تصريحات وأرقام تنبئ بتنامي ظاهرة الانتحار في البلد، ترى ما الذي يدفع بالمرء إلى إعلان انهزامه وجها لوجه مع الحياة بقتل نفسه، ولمَ يهتز البدن والروح كلما ذكر الانتحار؟.. هناك من الناس من يعيشون في يأس دائم، غارقين في الحزن، يجرون أذيال الخيبة.. سماء يومهم ملبدة دوما بالغيوم.. لا فرحة ولا بسمة ولا حلم، ينازعون وهم أحياء، يتحركون وسط الناس كأنهم يمشون في جنازة، لا لذة لهم سوى المرارة.. يصارعون ظلم الزمن وظلم العباد وظلم الفقر والحاجة. لم يعرفوا يوما طمأنينة النفس، يحاربون عزلا إلى أن يقرروا الانسحاب من الحياة رغبة في وضع حد للمعاناة والألم. وهناك آخرون يخافون المستقبل ويئنون من أمراض نفسية تجعلهم في خصام دائم مع أنفسهم، فيختارون راحة الموت على صخب الحياة. وكل منتحر إلا ويواجه اليأس بالهروب، ليست لديه القدرة على الصبر والتحمل، يبدو له وجوده عبثيا دون أهمية.. يتأرجح بين ظل الماضي وألم الحاضر وشبح المستقبل، فيمضي إلى الموت بخطى ثابتة أو مرتعشة.. لست أدري. في الواقع، أصبحنا نعيش في زمن صعب ومعقد تحكمه المادة وتتحكم فيه العولمة ووسائل الاتصال، لم يعد مكان للمشاعر والأحاسيس ونبض القلب ودفء الحضن. انشغل الآباء عن أبنائهم، والأمهات عن بيوتهن، والأزواج عن زوجاتهم، فقدنا الأمان والثقة والتوازن ورحنا نركض يوميا لنُثبت من منا الأقوى في عالم أصبح يحكمه قانون الغاب. وكل من لم تقوَ قدماه على مسايرة سرعة الزمن، تتكالب عليه الأزمات وتتقاذفه الهموم والمصائب إلى أن يسقط خائر القوى.. مريضا مكتئبا، منعزلا أو منتحرا. الانتحار ليس تحريرا للبدن، بل هو هروب من عذاب إلى عذاب أشد وأقسى، فكما العزلة ليست عزاء، الانتحار ليس خلاصا بل نهاية كتاب مبتورة.. تكريم أخير شبيه بالتأبين، بقايا حلم في الفجر.. شجاعة متأخرة لا جدوى منها.. لذلك مهما أوجعك الجرح بشدة، ومهما خذلتك الأيام وخانك الرفاق وطعنك الأعداء، لا يجب أن تعتزل الدنيا والحياة وتختار الفناء بإرادة مشلولة وجبن مرير. يجب أن نتعلم ونُعلم أبناءنا كيف يصبرون ويصمدون وينتظرون ويتحملون ويقاومون، وكيف يضمّدون جراحهم وكيف يشفون من خساراتهم، يجب أن نعلمهم أن الحياة سعادة وشقاء، نجاح وفشل، دموع وبسمات، حب وكره.. أن نعلمهم الحكمة والتعقل والمواجهة وطرح الأسئلة.. وليس سؤال الانتحار إلا كسؤال الموت والروح والنفس والزمن.. تلك الأسرار الغامضة التي لا نملك تفسيرها. ما من أحد يملك الحق في قتل نفس كرمها الله مهما كانت قوة حجته، فحينما تفكر كل لحظة في أن الله معك، تسجد له وترفع يديك إلى السماء ترجو نصره ورحمته وسكينته وعفوه وتوفيقه.. ما من محنة من محن الروح والجسد يمكن أن تهز إيمانك أو تخل توازنك مطلقا.