. أما الروايات الأولى التي فيها إما ذكر الافتراق فقط أو ذكره مع ذكر النار، ففيها خلاف بين أهل الحديث، فبعضهم يضعفها لضعف أكثر رواتها، ولم يروا أن كثرة الطرق ترفع الحديث إلى مرتبة الصحة. والأكثر على أنها صحيحة. أعني أن أصلها، أو الجامع المشترك بينها، صحيح.. وذلك لكثرة رواتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم ما بين صدوق وثقة. ومن العلماء، وهم كثر، من صحّح الحديث بزيادة: كلهم في النار، معتبرا ذلك من باب زيادة الثقة. وقواعد الحديث أن هذه الزيادة مقبولة إذا لم تكن فيها مخالفة للروايات الأخرى. وحديثنا من هذا الباب. قال ابن تيمية: «الحديث صحيح مشهور في السنن والأسانيد». بل ادعى فيه المحدث المغربي أحمد بن الصديق الغماري التواتر. في أقسام الفرق أكثر العلماء الذين أخذوا بالحديث راموا تعيين الفرقة الناجية، واضطروا قبل ذلك إلى محاولة إحصاء الفرق المنتمية إلى حضارة الإسلام. لكن أهل العلم في مسألة عدد الفرق المشار إليها في الحديث على رأيين: منهم من يقول: المقصود بالسبعين فما فوقها الكناية عن الكثرة، أي أن الأمة ستفترق كثيرا وتظهر فيها فرق كثيرة جدا، لأن السبعين في كلام العرب للمبالغة. وليس المقصود بالعدد أن الأمة ستفترق على هذا العدد بالضبط. والأكثرون قالوا: إن العدد في الحديث مقصود، وهو على الحقيقة. قال ابن تيمية: «أما تعيين الفرق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة أهل المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد.. وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة». أما عبد القاهر فقد قسم الفرق إلى تسع مجموعات: 1 - الروافض، وتندرج تحتها أربع فرق: الزيدية، وهي ثلاث فرق. والإمامية، وهي خمس عشرة فرقة. والكيسانية فرقتان. فيكون المجموع عشرون فرقة. أما الغلاة فما هم من فرق الإسلام. 2 - الخوارج: وهم سبع فرق. 3 - القدرية والمعتزلة، وهم كذلك عشرون فرقة. 4 - المرجئة: أصنافها ثلاثة، لكنها تتفرع إلى عشر فرق. 5 - النجارية ثلاث فرق. 6 - الكرامية. 7 - البكرية. 8 - الضرارية. 9 - الجهمية. ويبدو أن الشهرستاني من أفضل من حاول تقسيم الفرق والكلام في أنواعها وأصنافها، وقدم لذلك بفكرة منهجية جعلها الميزان والمقياس في ترتيب المذاهب وتصنيفها، وهي أن أصول أسباب الخلاف أربع قواعد، وتحت كل قاعدة مسائل تفصيلية: القاعدة الأولى: الصفات والتوحيد.. الثانية: القدر والعدل.. الثالثة: الوعد والوعيد، وأمور الإيمان والكفر.. الرابعة: السمع والعقل، والتحسين والتقبيح، والإمامة.. ثم قال: «فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد، عددنا مقالته مذهبا وجماعته فرقة. وإن وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا وجماعته فرقة، بل نجعله مندرجا تحت واحد ممن وافق سواها مقالته..»، لذلك تنحصر أصول الفرق في أربعة، وهي: القدرية، والصفاتية، والخوارج، والشيعة. قال: «ثم يتركب بعضها مع بعض، وتتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة». أما القاضي الإيجي فيرى أن أصول البدع ثمانية: 1 - المعتزلة، وهم عشرون فرقة. 2 - والشيعة، اثنتان وعشرون فرقة. 3 - والخوارج، سبع فرق. 4 - والمرجئة: خمس فرق. 5 - والنجارية، وهم يوافقون أهل السنة في خلق الأفعال، ويوافقون المعتزلة في حدوث الكلام ونفي الصفات، وهم ثلاث فرق. 6 - والجبرية فرقة واحدة. 7 - والمشبهة فرقة. 8 - والفرقة الناجية هي الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة. في تعيين الفرقة الناجية إن كل فرقة تدعي أنها الناجية وغيرها هالك، يقول محمد عبده: «كل يبرهن على أنه الفرقة الناجية الواقفة على ما كان عليه النبي وأصحابه، وكل طائفة منهم متى رأت من النصوص ما يخالف ما اعتقدت، أخذت في تأويله وإرجاعه إلى بقية النصوص التي تشهد لها. فكل برهن على أنه الفرقة الناجية المذكورة في الحديث، وكل مطمئن بما لديه، وينادي نداء المحق لما هو عليه.» ومع ذلك، فلا مندوحة لنا عن الاطلاع على بعض آراء العلماء في تعيين الفرقة الناجية. وهو بحث مشروع لأن الصحابة سألوا عنها النبي (ص)، وأجابهم بما جاء في الروايات من أنها ما عليه وأصحابه، أو الجماعة، أو السواد الأعظم.. ونحو ذلك. فمن المشروع، إذن، أن نتساءل عن الطائفة التي تحقق في نفسها هذه الصفات: إما تحقيقا كليا، أو أكثريا. ولعلمائنا -من أهل السنة والجماعة- رأيان في الموضوع: الأول يمنع تعيين الفرقة الناجية، والشاطبي من أكبر أصحاب هذا الرأي، فقد اعتبر أنه يُفهم من الشريعة أنها تشير إلى أوصاف أهل البدع من غير تصريح ليحذر من البدعة وليبقى الرجاء في رجوع أهلها عنها. وإنما ورد التعيين في النادر، وهم الخوارج. وفي عدم التعيين حكمة أخرى، وهي الستر على الأمة. قال شيخ المقاصد في الإسلام: «فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة، لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى..». يتبع...